اقتباس
وحينما يترك العلماء والدعاة الربانيون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتحول الحياة إلي مستنقع آسن: من حكم بغير شرع الله، واقتصاد يقوم على الربا، ومجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة إلا في حالة الإكراه، ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله، وخمور يباح تداولها، ولا يعاقب شاربها إلا على حالة السكر البين في الطريق العام، وحتى...
فإن عامة حديث غير الربانيين أصبح في تحصيل جاه ونصر بلا ثمن وفي تحصيل تأمين النفس بالابتعاد عن القيام بأمر الله حتى وقعوا في شراك إبليس وقد حذر من ذلك ابن القيم رحمه الله فقال: ومن مكايده أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصونها حيث يكون رضى الرب تعالى في إذلالها وابتذالها كجهاد الكفار والمنافقين وأمر الفجار والظلمة بالمعروف ونهيهم عن المنكر فيخيل إليك أن ذلك تعريض لنفسك إلى مواطن الذل وتسليط الأعداء وطعنهم فيك فيزول جاهك فلا يقبل منك بعد ذلك ولا يسمع منك ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها في إعزازها وصيانتها كما يأمرك بالتبذل لذوي الرياسات وإهانة نفسك لهم ويخيل إليك أنك تعزها بهم وترفع قدرها بالذل لهم ويذكرك قول الشاعر:
أهين لهم نفسي لأرفعها بهم *** ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وغلط هذا القائل : فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزه بخلاف المخلوق فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه وهنت عليه (1).
فلابد للحق من أناس يصدعون به ولا يكتمونه فالساكت عن الحق شيطان أخرس
قال ابن القيم رحمه الله: فتارك حقوق الله التي عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي، فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهاً ذكرها شيخنا في تصانيفه ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا والله المستعان وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين وخيارهم المتحزن المتلمظ ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل..
ثم قال.. ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق والله سبحانه لا غالب له فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولاً وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها وجعل له فرجا ومخرجا وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة أو في اثنين منها أو في واحد فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر، وإن نصر نصراً عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكر والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولا، والقيام في الحق وسيلة إليه فهذا لم تضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه...(2).
قال ابن النحاس: خرج البيهقي في الشعب بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لامرئ شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به، فإنه لن يقدم أجله ولم يحرمه رزقاً هو له» قلت: وهذا الحديث فيه الحض على الإقدام والشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يعلم الإنسان يقيناً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقدما أجلا أخره الله، ولن يمنعا رزقاً قدره الله، فلا يلتفت إلي ما يلقيه الشيطان من تخذيله، وقوله: لا تتعرض لهذا يضربوك ويقتلوك، ونحو ذلك، فإن الضرر وإن قل، والنفع وإن جل مقدران، إذ لا يزيدان فتيلاً ولا ينقصان نقيراً(3).
قال الطبري في قوله تعالى: (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)[المائدة: 63]، وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها، وأخرج بسنده عن الضحاك بن مزاحم قال: ما في القرآن آية، أخوف عندي منها: أَنَّا لا ننهى(4).
وحينما يترك العلماء والدعاة الربانيون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتحول الحياة إلي مستنقع آسن: من حكم بغير شرع الله، واقتصاد يقوم على الربا، ومجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة إلا في حالة الإكراه، ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله، وخمور يباح تداولها، ولا يعاقب شاربها إلا على حالة السكر البين في الطريق العام، وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله، وشذوذ، وسب لدين الله ...
يقول أبو حامد الغزالي آخر كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكونهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها وأما الآن فقد قَيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر(5).
فينبغي للرباني أن يكون قوياً شجاعا في الحق لا يخاف في الله لومة لائم متحرراً من أوهام الخوف، وقد كان مما بايع عبادة بن الصامت وأصحابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عليه: «وأنْ نقول أو نقوم بالحق حيث كنا، لا نخاف لومة لائم» (6).
