اقتباس
فتُرى ما الذي حوَّل ثمامة من النقيض إلى النقيض؟! تتلخص الإجابة في قولنا: "لقد أُصيب مدخله"؛ نعم، إن ثمامة سيد قومه، تأخذه العزة والأنفة التي تمنعه من قبول الحق، فكان لا بد له من زلزلة يفقد بها بعض كبريائه التي تغشي قلبه وتمنعه من قبول الحق، فتُرك مربوطًا ثلاثة أيام، فكانت فرصة له أن يعاين ويسمع مبادئ الإسلام عمليًا ونظريًا، ثم كان أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ثمامة طريقين؛ الأول: أن يقتله أو يأخذ منه الفدية، والثاني: أن يعفو عنه، وقد اختار نبينا -صلى الله عليه وسلم- الثاني؛ لأنه باختصار هو المدخل إلى قلبه؛ فإن ثمامة -كما قلنا- قد ساد قومه، ومثل هذا يؤثر فيه العفو مع القدرة أيما تأثير، يؤيد ذلك كله ابنُ الجوزي حين يقول: "لم يُسْلِم تحت الأسر لعزة نفسه، وكأن رسول الله أحس بذلك منه، فقال: أطلقوه، فلما أُطْلِق أسلم"
لكل إنسان -لا محالة- مدخل إلى قلبه وعقله؛ شيء ما، هو أسمى ما يتمناه، وأكثر ما عليه يحرص، وأعظم ما فيه يؤثر، وإذا عرفته -أيها الخطيب- واستغللته، نفذت بسلاسة إلى نفسه، وملكت عليه لبه، وصار لك تابعًا وإن لم يدرِ، ولكل مجتمع من الناس كذلك مدخل، إن أدركته وطرقت عليه وولجته كنت لهم قائدًا وتوَّجوك عليهم ملكًا؛ ليس ملكًا على أموالهم وأجسادهم، بل على عقولهم وأفئدتهم.
لذا فإنك تجد أن كثيرًا من القادة المشهورين والزعماء المتبوعين كانوا خطباء مفوهين عرفوا كيف يدخلون إلى أقوامهم فانصاعت لهم القلوب والعقول.
وأنبياء الله -عليهم السلام- هم أكثر من أتقن ذلك، فهؤلاء قوم عاد كانوا يتباهون بقوتهم، فأعقم الله -عز وجل- أرحام نسائهم فلم تلدن، وحبس عنهم المطر ثلاث سنين، حتى صار الولد والمطر أهم ما يرجون، فاستغل نبيهم هود -عليه السلام- هذا المدخل، فقال لهم: (وَ يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود: 52]، أي: إن آمنتم أرسل الله إليكم المطر فتزدادون مالًا، وأعاد أرحام الأمهات إلى ما كانت عليه فيلدن، فتزدادون قوة بالأموال والأولاد([1])، وكان هذا هو أغلى ما يتمنون ساعتها.
وهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يدرك مدخل رجل من المشركين، ويستثمر ذلك المدخل في التأثير عليه وإقناعه واستمالته هو ومن خلفه، فقد جاء في قصة صلح الحديبية ما يلي: "...فقال رجل من بني كنانة لقريش: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له"، فبُعِثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه، قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت ([2]).
وجاء في فتح الباري أن اسم هذا الرجل "الحليس"، وفيه: "فصاح الحليس فقال: "هلكت قريش ورب الكعبة؛ إن القوم إنما أتوا عمارًا"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أجل يا أخا بني كنانة، فأعلمهم بذلك" زاد ابن إسحاق: وغضب وقال: "يا معشر قريش، ما على هذا عاقدناكم؛ أيصد عن بيت الله من جاء معظمًا له؟!"([3]). فقد عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- مدخل الرجل؛ إنه يعظِّم الهَدْي، فأصاب الهدف؛ وحوَّل الرجل إلى صالحه.
ولقد أدرك العباس -رضي الله عنه- ذلك الأسلوب الإقناعي الخطير، فأشار به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتثبيت إسلام أبي سفيان الذي أسلم توًا، وقد لبى -صلى الله عليه وسلم- طلبه، فعن ابن عباس أن العباس بن عبد المطلب جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح، بأبي سفيان بن حرب، فأسلم بمر الظهران، فقال له العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئًا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..."([4]).
