اقتباس
نعم، إذا جرت الدماء في عروقك غضبًا، أو جرت الدموع على خديك حزنًا، أو اهتز منك القلب فزعًا، أو اتقد الشرر في عينيك حماسة... فلا تضيع تلك الانفعالات فإنها تُخرِج الكلمات من بين شفتيك مفعمات بالصدق والتأثير، فتكلم بمقتضى ما سبَّب انفعالك، واطرق حديدك الساخن، بشرط: أن يكون كلامك منضبطًا بضوابط الحكمة والموعظة الحسنة...
يكون معدن الحديد في أتم الاستعداد للطرق والسحب والتشكيل ما دام ساخنًا، ويصعب ذلك جدًا إذا ما برد، فإذا أردت تشكيل الحديد فانتظر حتى يأتي ما يجعله ساخنًا، فإن سخن فسارع إلى سحبه وطرقه وتشكيله قبل أن يبرد، فإنه سرعان ما يبرد.
وإن طباع البشر وقناعاتهم وما استقر في قلوبهم منذ سنين لهو أشبه شيء بالحديد الصلب القاسي الذي يصعب تشكيله أو تعديله، اللهم إلا إذا طرئ على هذه الطباع حادثة أو زلزلة أو واقعة جعلتها تلين وتخضع وتخشع، فعندها لربما استجابت تلك الطباع المتأصلة للتغيير والتهذيب والتعديل.
وفي ثنايا الآيات القرآنية كثير من الإشارات إلى استراتيجية "طرق الحديد الساخن"، بل إنني أدعي أنها كانت استراتيجية متبعة لجميع الرسل والأنبياء، ففي قصة نبي الله يوسف -عليه السلام- لما انبهر الملك بتفسير يوسف للرؤيا، وبشخصيته حين قابله، وقال له: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)[يوسف: 54]، حينها استخدم يوسف هذه الاستراتيجية وطرق الحديد الساخن فطلب الوزارة؛ لا لهوى نفسه، بل ليُمكِّن لدعوة التوحيد في الأرض، فقال للملك: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف: 55].
ومرة أخرى يستخدم نبي الله يوسف -عليه السلام- نفس الأمر؛ "طرق الحديد الساخن"، وذلك حين رأى صاحباه في السجن رؤيا شغلت بالهما وزلزلت كيانهما وملكت عليهما لبهما، وطلبا منه تفسيرها وأرهفا له السمع والفؤاد والتركيز، فأراد يوسف -عليه السلام- أن "يطرق الحديد الساخن"، لكنه لو بدأهما بتفسير رؤياهما لبرد ذلك الحديد، ولذلك فقد استغل تشوقهما وإرهافهما السمع فدعاهما إلى توحيد الله لأنه أحرى أن يقتنعا، فقال لهما: (يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)[يوسف: 39 - 40]...
وفي قصة أصحاب الأخدود، حين حار الملك كيف يقتل الفتى الذي ينجو من الموت في كل مرة ويعود إليه برجليه، اشترط الفتى على الملك ليتمكن من قتله أن يرميه بسهم رافعًا صوته بقولة: "بسم الله رب الغلام"، ففي صحيح مسلم: "فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام..."([1]).
فقد أهمَّ الملك أمر الغلام حتى صار شوكة في حلقه، وحار كيف يقتله ليتخلص -واهمًا- من دعوته، وصار كل تفكيره مركزًا على شيء واحد هو: اكتشاف طريقة لقتله، وعند ذلك طرق الغلام الحديد الساخن؛ فقدَّم للملك طريقة تمكنه من قتله مشترطًا ذلك الشرط الذي آمن الناس بسببه.
وفي نفس القصة، وقبل ذلك بقليل، طلب جليس الملك -وكان أعمى- من الغلام أن يشفيه، وقد جاءه يحدوه الأمل أن يبصر بعينيه ويرى بهما الدنيا التي حرم منها، ويسيطر ذلك على كيانه، وعندها طرق الغلام الذكي الحديد الساخن؛ وعلَّمه أن الشافي هو الله الإله الحق، ففي نفس الحديث السابق: "وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع، إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله..."([2])، فقد أتى جليسُ الملك يطلب إبصار عينيه فقط، فأبصر قلبه قبل أن تبصر عيناه.