وقد لعب الخوف الوهمي بالكثيرين فأصبحت النفوس تفرح إذا وجدت رجلاً شجاعاً غير هياب أن يقول الحق أو يصدع به، لأنك قلَّما تقع عينك إلا على الجبناء الذين يخاف الواحد منهم من ظِله، ويفرق من كل شيء، ويحسب كل صيحة عليه، وهذا والعياذ بالله من علامات ضعف الإيمان، ونبات النفاق في القلب، فإن الله تعالى قال عن المنافقين: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) [المنافقون:4].
فالكثيرون يضخمون أعداءهم، حتى أصبح الواحد يعيش على خوف، وينام عليه ويصحو عليه، مع أن هؤلاء بشر يضعفون وينسون، ويقصرون، والكثير من هؤلاء مجرد موظفين لا يعنيهم إلاَّ أمر وظائفهم، وليس أمر هؤلاء بغالب أمر الله تعالى، كما قال الله تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ َلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) [يوسف:21].
كما أن الكثيرين يعيشون عقدة المؤامرة، فكل شيء يشاهدونه في حياتهم يعتقدون أن وراءه مؤامرة من أعداء الإسلام، حتى ولو كان الأمر ليس كذلك، والتوسط في الأمور محمود، فأعداء الإسلام يحيكون المؤامرات العظام، ويخططون ويكيدون ولا شك في هذا؛ لكن لا يعني هذا أن كل شيء بأيديهم ومن تحت تصرفهم وأنهم يملكون كل شيء.
فقد كُنا نتوقع مثلاً أن الاتحاد السوفيتي قوةٌ لا تقهر، وأنه باقٍ إلى مئات السنين، فإذا بأمر الله تعالى يطيح به بين عشية وضحاها، ونحن اليوم كثيراً مانتوقع أن أمريكا قوةٌ ضاربة، والذين يتابعون أخبار الاقتصاد اليوم مثلاً، يدركون أن الاقتصاد في أمريكا - بل في أوروبا كلها- يعيش أزمات متلاحقة، وأن من أقل الأسواق استثماراً وانتفاعاً الأسواق الأمريكية التي كانت محط أنظار المستثمرين بالأمس. بل من كان يظن أن حكام العرب على قوتهم وظلمهم وجبروتهم يسقطون واحداً تلو الآخر، فأمر الله غالب، وسنة الله ماضية، وينبغي ألا نقلل ونهون من شأن هؤلاء، كما لا نضخم أمرهم ونعتقد أن وراء كل شيء مؤامرة.
وهذا الخوف الوهمي قد يتعارض مع الشجاعة التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية الرباني و يتعارض أيضاً مع عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر التي ينبغي أن تكون راسخة في قلوب رباني هذه الأمة ، فينبغي أن نُعظِّم أمر الله عز وجل، وأن يعيش الواحد منا لعقيدة ومبدأ ويموت من أجلها، فيكون الله تعالى في قلبه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، ويفقه معنى كونه يقف في الصلاة ويقول: الله أكبر، فإنَّ هذا يعني أن الإنسان يعظم أمر الله ويهون عليه ما سواه.
بل إن التعرض للابتلا والفتن في الدين قد يكون سبباً قوياً من أسباب الاستقامة فإن الضغط على المؤمنين يصلح أن يكون سبباً من أسباب الاستقامة، كما قد يكون في بعض الأحيان سبباً من أسباب الانحراف، فالمؤمن الحق حينما يتعرض للأذى في دينه ويوجه له اللوم والعتاب والسخرية لا يزيده ذلك إلا إيماناً واستعلاءً بالله عز وجل، ويعرف أنه على حق لتعرضه للفتن والضغط والابتلاء، لأن الله تعالى يقول: ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ) [المطففين:29-33] ثم تتغير المعايير في الآخرة: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ) [المطففين:34-35]، والمسلم حينما يعيش حياة الضعط والإيذاء في دينه يعرف الله عز وجل حق المعرفة، ويعرف أنه ما أوذي في دينه إلا لأنه على الحق، ولذلك جعل الله تعالى هذه الفتن تمحيصاً للمؤمنين وتقوية لإيمانهم، ولقد تعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفتنة كبيرة هو وأصحابه رضي الله عنهم حتى يقول صلى الله عليه وسلم متى نصر الله؟! فهذه فتنة لم يحصل لها نظير أبداً في عالم الناس اليوم ولا قبل هذا اليوم، يصل بهم الأذى والفتنة في الدين مع طول مدته إلى درجة أن الرسل أنفسهم يستبطئون نصر الله عز وجل.
