اقتباس
الديمقراطية التي يتغنى بها العلمانيون، ويجعلونها مثل صنم العجوة يعبدونه تارة، ويأكلونه تارة أخرى، ليست هي الحل النهائي التي بها خلاص الأمة من طواغيتها ومستبديها، والتعامل معها يكون من منطلق كونها آلية من آليات تنظيم الحياة السياسية في البلاد الإسلامية بحيث يكون ضررها أخف وطأة وأقل ضررا من الديكتاتورية المستبدة، حيث يمكن للدعاة والمصلحين في ظل..
الدعوة إلى الله - عز وجل - تعتبر من أشرف وأعظم المهام التي يقوم بها مسلم، فالعمل الدعوي هو أول طريق التغيير وإقامة دين الله - عز وجل - وشرعته في الأرض، وهي الركيزة الأولي للرسل قاطبة، ومفتاح التغيير في كل مجتمع يُراد له الهداية والخروج من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلمات الجاهلية وتيه المناهج الأرضية إلى نور الإيمان وسعة الإسلام وهداية الرحمان، والآيات والأحاديث على فضل الدعوة ومكانة الداعية أكثر من أن نسردها في هذا المقام الذي هو في الأصل لبيان مشكلات الدعوة لا لسرد نصوص فضلها، ذلك أن المشكلات والقضايا التي كانت تواجهها الدعوة قديما كانت تنحصر في عدة قضايا ومشكلات بسيطة، إذ كانت الحياة ما زالت ساذجة لم يصبها هذا التعقد الكبير الحادث في شئونها هذه الأيام، ففي كل يوم يواجه الدعاة إلى الله أسئلة جديدة وأطروحات وأفكار جديدة، ومجالات جديدة يطلب فيها كلها أن يجيب علي أسئلتها الدعاة لدين الله - عز وجل - ، وفي هذه السلسلة سنعرض لأهم القضايا المعاصرة التي تمس العمل الدعوي وتؤثر فيه سلبا وإيجابا، وسوف نبدأ هذه السلسلة بالحديث عن الدعاة والعمل السياسي من حيث مشروعية المشاركة والآثار المترتبة عليها سلبا وإيجابا، وكيفية الوصول إلى الصيغة المثلى في الاستفادة من دخول الدعاة غمار هذا العمل العسير.
دخول غمار العمل السياسي من أهم القضايا المعاصرة التي تواجه الدعاة خاصة بعد ثورات الربيع العربي التي أزالت الموانع التي كانت تقف في وجه الإسلاميين من ممارسة العمل السياسي، بحيث أصبح المجال مفتوحا أمامهم لعرض أفكارهم ومشاريعهم لتطبيق شرع الله - عز وجل - وأطروحاتهم، وبرزت العديد من الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس واليمن وليبيا، ومن ثم برزت الحاجة لوضع الضوابط العامة الحاكمة لممارسة العمل السياسي بالنسبة للدعاة والعاملين لدين الله - عز وجل - ، خاصة بعد وقوع البلاد المسلمة في قبضة العلمانية لعهود طويلة، ونظرة الناس لمن يمثلون المشروع الإسلامي على أنهم قارب النجاة لمشاكل المجتمعات المزمنة، لذلك فقد توجب تأسيس عقد إسلامي راشد لعمل الدعاة بالعمل السياسي.