ولعلك تسأل -أيها الخطيب اللبيب-: وكيف أطرق الحديد الساخن في أمر دعوتي وخطابتي؟ وأجيبك: لذلك طرق عديدة منها ما يلي:
أولًا: استثمار الحوادث المفاجئة، والحوادث الغير تقليدية، والحوادث المتكررة ذات الوقع:
تسير الأحداث غالبًا بشكل رتيب متكرر نمطي ممل يبعث على الجمود والهمود والخمود، لكن قد يتخللها في بعض الأحيان أحداث فجائية غير متوقعة أو أحداث غريبة غير عادية، والخطيب الحق هو من يحسن استثمار هذه الحوادث والوقائع فـــ"يطرق الحديد الساخن"، ولنر الآن كيف كان قدوة الخطباء والدعاة -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك، لنتعلم ونقتدي.
ها هو -صلى الله عليه وسلم- في بستان من البساتين ومعه أصحابه، ويخرج بهم -صلى الله عليه وسلم- يمشون، فيمر على قبر، فإذا بميتين داخل ذلك القبر يعذبان، إنه لشيء جديد على الصحابة، قد سمعوا عنه سماعًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنهم لم يعاينوه، وهم الآن يعايشونه، وأتخيل أن قلوبهم فَرَقَت وخفقت وخشعت وتزلزلت ولانت، فأراد -صلى الله عليه وسلم- استغلال تلك الحالة وطرق الحديد وهو ساخن، فربط ذلك العذاب البرزخي للرجلين بذنبين يستصغرهما كثير من الناس؛ مشيٌ بنميمة وعدم استتار من بول، ليتحقق في الأذهان في تلك اللحظة العلاقة بين الذنوب وعذاب القبر، وليقول العقلاء: هذا العذاب بسبب ذنبين "صغيرين" فما يكون حال من يرتكب الكبائر والفواحش؟!
يروي ابن عباس فيقول: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال: "يعذبان، وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير، كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة" ثم دعا بجريدة فكسرها بكسرتين أو ثنتين، فجعل كسرة في قبر هذا، وكسرة في قبر هذا، فقال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا([3]).
وقد لفت نظرَ الصحابة مشهدُ امرأة أُسرت في السبي، تبحث وتبتغي، فإذا وجدت صبيًا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، ولا شك أن هذا المشهد قد أثَّر في قلوب الصحابة حتى تعجبوا من شفقتها ورحمتها، ولا أشك -كذلك- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لاحظ ذلك فطرق الحديد الساخن لينتقل بهم من رحمة المرأة إلى عظيم الرحمة الربانية قائلًا لهم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟" قلنا: لا، والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها"([4]).
ولخطيب المسجد أن يستثمر كل حدث مفزع فيطرق عنده الحديد الساخن، فإن مات رجل من أهل المسجد، فلا شك أنهم يتأثرون بموته، وطرق الحديد الساخن هنا بأن تشعرهم بقرب الموت، وأن من ظنه بعيدًا فهو غافل، فحدثهم عن موت الفجاءة وعن "أمنيات الموتى"؛ تُرى لو تكلم هذا الميت فما عساه أن يقول؟! تُرى لو تمنى فما عساه أن يتمنى؟! لا شك أنه سيتمنى أن لو كان استزاد من العمل الصالح، فقل لهم: إن هذه الأمنية متاحة لكم فاغتنموها واستغلوها، ووثق كلامك بحديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على قبر دفن حديثًا فقال: "ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم"([5]).
ومن الحوادث المتكررة ذات الوقع: الخسوف والكسوف، وطرق الحديد الساخن هنا بأن تذكرهم بالآخرة وبقيام القيامة، وأن خسوف القمر وكسوف الشمس لهما نموذجان مصغران لما سيحدث يوم القيامة: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ...)[التكوير: 1-6]، فيتذكرون تلك بهذه.
ومنها: نزول المطر فهو يذكِّر باتصال السماء بالأرض وبتنزل النعم والرحمات والبركات، ومنها: يوم حر شديد أو يوم صقيع فذكِّرهم -أيها الخطيب- بنعيم الجنة التي: (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)[الإنسان: 13]...
ثانيًا: انتهاز لحظة الانبهار:
لكل إنسان ما يبهره ويأخذ بلبه ويأسر عقله ويسبي فؤاده، وإن الإنسان ضعيف أمام "ما" أو: "من" ينبهر به ويخلب لبه، وإنك -أيها الخطيب اللبيب- إن أحسنت الطرق على هذه اللحظات؛ لحظات الانبهار فقد أصبت هدفك وحصلت غرضك.