إذاً طريق الجنة ليس مفروشاً بالورود والزهور والرياحين، طريق الجنة ليس معبداً وإن كان واضحاً، طريق الجنة فيه فتن، فما على المسلم إلا أن يتحمل من أجل الله عز وجل وفي ذات الله ويثبت لأن من أبرز السمات التي يتحلى بها الرباني ثباته ورباطة جأشه وقدرته على مواجهة الناس، بدون كَلال أو ملل ، فالحق يمكن أن يصل إليه الكثيرون، ولكن الصدع به والثبات عليه والصبر على الأذى لا يصل إليها إلا المصلحون الأفذاذ.
إن عظمة الرباني تتجلى في رعايته لهموم الأمة كبيرها وصغيرها، دينيها ودنيويها، فهو يعيش للأمة يذب عن بيضتها ويحمي حماها، ولا يتعلق قلبه بشكر الناس أو حمدهم، أو ترهب نفسه من غضبهم أو ظلمهم ، يقولها صادقاً: (يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) [ هود: 51].
والمسلم الصادق يجتاز مرحلة الفتن كما اجتازها أسلافه الأوائل - رضي الله عنهم-، الذين عاشوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه و سلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»(7).
فالفتن يجب أن يتحملها المسلم إذا كانت في ذات الله عز وجل، وإن كثيراً من إخواننا في العالم الإسلامي يلاقون هذه الفتن، فمنهم من يصبر ويحتسب، ومنهم من يرجع من منتصف الطريق فيكون من الذين قال الله عز وجل عنهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج:11].
ونماذج السلف من الصحابة والتابعين وعلماء هذه الأمة ودعاتها كثيرة في الصدع بالحق وقوله ما لم يستدعوا بلاءً مع صبرهم على ما يصيبهم من أذى في ذات الله إن أصابهم في ذلك مكروه.
فحين يدلهم الخطب، ويجل الأمر، ويظهر الفساد، ويشيع الظلم في كثير من البلدان حينئذ يخشى الناس على أنفسهم وأولادهم وذويهم، فيضطرون إلي الانزواء بعيداً عن معترك الأحداث، بل ويخضعون لهذا الواقع المظلم، ويستسلمون، له بعد أن ألجمت ألسنتهم تلك الأوضاع، فنجدهم قد رضوا أن يتجرعوا مرارة الصبر، وربما شربوا كئوس الذل والمهانة، لكن الظالم ينسى – حين بغيه وجبروته- تدبير الخالق العزيز الجبار، وأنه له بالمرصاد، فيقيض لتلك الشعوب الذليلة المنكسرة من يخرجها من خنوعها وذلتها، ويبعث فيها روح العزة والكرامة، وذلك حين يضحي العلماء والدعاة بأنفسهم، حينما يقعون تحت سياط الجلادين وسيوف الجبارين وأعواد المشانق لأنهم لا يخافون في الله لومة لائم ليقولوا للناس إن الموت في سبيل الله خير من الموت جبناً وذلاً. ويقيض الله كذلك لأولئك الظلمة من يرهب قلوبهم، ويزلزل كراسيهم بالصدع بكلمة الحق ابتغاء مرضاة الله، بعد أن يتخذوا كل الوسائل المشروعة والمتاحة لذلك، وبعد أن يصر الظالم على ظلمه، ويقف من شرع الله موقف المعارض، ويقف من الدعاة والمصلحين موقف المعادي والمحارب.