وهذا رجل من سادات العرب المتبوعين يُدعى ثمامة بن أثال وهو سيد أهل اليمامة، يؤتى به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسيرًا، وقد عرف -صلى الله عليه وسلم- كيف يدخل إلى قلبه، ولندع أبا هريرة يروي ما كان قائلًا: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خيلًا قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له: "ما عندك يا ثمامة؟" قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي ما قلت لك، فقال: "أطلقوا ثمامة".
فانطلق إلى نجل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-.([5]).
فتُرى ما الذي حوَّل ثمامة من النقيض إلى النقيض؟! تتلخص الإجابة في قولنا: "لقد أُصيب مدخله"؛ نعم، إن ثمامة سيد قومه، تأخذه العزة والأنفة التي تمنعه من قبول الحق، فكان لا بد له من زلزلة يفقد بها بعض كبريائه التي تغشي قلبه وتمنعه من قبول الحق، فتُرك مربوطًا ثلاثة أيام، فكانت فرصة له أن يعاين ويسمع مبادئ الإسلام عمليًا ونظريًا، ثم كان أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ثمامة طريقين؛ الأول: أن يقتله أو يأخذ منه الفدية، والثاني: أن يعفو عنه، وقد اختار نبينا -صلى الله عليه وسلم- الثاني؛ لأنه باختصار هو المدخل إلى قلبه؛ فإن ثمامة -كما قلنا- قد ساد قومه، ومثل هذا يؤثر فيه العفو مع القدرة أيما تأثير، يؤيد ذلك كله ابنُ الجوزي حين يقول: "لم يُسْلِم تحت الأسر لعزة نفسه، وكأن رسول الله أحس بذلك منه، فقال: أطلقوه، فلما أُطْلِق أسلم"([6]).
هذا، وما أكثر المداخل التي يُدخَل منها إلى القلوب والعقول؛ فإنها كثيرة بعدد البشر، لكن هناك من المداخل العامة ما يصلح مع غالبية البشر، ومع مجتمعات بأسرها، ومنها:
المدخل الأول: العطاء والجود والكرم:
فإن العطاء يحطم الحواجز ويزيل العوائق من القلوب ومن العقول، وما فُتِحَتْ كل القلوب والعقول لنبينا -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن وبالإيمان! كلا، بل إن من النفوس -التي كانت مؤصدة- ما فُتِحَت له -صلى الله عليه وسلم- إلا بالعطاء وبالكرم، ولكَم أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العطايا، ما يهدف من ورائها إلا أن ينفذ إلى قلب المعطَى فيقبل الحق الذي يحمله.
وهذا أنس -رضي الله عنه- يقدم دليلًا على ذلك فيقول: سأل رجلٌ النبيَ -صلى الله عليه وسلم- غنمًا بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: "أي قوم أسلموا، فوالله إن محمدًا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر" ثم علق أنس -وتدبر تعليقه- قائلًا: "إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها"([7]).
ويتجلى نجاح الكرم كمدخل إلى القلوب أكثر وأكثر بما حكاه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى رهطًا وسعد جالس، فترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان! فوالله إني لأراه مؤمنًا؟ فقال: "أو مسلمًا" فسكتُ قليلًا، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، فقلت: ما لك عن فلان! فوالله إني لأراه مؤمنًا؟ فقال: "أو مسلمًا"، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "يا سعد إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبه الله في النار"([8])؛ نعم، يفتح -صلى الله عليه وسلم- بالمال الباب إلى إقناع البعض بالإسلام، لئلا يتسبب القلب المغلق والعقل المعاند في موت صاحبه كافرًا!
وهذا واحد ممن أعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يدلي بشهادته ويحكي كيف فتح عطاءُ النبي -صلى الله عليه وسلم- مغاليق قلبه، فعن ابن شهاب قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة ثم مائة" يقول صفوان: "والله لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ"([9]).