يحكي لنا البراء -رضي الله عنه- كيف استثمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لحظات انبهار الصحابة فوجَّهها الوجهة المرجوة والمنشودة قائلًا: أهديت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حلة حرير، فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها، فقال: "أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة، خير منها وألين"([6])، فاستغل -صلى الله عليه وسلم- انبهارهم بتلك الحلة ليقرب إليهم صفة متاع الجنة، وأيضًا فإن الانبهار الشديد بشيء من متاع الدنيا أمر لا تحمد عقباه، فنقل -صلى الله عليه وسلم- انبهارهم ذلك من الدنيا إلى الآخرة.
ولقد انبهر بيوسف -عليه السلام- صاحباه في السجن، حتى لقد قالا له: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 36]، "وكان يوسف -عليه السلام- قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة وصدق الحديث، وحسن السمت وكثرة العبادة ومعرفة التعبير، والإحسان إلى أهل السجن وعيادة مرضاهم والقيام بحقوقهم، ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن، تآلفا به وأحباه حبًا شديدًا"([7])، وذلك ما دعاهما أن يطلبا منه تأويل رؤياهما، وقد ذكر الله -عز وجل- أهم هذه الأسباب صريحًا على لسان يوسف، فقال -سبحانه-: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا)[يوسف: 37]، ولقد استغل يوسف انبهارهما به ورصيده عندهما في دعوتهما إلى الله -تعالى-، وهذا أشهر من أن يعاد.
فعلى الخطيب أن يتحين لحظات انبهار جمهوره، ويستقصي أهم ما هم به منبهرون في هذه الأيام من شخصية عامة أو قارئ حسن الصوت أو متفوق في مجال معين أو حتى تقنية مستجدة تدهشهم... فيطرق الحديد الساخن ويستثمر هذا الانبهار فيوجهه الوجهة الصحيحة المشروعة، فإن كان الذي ينبهر به الناس اختراع جديد فلينظر أعظم منه في نعيم الجنة فيحدثهم عنه، وإن كان طفلًا متفوقًا في حفظ القرآن فليجعل منه قدوة للناس ويقول: "أين أولادنا منه؟!"، وإن كان حديث الناس في هذه الأيام هو شخص متفوق فليستقرئ الخطيب أسباب تفوقه من أول الصلة بالله وصولًا إلى الأخذ بالأسباب... فإن فعلت ذلك -أخي الخطيب- فقد نجحت في طرق الحديد الساخن.
ثالثًا: استغلال التقلبات الاقتصادية والسياسية:
وهذا من أكثر ما "يزيد الحديد سخونة"، فإن تلك التقلبات بأنواعها تكون محور حديث العالم كله، وتدخل كل بيت وتؤثر فيه بل وتزلزله، لذا كان الطرق عليها أشد تأثيرًا ونجاحًا، بشرط: حسن التناول والتأصيل الشرعي للتناول، ولنأخذ أمثلة لذلك:
المثال الأول: غلاء الأسعار: وذلك مما أصاب دولًا عديدة وترك بصمة وأثرًا على جميع الشعوب والبيوت، ويكون تناول الخطيب لغلاء الأسعار أولًا: على أن الغلاء والرخاء كلاهما بيد الله وحده لا شريك له، وثانيًا: بالتركيز على أنه بسبب الذنوب والمعاصي، وثالثًا: أن من أهم أسباب إزاحة الغلاء: الرجوع إلى الله -تعالى- والالتزام بشرعه، ثم الدعاء برفعه، وتفعيل التكافل الإسلامي، وإصلاح ما بين العبد وربه ليصلح الله ما بين العبد وبين ملوك الأرض... وأنت في حديثك هذا -أيها الخطيب- ستنفذ إلى قلوب الناس وعقولهم؛ لأنك قد طرقت الحديد الساخن.
المثال الثاني: خلع أو موت رئيس أو ملك: وأفضل تناول لذلك يكون بإخراج المخدوعين الخاضعين للبشر من دون الله من ذلهم إلى العبودية الحرة لله وحده، وتلقينهم الدرس؛ أن الـمُلك الذي لا يفنى ولا يزول إنما هو لله -عز وجل- وحده: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ...)[آل عمران: 26].