أولا: تعريف العمل السياسي
العمل السياسي هو السعي للمشاركة في إدارة شئون البلاد عبر وسائل معينة من أبرزها تشكيل الأحزاب أو المشاركة فيها، والاشتراك في المجالس النيابية مثل البرلمانات، والاشتراك في المؤسسات الحاكمة والسلطات السياسية النافذة في البلاد . والعمل السياسي بهذه الصورة به كثير من المحاذير التي تمنع العديد من فصائل العمل الإسلامي من المشاركة ابتداء في العمل السياسي بهذه الكيفية، ومن أبرز هذه المحاذير:
الصلة المباشرة واليومية التي تجمع القائمين على هذا العمل مع غلاة العلمانيين والاشتراكيين والشيوعيين والليبراليين ممن يرفضون بل يعادون الفكرة الإسلامية، وأيضا اللقاء مع الطغاة وما يصاحب ذلك من ضغوط قد تؤدي إلى سلسلة من التنازلات قد تصل أحيانا إلى تنازلات حاسمة تقوض الفكرة الإسلامية من أساسها، ومن المحاذير أيضا أن الحضور الرسمي للاتجاه الإسلامي في هذا العمل يعتبر واجهة للتيار الإسلامي كله بشتى تياراته وفصائله، بل واجهة للإسلام نفسه، وبالتالي فأي تقصير يقع عند التطبيق والممارسة فسوف ينسب للتيار الإسلامي كله، وعادة ما يصوب العلمانيون سهامهم للإسلام نفسه عند أدنى تقصير أو خلل في أداء التيار الإسلامي المشتغل بالسياسة .
ومن المحاذير أيضا تأسيس العمل السياسي المعاصر على أسس وأفكار ومبادئ علمانية صرفة لا تعترف بالأخلاق والقيم، وبها كثير من الخداع والمكر وتعتمد على المكائد والمؤامرات وصفقات الغرف المغلقة، لذلك فقد أحجمت الكثير من فصائل العمل الإسلامي والدعوي عن الاشتغال بالسياسة بدعوى أنها نجاسة وجب الاحتراز والتنزه منها، واشتد نكيرهم على من اختار المشاركة في العملية السياسية، وشنعوا عليه بصورة أورثت الدعاة الكثير من المشاكل الجانبية والإحن الداخلية.
هذه المحاذير وغيرها تستوجب ممن اختار المشاركة في هذا المجال أن يكون شديد الحذر والانتباه من كل هذه المزالق وغيرها، فالتيار العلماني ما زال الأقوى داخل المؤسسات السياسية في البلاد الإسلامية، ويمتلك من أدوات التأثير والتشويش على ممثلي التيار الإسلامي داخل العمل السياسي ما يفقده القدرة على التركيز والانجاز، وعلى التيار الإسلامي معرفة ومراعاة الثوابت والمتغيرات في قضية العمل السياسي حتى تكون قاعدة انطلاق لتحقيق أقصى مصالح ممكنة ودرء أعظم مفاسد متوقعة.
أولا : ثوابت العمل السياسي
1 ـ الشريعة هي المرجعية العليا
فالتسليم بالحق في التشريع فيما شرّع الله - عز وجل - لأحد من الخلق من دون الله هو إشراك بالله - عز وجل -، والديمقراطية بمحتواها الغربي تمنح هذا الحق الأصيل لله عز وجل في التشريع لممثلي الشعب في البرلمان، وهي بذلك المعني تتناقض بالكلية مع الإسلام الذي يقوم على قاعدة الاستسلام لله - عز وجل - والامتثال لأمره ونهيه، والخلق والأمر من أخص خصوصيات الربوبية، وأن منازعة الله – تعالى - في الأمر كمنازعته في الخلق لا فرق، قال تعالى ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ يوسف 40]
2ـ الديمقراطية ليست الحل النهائي
الديمقراطية التي يتغنى بها العلمانيون، ويجعلونها مثل صنم العجوة يعبدونه تارة، ويأكلونه تارة أخرى، ليست هي الحل النهائي التي بها خلاص الأمة من طواغيتها ومستبديها، والتعامل معها يكون من منطلق كونها آلية من آليات تنظيم الحياة السياسية في البلاد الإسلامية بحيث يكون ضررها أخف وطأة وأقل ضررا من الديكتاتورية المستبدة، حيث يمكن للدعاة والمصلحين في ظل الديمقراطية أن يتحدثوا لمن شاءوا، ويخلى بينهم وبين الجماهير، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهي أمور تفتقد في ظل الديكتاتورية حيث تكمم الأفواه ولا يسمع إلا صوت الكفر وحده، فالديمقراطية الغربية لها جانبان: جانب يرفضه الإسلام ويتناقض معه تماما ويعتبره نوعا من أنواع الإشراك بالله - عز وجل -، وهو منح حق التشريع للبشر ممثلي الشعب في البرلمانات، وجانب يقره الإسلام ويحض عليه، وهو حق الأمة في اختيار حكامها ومحاسبتهم وعزلهم إن اقتضى الأمر ذلك، والرقابة عليهم ومسائلتهم عن الكبير والصغير، وهو الجانب الذي يجب على الدعاة معرفته واستغلاله حتى لا يقعوا في شرك الديمقراطية الغربية بأصولها الفلسفية، وينسوا آليات هذه الديمقراطية التي تمكنهم من توصيل رسالتهم إلى الناس أجمعين.