وإنك -أخي الخطيب- حين تقرأ قول الله -تعالى-: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 272]، لتتساءل: لماذا جمع الله -عز وجل- الهدى في هذه الآية مع الإنفاق؟! وما وجه الارتباط بينهما؟!
الإجابة: لقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية وجهين، وفي كليهما شاهد لكلامنا، أما الوجه الأول: "أن بعض المسلمين كانت لهم قرابات وأصهار من المشركين، وكانوا ينفقون عليهم طمعًا في إسلامهم، فلما أسلموا -وحققوا هدفهم- قطعوا عنهم النفقة، فنزلت الآية تأمرهم بمواصلة الإنفاق"، والشاهد هنا واضح؛ فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده هو الذي يدخل إلى القلوب بالعطاء، بل كان الصحابة كذلك يدركون هذا المدخل ويستخدمونه مع أقاربهم الكافرين.
أما الوجه الثاني: "أن المسلمين كانوا ينفقون على فقراء أهل المدينة من اليهود، فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؛ لتحملهم الحاجة إلى الدخول في الإسلام، فنزلت الآية تأمر بمواصلة التصدق عليهم"، وهذا أبلغ في الدلالة على ما نقول من الأول؛ فقد أراد -صلى الله عليه وسلم- أن يمنعهم العطاء ليسلموا، فصحح له ربه -عز وجل- هذا، فكأنه -تعالى- يقول له: بل أعطهم يا محمد، فإن العطاء مدخل إلى القلوب، أما الحرمان فلم يكن أبدًا مدخلًا إليها!
هذا، ولا يلزم أن يكون العطاء -الذي نقصد به الولوج إلى النفوس- مالًا يُبذل، بل قد تدخل إلى إنسان بقضاء حاجة له، أو بأن تشفع له شفاعة حسنة، أو بضيافته وإطعامه، فعن عبد الله بن عمرو قال: جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سبع رجال، فأخذ كل رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا، وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "ما اسمك؟" قال: أبو غزوان، قال: فحلب له سبع شياه، فشرب لبنها كله، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك يا أبا غزوان أن تسلم؟"، قال: نعم، فأسلم، فمسح -صلى الله عليه وسلم- صدره، فلما أصبح حلب له شاة واحدة، فلم يتم لبنها، فقال: "ما لك يا أبا غزوان؟" فقال: والذي بعثك نبيًا لقد رويت، قال: "إنك أمس كان لك سبعة أمعاء، وليس لك اليوم إلا واحد"([10]).
والشاهد: أن الاستضافة والإطعام كانت -وما زالت- طريقًا للولوج إلى القلوب، فها هو -صلى الله عليه وسلم- يعرض على الرجل -بعد إكرامه وإطعامه- أن يسلم، فسارع ملبيًا، وكذا فعل الصحابة؛ فقد كانوا سبعة رجال.
فيا له من مفتاح مجرب لقلوب البشر؛ أعطه لعاعة من الدنيا أو اقض له مصلحة من مصالح الدنيا يكون عليها حريصًا... ليضع قدمه على طريق الحق، فإذا وضعها توشك أن تثبت فلا تزل، ويصير لك بعدها السامع المطيع في الحق، وقد قيل: "السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس"، وهو ما يؤيده قول الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** إذ طالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
وأنت -أيها الخطيب- لن تبلغ المبلغ من القلوب والعقول حتى تكون في هذه النقطة مثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال عنه جابر -رضي الله عنه-: "ما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قط فقال: لا"([11]).
وأعلم أنك ستقول: ليس هذا في استطاعتي! وأجيبك: ولا في استطاعة أغلب الخطباء، لذا نقول: إنه لا بد لكل خطيب مؤثر من إخوان يلتفون حوله ويمدونه ولو من مال زكاتهم يتألف به القلوب ويمهد به الطريق إلى العقول.
واعلم -أخي الخطيب- أن البخيل لا يسود، وقد رفض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسوِّد على قوم بخيلًا، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل: "من سيدكم يا بني سلمة؟" قالوا: الجد بن قيس، إلا أن فيه بخلًا، قال: "وأي داء أدوى من البخل! بل سيدكم بشر بن البراء بن معرور"([12])، وكيف لا، والبخل أسوأ ما يكون في مسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع"([13]).