المثال الثالث: انهيار دولة عظمى: من تلك التي يرتكن عليها بعض الشعوب أو الرؤساء، والعبرة هنا أن العزة بالدين لا بسواه، وأن من ارتكن على غير الله ذل وضل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)[فاطر: 10]... ثم الأمثلة بعد ذلك كثيرة لا تخفى على خطيبنا اللبيب.
رابعًا: استغلال انفعالاتك أنت:
إن أكثر موضوع ستنجح -أيها الخطيب- في إقناع الناس به: هو الموضوع الذي أنت شديد التأثر والاقتناع به، وكلما كان تأثرك أعظم كلما كان تأثيرك في سامعيك أضخم، فاحفظها: "كلما ازددت تأثرًا، كلما ازددت تأثيرًا".
فقد تأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قبِل ابن اللتبية الرشوة في صورة هدية وانفعل غاضبًا بسبب ذلك، ولم يؤجل -صلى الله عليه وسلم- الأمر، بل صعد المنبر وعلَّمه والصحابةَ جميعًا درسًا لم ينسوه، فعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا من بني أسد يقال له ابن الأتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر -قال سفيان أيضًا: فصعد المنبر- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى له أم لا، والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر"، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه: "ألا هل بلغت" ثلاثًا([8]).
وهذا تأثر وانفعال نبوي من نوع آخر: يروي البراء بن عازب فيقول: بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ بصر بجماعة، فقال: "علام اجتمع عليه هؤلاء؟"، قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلَّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا قال: "أي إخواني، لمثل اليوم فأعدوا؟"([9])، ولست أشك في عظيم التأثر الصادق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مع هذا يدرك تأثر الصحابة بما يرون، فاستثمر-صلى الله عليه وسلم- انفعال نفسه، ولم يضيع تأثر أصحابه؛ فطرق الحديد الساخن: إن كنتم تخشون هذا المنزل فأعدوا له العمل الصالح.
فإن قرأت -أخي الخطيب- أو عايشت حادثة مفجعة كان السبب فيها التفريط في التزام حدود الله -تعالى-، كواقعة زنا بين رجل وزوجة أخيه -مثلًا- وتأثرت بهذه الحادثة، فلا تؤجل الكلام فيها بل استغل انفعالك وتأثرك ولا تضيع الفرصة ولا تدعهم إلا متأثرين بما أنت متأثر به، ومقتنعين بما أنت مقتنع به، فذكرهم أن أطراف هذه الحادثة لو التزموا حدود الله ما وقعوا في الحرام، بل ما قارفوا الزنا إلا وقد انتهكوا حدود الله وعصوا رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت"([10]).
نعم، إذا جرت الدماء في عروقك غضبًا، أو جرت الدموع على خديك حزنًا، أو اهتز منك القلب فزعًا، أو اتقد الشرر في عينيك حماسة... فلا تضيع تلك الانفعالات فإنها تُخرِج الكلمات من بين شفتيك مفعمات بالصدق والتأثير، فتكلم بمقتضى ما سبَّب انفعالك، واطرق حديدك الساخن، بشرط: أن يكون كلامك منضبطًا بضوابط الحكمة والموعظة الحسنة.
انتهى الجزء الأول، ويتبع -إن شاء الله- بالجزء الثاني والأخير.
([3]) أخرجه: البخاري (6055)، ومسلم (292).
([4]) أخرجه: البخاري (5999)، ومسلم (2754).
([5]) أخرجه: ابن المبارك في الزهد والرقائق (31)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/276)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1388).
([6]) أخرجه: البخاري (2615)، ومسلم واللفظ له (2468).
([7]) تفسير ابن كثير (4/387-388)، ط: دار طيبة للنشر والتوزيع.
([8]) أخرجه: البخاري (7174)، ومسلم (1832).
([9]) أخرجه: أحمد في مسنده واللفظ له (18601)، وابن ماجه في سننه (4195)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 1751).
([10]) أخرجه: البخاري (5232)، ومسلم (2172).
التعليقات
e-alghanim
28-02-2020السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أسعد الله أوقاتكم بذكر الله وطاعته لدي اقتراح وهو إضافة رابط لحفظ المواد على الوورد للاستفادة منها بدلا من نسخها والعمل على تنسيقها مرة ثانية .. شاكرا ومقدرا لكم جهودكم .. نفع الله بكم المسلمين .. وزادكم الله حرصا على نشر العلم النافع
الإدارة العامة - ملتقى الخطباء
08-03-2020وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وأسعد مساءك هذه السياسة مطبقة في الخطب فقط تحياتي لك