3 ـ المجالس النيابية وسيادة الشريعة
فدخول المجالس النيابية من أبرز مظاهر الاشتغال بالعمل السياسي، ومن ثم كان لزاما على من دخل هذه المجالس أن يعلن أولا براءته من أحقية وإلزامية التشريع من دون الله أو فيما يناقض ما شرعه الله - عز وجل -، ودون هذا الإعلان يبقى دخول هذه المجالس بالكيفية المنصوص في الدساتير والنظم القائمة محرما، والمبرر الوحيد الذي يجيز للمسلم فضلا للداعية أن يدخل هذه المجالس أن تعلن هذه المجالس سيادة الشريعة وحاكميتها ومرجعيتها، وأن ما يسمى بسيادة القانون، والقسم على احترام الدستور والقوانين يجب أن يكون خلال هذا الإطار، لأنه لا سيادة لقانون أهدرته الشريعة، وكل قانون يتعارض مع الشرع فهو باطل ومهدر، وهو موضوع تحت قدم الحق، وأن الاعتراض على شيء من شريعة الله - تعالى - كفر بالله، وأن إقرار أي تشريع يضاد حكم الله إشراك بالله، فكل هذه الأمور مسلمات لا يمكن التنازل عنها أو التميع فيها، أو إدخالها في باب المصالح والمفاسد والحسابات والموازنات السياسية بأي حال من الأحوال.
4 ـ معقد الولاء والبراء هو الإسلام فقط
فرابطة الولاء والبراء رابطة ربانية إلهية لا تقوم على أي أساس من الأسس الأرضية، وهي سياج هذه الأمة الحامي به تميز بها أوليائها وأعدائها، وعقد الولاء على ما دون الإسلام هو ضلالة ترتقي لأشد أنواع المعاصي، ولما كانت قضية تطبيق الشريعة هي الأساس في دخول الدعاة والمصلحين العمل السياسي، فلابد من عقد الولاء والبراء على هذه القضية، وذلك الأمر يجعل قلوب الدعاة بمنأى عن ألاعيب المبطلين وخصوم الشريعة، ممن يحاولون استدراج حملة الشريعة وأنصارها في هذه المواقع إلى محالفات ومداهنات يفقدون بها تميزهم ويشوشون عليهم في قضيتهم الأصلية وهدفهم الأساسي، ويجرونهم إلى تنازلات مهينة وترخصات مخزية .