إن إحياء الأمة من مواتها، وبعثها من غفوتها ونومها، وإخراجها من عبادة غير الله، وقيادتها إلي ربها وسوقها إليه سوقاً جميلاً، وحمل هذا الدين والسعي به والجهاد في سبيله – إن هذا وغيره هو من أبرز سمات العلماء الربانيين عبر تاريخنا المجيد. ونذكر هنا بعضاً من صور أولئك العلماء الربانيين، لعلها تكون إحياءً للغافلين، ورهبة للظالمين، إذ ضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء كلمة الله، وهذه النماذج هي العزاء لكل مسلم يسوؤه تلك التصرفات الجائرة الظالمة ضد الدين ودعاته.
ولو استرجعنا التاريخ لوجدنا الأمر لا يكاد يختلف، بل يسجل التاريخ تلك الحقيقة الجلية ألا وهي الصراع الدائم بين حزب الرحمن وحزب الشيطان، ولن تموت أمثال هذه الكلمات الصادقة: (ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم...)، فإلي الذين يصدعون بالحق في سبيل نصرة هذا الدين وإلى الذين يلاقون الأذى والعنت ظلماً وعدوانا وإلى الذين يسقطون في سبيل الدفاع عن الإسلام ودعوته ، ليعلموا أنه قد سبقهم أقوام على الطريق نفسه.
الإمام البويطي (8).
العلامة، سيد الفقهاء، يوسف أبو يعقوب بن يحى المصري البويطي.صاحب الشافعي لازمه مدة، وفاق الأقران، وكان إماماً في العلم قدوة في العمل، زاهدا ربانيا، متهجدا، دائم الذكر..
قال الربيع بن سليمان: كان البويطي أبدا يحرك شفتيه بذكر الله، وما أبصرت أحدا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي.
سعى به أصحاب ابن أبي دواد، حتى كتب فيه ابن أبي دواد إلى والي مصر، فامتحنه – أي في محنة خلق القرآن - فلم يجب، وكان الوالي حسن الرأي فيه، فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: إنه يقتدي بي مئة ألف، ولا يدرون المعنى، فأمر به أن يحمل إلى بغداد.
قال الربيع بن سليمان ولقد رأيته على بغل في عنقه غُل، وفي رجليه قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنة وزنها أربعون رطلا، وهو يقول: إنما خلق الله الخلق ب " كن "، فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه - يعني الواثق - ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
توفى – رحمه الله- في قيده مسجونا بالعراق، في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من الهجرة.
الإمام مالك (9).
شيخ الإسلام ، حجة الأمة، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله مالك بن أنس.
عن ابن عيينة قال: مالك عالم أهل الحجاز، وهو حجة زمانه. وكان رجلا مهيبا نبيلا، ليس في مجلسه شئ من المراء، واللغط، ولا رفع صوت، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث، فلا يجيب إلا في الحديث بعد الحديث، وربما أذن لبعضهم يقرأ عليه، وكان له كاتب قد نسخ كتبه، يقال له: حبيب، يقرأ للجماعة، ولا ينظر أحد في كتابه ولا يستفهم، هيبة لمالك، وإجلالا له.
سعي بالإمام مالك إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو ابن عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمرا عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة وكأنما كانت السياط حليا حلي به. وذكر ابن الجوزي في شذور العقود في سنة سبع وأربعين ومائة: وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان.
الإمام نعيم بن حماد (10).
العلامة صاحب التصانيف، كان شديداً في الرد على الجهمية، حُمل إلي العراق في إبان تلك الغمة مع البويطي مقيدين، وكان يقول: من شبه الله بخلقه، فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه، فقد كفر، وليس في ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه.
