اقتباس
فمفهوم جماعة المسلمين متسع ليشمل عموم المسلمين دون حصره في تجمع معين؛ فمن الغلو المنكر قصر جماعة المسلمين على فصيل بعينه؛ بل إنه من جملة البدع التي قد تصل إلى بدع التكفير؛ وأيضا من الغلو المنكر جعل الجماعة أصلا من أصول الدين؛ لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه؛ وقد أجمعت الأمة على عدم تكفير البغاة والمحاربين؛ وعدم تكفير من تخلف عن بيعة إمام المسلمين؛ ناهيك...
من المفاهيم التي ثار حولها جدل كبير وتنازع وتهارج بين أبناء الصحوة الإسلامية؛ مفهوم جماعة المسلمين؛ حيث وقع خلاف عريض بين المنتسبين للعمل الدعوي المعاصر في تعريف هذه الجماعة ووصف أهلها؛ ومشروعية الكيانات المنظمة وعدم مشروعيتها؛ وقد قاد هذا الخلاف العاملين لحلقات مفرغة من التعصب والتشرذم والتناحر بين من يري نفسه من تبعه هم الجماعة التي يلزم الجميع الانضواء تحت رايتها والالتزام بأمرها وهديها؛ ويعتبر من لزمه فقد لزم جماعة المسلمين؛ ومن شذ عنها فقد شذ في النار؛ وآخرون نظروا إلى كل التجمعات الدعوية المعاصرة على أنها تجمعات بدعية واعتبرها من جملة الخوارج؛ حيث لم ير اجتماعا مشروعا إلا الاجتماع على الإمامة العظمى فحسب. لذلك كان من الواجب وضع الضوابط العامة والأصول الثابتة في هذه القضية وبيان موارد الاجتهاد والمتشابهات فيها؛ حتى يعلم الدعاة والعاملون في خدمة هذا الدين ما لا يسعهم الخروج عنه في هذه القضية؛ وما يسعهم الخلاف والاجتهاد فيه.
جماعة المسلمين هي المخرج من الفتن والشرور ،ولزومها هو طوق النجاة وقت الفرقة والاختلاف؛ وذلك كما جاء في حديث حذيفة الشهير في باب الفتن؛ لما قال - رضي الله عنه - : كان الناس يسألون رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن الخير؛ وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني؛ فقلت: يا رسول الله؛ إنا كنا في جاهلية وشر؛ فجاءنا الله بهذا الخير؛ فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال: " نعم "؛ قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال: نعم؛ وفيه دخن ". قلت: وما دخنه ؟. قال :" قوم يهدون بغير هديي؛ تعرف منهم وتنكر ". قلت:فهل بعد ذلك الخير من شر ؟.قال :" نعم؛ دعاة على أبواب جهنم؛ من أجابهم إليها قذفوه فيها ". قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال :" هم من جلدتنا؛ ويتكلمون بألسنتنا ".قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ". قلت: " فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ". قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها؛ ولو أن تعض بأصل شجرة؛ حتى يدركك الموت وأنت على ذلك "
لوازم جماعة المسلمين:
جماعة المسلمين لها مجموعة من اللوازم والاستحقاقات والثوابت العامة التي تضع وصفا شاملا ومميزا لمصطلح جماعة المسلمين؛ من أهمها:
أولا: لزوم عقيدة أهل السنة والجماعة
فلا منازعة في كون أن الأصل العقدي الذي يجب أن تقوم عليه جماعة المسلمين؛ هو عقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة؛ وهي بذلك تكون الجماعة المقصودة في حديث افتراق الأمة الشهير والذي وصفها النبي- صلى الله عليه وسلم - بقوله: " كلها في النار إلا الجماعة؛ ما أنا عليه وأصحابي " أي إتباع الكتاب والسنة وهدي وفهم سلف الأمة لهما؛ والتمسك بعقيدة أهل السنة بمثابة الإطار العلمي الفارق بين جماعة المسلمين وغيرها من جماعات وفرق الأهواء والابتداع؛ وعبارات أهل العلم من سلف الأمة بهذا الخصوص وببيان هذا الإطار واضحة وتكاد تكون متقاربة؛ قال الإمام علي بن المديني رحمه الله: " السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها؛ أو يؤمن بها لم يكن من أهلها ـ يقصد السنة ـ: الإيمان بالقدر خيره وشره؛ ثم تصديق بالأحاديث والإيمان بها ـ يقصد أحاديث الصفات ـ؛ لا يقال: لم ؟ ولا: كيف ؟ إنما التصديق بها؛ والإيمان بها؛ وإن لم يعلم تفسير الحديث ويبلغه عقله. . " وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: " اصبر نفسك على السنة؛ وقف حيث وقف القوم؛ وقل بما قالوا؛ وكف عما كفوا عنه؛ واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم " وسئل سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: " متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة ؟ قال: إذا عرف من نفسه عشر خصال: لا يترك الجماعة؛ ولا يسب أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - ؛ ولا يخرج على هذه الأمة بالسيف؛ ولا يكذب بالقدر؛ ولا يشك في الإيمان؛ ولا يماري في الدين؛ ولا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب؛ ولا يترك المسح على الخفين؛ ولا يترك الجماعة خلف كل وال جار أو عدل " وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: " السنة عشرة؛ فمن كن فيه فقد استكمل السنة؛ ومن ترك منها شيئا فقد ترك السنة: إثبات القدر؛ وتقديم أبي بكر وعمر؛ والحوض؛ والشفاعة؛ والميزان؛ والصراط؛ والإيمان قول وعمل؛ والقرآن كلام الله؛ وعذاب القبر؛ ولا تقطعوا الشهادة على مسلم " وكل هذه الآثار أخرجها الإمام اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة ـ المجلد الأول.
ثانيا: لزوم طاعة الأئمة من غير معصية
وهذه النقطة من لوازم قيام جماعة المسلمين؛ فإذا اجتمع المسلمون في جماعة وجعلوا واحدا منهم إماما عليهم يقودهم ويسوسهم بمقتضى الشرع؛ فقد وجبت طاعته في غير معصية؛ والأدلة على ذلك كثيرة منها ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ما عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: " من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية "؛ وحيث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال فيه: " بايعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة؛ في العسر واليسر؛ في المنشط والمكره؛ وعلى أن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان "؛ لذلك كانت كلمة العلماء واحدة في هذه المسألة؛ أنه من ولي من أمر المسلمين وطبق فيهم شرع الله عز وجل لم يجز الخروج عليه ولو ظلم وجاوز حد الشرع في بعض جوانبه.
ثالثا: بيعة جماعة المسلمين هي بيعة الخلافة العظمى
وهي البيعة التي جرى ذكرها في النصوص الشرعية؛ مثل قوله- صلى الله عليه وسلم - : " من مات وليس في عنقه بيعة؛ مات ميتة جاهلية "؛ وهي البيعة الواجبة على كل مسلم والتي تنشئ عموم الطاعة في غير معصية؛ وهي البيعة التي يأثم من نقضها ويعد من جملة البغاة والخوارج على الأمة؛ وهي البيعة التي تقبل التعدد لأنها لا تكون إلا للإمام الذي اجتمع على بيعته الناس كلهم؛ ومجمل الأحاديث التي ورد فيها ذكر البيعة إنما هي مقيدة ببيعة الإمام؛ أو مطلقة تحمل على المقيدة كما ورد ذلك في قواعد الأصوليين؛ ولذلك كله رفض ابن عمر - رضي الله عنه - ما وغيره من كبار الصحابة البيعة لخليفتين في وقت الفتنة والأحداث الجسام التي وقعت بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - .
وهذا الأمر معناه بطلان سائر البيعات التي يبايع فيها جماعة من الناس شخصا معينا ويعقدون الولاء والبراء على هذه الجماعة ويفرقون بها كيان الجماعة الأم بجماعات صغيرة هنا وهناك؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وليس لأحد أن يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريده؛ وموالاة من يواليه؛ ومعاداة من يعاديه؛ بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا وليا؛ ومن خالفهم عدوا باغيا؛ بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله؛ ويفعلوا ما أمر به الله ورسوله. . "
رابعا: لزوم جماعة المسلمين فريضة الوقت
فمتى قامت جماعة المسلمين وجب على المسلمين الانضمام إليها؛ فهذا هو المخرج من الفتن والنجاة من الفرقة والاختلافات؛ والدليل على ذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال لحذيفة - رضي الله عنه - : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " ولم يجعل لذلك من بديلا سوى الاعتزال ولو أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت وهو كذلك؛ ولزوم جماعة المسلمين تكليف يخاطب به التجمعات ما يخاطب به عموم الأفراد.