إذا عُلِم هذا، فلتحذر -أخي الخطيب- من التوسع والمبالغة في العطاء، لا لأننا نخشى ألا يخلف الله خيرًا مما أنفقنا -معاذ الله-، بل للأسباب التالية:
السبب الأول: أننا مهما تعاونا فمن أين لنا أن نأتي بمال يسع كل الخلق؟! وقد قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم"([14])، وقد حدث فعلًا ونفد ما عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أبي سعيد الخدري أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر»([15])، فدلَّهم على طريق التعفف والصبر.
السبب الثاني: أن مال الدنيا كله لن يسد طمع رجل واحد لا يتعفف: أوما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديًا ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"([16]).
وهذه واقعة عملية يؤكد بها أنس بن مالك ذلك، فيقول: أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بمال من البحرين، فقال: "انثروه في المسجد"، وكان أكثر مال أتي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج -صلى الله عليه وسلم- إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال يا رسول الله: أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلًا، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "خذ" فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، اؤمر بعضهم يرفعه إلي، قال: "لا" قال: فارفعه أنت علي، قال: "لا" فنثر منه، ثم ذهب يقله، فقال: يا رسول الله، اؤمر بعضهم يرفعه علي، قال: "لا" قال: فارفعه أنت علي، قال: "لا" فنثر منه، ثم احتمله، فألقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعه بصره حتى خفي علينا؛ عجبًا من حرصه! فما قام -صلى الله عليه وسلم- وثم منها درهم([17]).
السبب الثالث: أن من الناس أغنياء، ومنهم أعفاء لا يعنيهم المال، بل يتطلعون إلى ما هو أسمى وأعلى وأبقى، كذلك الرجل المتطلع إلى الجنة الذي روى لنا شداد بن الهاد قصته قائلًا: جاء رجل من الأعراب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي -صلى الله عليه وسلم- سبيًا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟، قالوا: قسم قسمه لك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخذه فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هذا؟ قال: "قسمته لك"، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة فقال: "إن تصدق الله يصدقك"، فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أهو هو؟" قالوا: نعم، قال: "صدق الله فصدقه"، ثم كفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدَّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا أنا شهيد على ذلك"([18]).
فأمثال هؤلاء المتطلعين إلى المعالي ليس مدخلهم المال ولا الإطعام، بل يناسبهم مدخل آخر سوف نعرضه -إن شاء الله- في الجزء الثاني من هذا المقال.
فلنلتقي هناك على خير -بإذن الله تعالى-.
---
[1]انظر: تفاسير الخازن والقرطبي والنسفي وغيرها تحت الآية المذكورة.
[2]البخاري (2731).
[3] فتح الباري، لابن حجر (5/342) ، الناشر: دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
[4]أبو داود (3021)، والبزار (1292)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن أبي داود).
[5]البخاري (4372)، ومسلم (1764).
[6]عمدة القاري لبدر الدين العيني (4/237)، الناشر: دار إحياء التراث العربي -بيروت.
[7]مسلم (2312).
[8]البخاري (27)، ومسلم (150).
[9]مسلم (2313).
[10]الطبراني في الكبير (98)، وقال في فتح الباري: "بسند جيد" (9/538)، وجاءت هذه القصة عن أبي هريرة كما في البخاري (5396)، ومسلم (2063).
[11]البخاري (6034)، ومسلم (2311).
[12]الحاكم (4965)، والطبراني في الكبير (1203)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 7104).
[13]أبو داود (2511)، وابن حبان (3250)، وصححه الألباني (الصحيحة: 560).
[14]البزار (9319)، ومصنف ابن أبي شيبة (25333)، وحسنه الألباني لغيره (صحيح الترغيب والترهيب: 2661).
[15]البخاري (1469).
[16]البخاري (2337)، ومسلم (1048).
[17]البخاري (421).
[18]النسائي (1953)، والحاكم (6527)، وصححه الألباني (صحيح الترغيب والترهيب: 1336).
التعليقات