قال محمد بن سعد: طلب نعيم الحديث كثيرا بالعراق والحجاز، ثم نزل مصر، فلم يزل بها حتى أشخص منها في خلافة أبي إسحاق - يعني المعتصم - فسئل عن القرآن، فأبى أن يجيب فيه بشئ مما أرادوه عليه، فحبس بسامراء، فلم يزل محبوسا بها حتى مات في السجن سنة ثمان وعشرين ومئتين وقيل سنة تسع وعشرين ومئتين. وكان مقيدا محبوسا لامتناعه من القول بخلق القرآن، فجر بأقياده، فألقي في حفرة، ولم يكفن، ولم يصل عليه..
الإمام الخزاعي (11).
أبو عبد الله أحمد بن نصر الخزاعي، من أكابر العلماء العاملين، ومن أهل الديانة والعلم والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلا ونهارا، سرا وجهارا، اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولا سنة ولا قرآن فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
حُمل - رحمه الله - من بغداد إلي سمراء مقيداً، وجلس له الواثق، فقال له: ما تقول في القرآن ؟ قال: كلام الله. قال: أفمخلوق هو؟ قال: كلام الله. قال: فترى ربك يوم القيامة؟ قال: كذا جاءت الرواية. قال: ويحك! يُرى كما يُرى المحدود المتجسم، ويحويه مكان، ويحصره ناظر؟! أنا كفرت بمن هذه صفته. ما تقولون فيه فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال عبد الرحمن بن إسحاق - وكان قاضيا على الجانب الغربي - يا أمير المؤمنين هو حلال الدم، ووافقه فقهاء المعتزلة على ذلك.
فقال الواثق: إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي.
ثم نهض إليه بسيفه فلما انتهى إليه ضربه به على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه في بطنه فسقط صريعا على النطع ميتا.
ولم يزل رأسه منصوبا من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة إحدى وثلاثين ومائتين - إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية - رحمه الله -. وذلك بأمر المتوكل.
قال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله.
وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ (الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [ العنكبوت: 1 - 2 ] قال: فاقشعر جلدي.
ورآه بعضهم في النوم فقال له: ما فعل بك ربك؟ فقال: ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك إلي.
وقد أمر الواثق بتتبع رؤوس أصحابه فأخذ منهم نحوا من تسع وعشرين رجلا فأودعوا في السجون وسموا الظلمة، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد، ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين وهذا ظلم عظيم.
منذر بن سعيد (12).
منذر بن سعيد البلوطي أبو الحكم الأندلسي، بن عبد الله بن عبد الرحمن القرطبي،: قاضى قضاة الأندلس في عصره،. كان فقيها محققا، وخطيبا بليغا مفوها.
كان الخليفة الناصر لدين الله كلفاً بعمارة الأرض وإقامة معالمها ، وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعز السلطان ؛ فأقضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء ، البناء الذي شاع ذكره: استفرغ وسعه في تنميقها، وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها. فانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متوالية؛ وكان منذر بن سعيد يتولى خطبة الجمعة والقضاء, ورأى- خروجاً من تبعة التقصير فيما أوجبه الله على العلماء - أن يلقي على الخليفة الناصر درسا بليغا يحاسبه فيه على إسرافه وإنفاقه في مدينة الزهراء , ورأى أن يكون ذلك على ملأ من الناس في المسجد الجامع بالزهراء فلما كان يوم الجمعة اعتلى المنبر والخليفة الناصر حاضر والمسجد غاضّ بالمصلين وابتدأ خطبته فقرأ قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ*وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، [الشعراء: 128-135]. ثم مضى في ذم الإسراف على البناء بكل كلام جزل وقول شديد, ثم تلا قوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، [ التوبة 109].
وراح يحذر وينذر ويحاسب حتى ادكر من حضر من الناس وخشعوا وأخذ الناصر من ذلك بأوفر نصيب , وقد علم أنه المقصود به فبكى وندم على تفريطه. غير أن الخليفة لم يحتمل صدره لتلك المحاسبة العلنيّة ولشدة ما سمع، فقال شاكيا لولده الحكم: والله لقد تعمّدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري, فأسرف عليّ وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي، ثم استشاط غيظا عليه متذكّراً كلماته وأراد أن يعاقبه لذلك!!.
فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة, وجعل يلزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة.
ولكن لما رأى ولده الحكم تعلق والده بالزهراء والصلاة في مسجدها العظيم. قال له: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة به إذا كرهته؟ ولكن الناصر زجره وانتهره قائلا: أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه وخيره (لا أمّ لك) يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الحق، هذا ما لا يكون, وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه, ولكنه أحرجني فأقسمت, ولوددت أن أجد سبيلا إلى كفارة يميني, بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله, فما أظن أنا نعتاض منه أبدا.
ولما اشتدت الفجوة بين الشيخ منذر بن سعيد والخليفة عبد الرحمن نتيجة محاسبة المنذر له في إسرافه على بناء الزهراء, أراد ولده الحكم أن يزيل ما بينهما فاعتذر له عند الخليفة.
فقال: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح وما أراد إلا خيراً, لو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك (ويريد بالبنية هنا القبة التي بناها الناصر بالزهراء واتخذ قرامدها من فضة وبعضها من مغش بالذهب, وجعل سقفها نوعين صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة يستلب الأبصار شعاعها).
فلما قال له ولده ذلك أمر ففرشت بفرش الديباج وجلس فيها لأهل دولته. ثم قال لقرابته وزرائه: أرأيتم أم سمعتم ملكا كان قبلي صنع مثل ما صنعت؟. فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين, وإنك الأوحد في شأنك.
فبينما هم على ذلك, إذ دخل منذر بن سعيد ناكساً رأسه, فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته, فأقبلت دموع المنذر تنحدر على لحيته لسوء ما رأى. وقال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ, ولا أن تمكنه من قبلك هذا التمكن مع ما آتاك الله وفضلك به على المسلمين حتى ينزلك منازل الكافرين. فاقشعر الخليفة من قوله وقال له: انظر ما تقول كيف أنزلني الله منازلهم؟. فقال: نعم, أليس الله تعالى يقول: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [ الزخرف: 33]. فوجم الخليفة واطرق مليا, و دموعه تنحدر على لحيته ثم أقبل على المنذر وقال له: جزاك الله خيرا وعن الدين خيرا, فالذي قلت هو الحق. ثم قام من مجلسه, وأمر بنقض سقف القبة وأعادها ترابا على صفة غيرها.
العز بن عبد السلام(13).
شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة العلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه .. لم يَر مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثلَه، علما وورعا وقياماً في الحق، وشجاعة وقوة جنان، وسلاطة لسان.
قال عنه ابن حجر: كان عالي الهمة، بعيد الغور في فهم العلوم.. وكان قائماً بالأمر بالمعروف، لا يخاف في ذلك كبيراً ولا صغيراً(14). وذكر اليافعي أن الإمام العز كان جبل إيمان، لا يخشى سلطاناً، ولا يهاب سطوة الملك، بل يعمل بما أمر الله ورسوله به، وما يقتضيه الشرع المطهر(15).
يتبع
الهوامش:
----
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/120).
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين (430، 431).
(3) تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لابن النحاس ص (107) والحديث الذي أورده حسنه العراقي في تخريج الإحياء (3/309).
(4) تفسير الطبري تحقيق أحمد شاكر (10/449).
(5) إحياء علوم الدين للغزالي بتخريج العراقي (3/398).
(6) سنن النسائي وصححه الألباني رقم (4151).
(7) صحيح البخاري تعليق د. مصطفى ديب البغا رقم (6544).
(8) سير أعلام النبلاء للذهبي (12/58).
(9) وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 137).
(10) سير أعلام النبلاء (10/610).
(11) البداية والنهاية لابن كثير (10/334، 336).
(12) تاريخ قضاة الأندلس لعبد الله بن الحسن النباهي المالقي (1/68- 72)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ .3)، والسير (16/177).
(13) إغاثة اللهفان (1/120).
(14) رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر (2/351 ).
(15) مرآة الجنان لليافعي (4/155).
التعليقات