ولو تعذر ذلك بصورة موضوعية بسبب غياب الكيان العضوي للجماعة؛ فيبقى في الواقع أن لزوم الجماعة يكون بإتباع منهج السلف الصالح في الاعتقاد والتحليل والتحريم؛ والتزام الطاعة لأهل الحل والعقد الذين هم متمثلين في أهل العلم والقدرة في أزمنة غياب الحكومات الإسلامية وشيوع العلمانية؛ فهؤلاء العلماء إذا اجتمعت كلمتهم في أمر صارت طاعتهم واجبة والالتزام به فرضا متعينا لا يسع أحد الخروج عنه؛ والأصل في ذلك كله ما تقرر في الشرع بأن السلطة للأمة والسيادة للشرع؛ فالأمة وحدها هي صاحبة الحق في تولية حكامها؛ ومراقبتهم؛ ومحاسبتهم؛ وعزلهم إن وجد الداعي؛ فإذا خلا الزمان من خلفائه الشرعيين عادت السلطة إلى الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد.
خامسا: اتساع جماعة المسلمين
فمفهوم جماعة المسلمين متسع ليشمل عموم المسلمين دون حصره في تجمع معين؛ فمن الغلو المنكر قصر جماعة المسلمين على فصيل بعينه؛ بل إنه من جملة البدع التي قد تصل إلى بدع التكفير؛ وأيضا من الغلو المنكر جعل الجماعة أصلا من أصول الدين؛ لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه؛ وقد أجمعت الأمة على عدم تكفير البغاة والمحاربين؛ وعدم تكفير من تخلف عن بيعة إمام المسلمين؛ ناهيك عن أن حديث حذيفة فيه إشارة واضحة لإمكان خلة الزمان والمكان من جماعة المسلمين وإمامهم؛ فكيف يصح إذا ربط صحة الإسلام بالجماعة.
وهذه النقطة تحديدا تحتاج إلى ضبط وتحقيق حتى لا يقع البعض في البدع والشطط؛ فمن التقصير البين في ضبط مفهوم الجماعة مصادرة شرعية التجمعات الدعوية المعاصرة بحجة خروجها على الجماعة الأم؛ فما علاقة تعاضد وتعاون مجموعة من الناس على البر والتقوى ونشر الإسلام بمناقضة جماعة المسلمين وإمامهم؛ بل إن قد يقتضي في أحيان كثيرة وجود هذه الكيانات المنظمة لمواجهة الكم الهائل من الأباطيل والشبهات والأراجيف حول الإسلام؛ ولكن يشترط في هذه الكيانات ألا تؤدي إلى افتراق الكلمة وتفتيت الولاء؛ وإضعاف الولاء لجماعة المسلمين بمفهومها الشامل؛ وهذا يقتضي أن يكون التعدد الموجود على الساحة الإسلامية اليوم هو تعدد تنوع وتخصص؛ وليس تعدد تنازع وتصارع؛ فهذه فصائل تنشر العلم وتعمل على تحقيقه وتدريسه وتخريج أجيال من طلبة العلم المؤهلين؛ وهذه فصائل تجوب البلاد والقفار لنشر الدعوة وتبليغ رسالة الإسلام؛ وثالثة تعمل على تصحيح عقائد الناس ومواجهة الخرافات والشركيات؛ ورابعة تقارع العلمانيين والليبراليين وطواغيت السياسة وتزاحمهم في محافلهم ومؤسساتهم لتطهيرها وتأسيسها على الفكرة الإسلامية؛ وخامسة ترفع رايات الجهاد ضد أعداء الأمة الذين يحتلون ربوعها وينشرون المفاسد فيها وهكذا.
التعليقات