5 ـ التوازن بين العمل السياسي والدعوي
بحيث لا ينحصر عمل الدعاة في هذا المضمار وحده فحسب، فالدعوة متعددة الجبهات مختلفة القطاعات، ولابد من أن يضرب الدعاة بسهم في كل هذه الجبهات، ومن الخطأ البين أن ينشغل الدعاة بالكلية بالعمل السياسي دون غيره، بل إن ذلك من علامات الفشل والانكسار، ومن يتابع مسرح العمل الدعوي في البلاد التي انشغل فيها الدعاة والمصلحون بالعمل السياسي يشهد تراجعا حادا في المجالات الدعوية الأخرى مما أثر سلبا على الإرث التاريخي للعمل الدعوي في هذه البلدان، والأدهى من ذلك أن يحدث التراشق والتنابذ بين فصائل العمل الدعوي بعضهم بعضا، بحيث يسفه بعضهم بعضا وينعى بعضهم على بعض، لهذا كان لابد من التأكيد على أن التعدد القائم في ساحة العمل الإسلامي ينبغي أن يكون تعدد تنوع وتخصص، وأن عمل فصيل منه في مجال من المجالات لا يلغي عمل الفصائل الأخرى في باقي المجالات، ولابد أن يعمل الجميع في تكامل وتعاضد وتناصر، وأن تتبادل التسديد والتناصح، ومن ثم نحذر في هذا المقام من مزلق خطير يقع فيه عادة المشتغلين بالعمل السياسي؛ وهو إدانة بقية الفصائل العاملة بالعمل الدعوي، خاصة وأن أصل فكرة اشتغال الإسلاميين بالعمل السياسي موضع خلاف مازال قائما بين الفصائل الدعوية، والعديد منهم ما زال يرى حرمة الاشتغال بالعمل السياسي مادامت العلمانية هي الحاكمة والمنظمة للمؤسسات السياسية في معظم البلاد، وكما قلنا من قبل خصوم الدعوة يبحثون دائما على سبل اختراق العمل الدعوي وبث الفرقة بين العاملين لله - عز وجل -، وتقسيمه لفصيل متشدد وآخر متطرف وثالث رجعي متخلف ورابع إرهابي وهكذا حتى ينفروا الناس من المشروع الإسلامي برمته.
ثانيا: متغيرات العمل السياسي
1 ـ الدخول في هذا العمل ابتداء
فالأصل في مناهج التغيير أنها اجتهادات بشرية تبحث عن أفضل وأنسب سبل التمكين للدين وإقامة شريعة الله - عز وجل - في الأرض، ومن هذه الوسائل والاجتهادات الاشتغال بالعمل السياسي، ومادامت تدور في فلك الاجتهاد فيبقى أن الاشتراك فيها ودخول غمارها من قبيل الأمور الاجتهادية التي يثاب فاعلها ولا ينكر عليه ويشن الغارة على من ارتضاه مسلكا وطريقا للتغيير بالضوابط والأصول العامة السابق ذكرها.
2 ـ ترتيب أولويات العمل السياسي
فالأعمال المطلوب تحقيقها من المشتغلين بالعمل السياسي كثيرة ومتعددة، وعليهم تنعقد آمال كثير من الجماهير، ومن هذه الأعمال جعل قضية تطبيق الشريعة مطلبا عاما لسائر المشتغلين بالسياسية، ومنها تقنين القوانين والتشريعات المخالفة للشريعة بحيث تصبح موافقة لها، ومنها القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها مواجهة التحديات والأخطار التي تحيط بالأمة من كل مكان، خاصة كشف الفساد والمفسدين، إلا آخر هذه الأعمال، ولاشك أن ترتيب هذه الأعمال على سلم الأولويات يعد من موارد الاجتهاد ومسائل السياسة الشرعية، مع مراعاة أن الخلل في التوقيت تقديما وتأخيرا قد يؤدي لمفاسد كثيرة، لذلك كان لابد من ضبط هذه الاجتهادات كلها.
3 ـ البقاء في العمل أو الخروج منه
اشتغال الدعاة بالعمل السياسي يخضع منذ البداية للموازنة بين المصالح والمفاسد من وراء هذا الاشتراك، في ضوء الظروف المحيطة والأوضاع القائمة، ومدى تهيؤ الأجواء لتحقق أهداف المشاركة، لذلك فإن البقاء أو الخروج من هذا العمل يخضع لنفس المعيار والضابط، فإذا كان العمل مثمرا ولو بعد حين مقبول فالاستمرار فيه أولى من الخروج منه، والعكس صحيح، وقد تختلف الفتوى والرؤية من زمن لآخر، ومن بيئة لأخرى، لذلك كانت البيانات الإحصائية الدقيقة عن ما تم إنجازه من تجارب الآخرين من الأمور الهامة والمعينة بقوة على دراسة جدوى هذه المشاركة.
التعليقات