اقتباس
ولأن لكل عصر منطقه في التدافع وصراعاته ومدافعاته، وأدواته وقوانينه في ذلك، ففي عصر النبوة كان اليهود والشرك هم من يقف خلف الباطل والشر، وفي عصر الخلفاء الراشدين كان الروم والفرس، وفي العصور التالية كانت الفرق الضالة مثل الخوارج والرافضة والقدرية وهكذا، أما في عصرنا الحاضر فهي الدول الصناعية الكبرى وسدنة الحضارة الغربية بقيادة أمريكا وحلفائها.
لقد أقام الله -عز وجل- الكون على نظام دقيق من صنعه -سبحانه وتعالى، محكم بحكمته، قائم بقيوميته، متَّزن بسنن وضعها الحكيم الخبير، وجعلها الله -عز وجل- بمثابة الموازين التي تضبط أداء الخلق أجمعين، فقد فطر الله الأشياء والمواد والنفوس والجماعات والأمم والدول على طبائع محددة، وبث في هذا الكون سننًا ونواميس وقوانين تحكم كل ما فيه، وتحدد علاقاته واتجاهاته وردود أفعاله وممانعاته.
والقرآن قد استفاض في ذكر هذه السنن وبيّن ثباتها وعموميتها واستمراريتها وفعاليتها بمشيئة الله وحده؛ قال تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) [فاطر: 43].
ومن أكبر السنن ذكرًا في كتاب الله -عز وجل-، ومن أكثر عملاً في الكون وضبطًا له، وتأثيرًا في حياة البشر: سنة التدافع بين الخير والشر؛ قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]، وقال: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].
وقد جرت مشيئة الله تعالى وإرادته أن يحفظ دينه بهذه السنة الكونية، فلابد في هذا الكون وتبعًا لطبائع البشر وفطرتهم وأصل خلقتهم أن يكون فيهم الشر، ولولا وجود هذا الشر ما عرف الناس فضل الخير وما شعروا بقيمته، فالشر يظهر حسن الخير وأهميته.
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، فإن من طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، ومن ثم يحدث التدافع بين المتعارضين، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبدًا يقظة عاملة، وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء، فالله -عز وجل- يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو، مهما يسلك هذا الخير من طرق سليمة موادعة، فإن مجرد نمو الخير يحمل خطورة على الشر، لذلك جعل الله -عز وجل- سنة التدافع من أكثر سننه اطرادًا واستمرارية في الكون لبقاء هذا الكون حاملاً لعوامل بقائه.
أهمية سنة التدافع:
إن الحق والباطل في صراع إلى يوم القيامة، فكلاهما لا يرضى بوجود الآخر، فكان الصراع بينهما لازم من أجل البقاء، والشر جامح، والباطل مسلح، وهو يضرب غير متحرج، ويبطش غير متورع، ويجتهد في صرف الناس عن الخير إن رآهم قد اهتدوا إليه، ومن ثم فلابد للحق والخير من قوة تحميه من بطش الباطل، وتقيه من الفتنة، وتحرسه من الأشواك والسموم؛ لذلك شرع الله -عز وجل- الجهاد، وبيّن الله -عز وجل- أن شرعية الجهاد والدفاع عن الدين والنفس والأرض والعرض سنة من سننه الكونية التي أقام عليها دعائم العمران والاستقرار في الكون كله، ولا يخلو منها عصر ولا جيل ولا زمان، فهو سبحانه يدفع بين أهل الخير والصلاح وأهل الشر والفساد شر الظالمين وفساد المفسدين، قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]، ومعناه أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق حتى لا يحكم أهل الباطل سيطرتهم وهيمنتهم على الأرض وحدهم، فتفسد الأرض بفسادهم، وتأسن من نتنهم وسوء أفعالهم، لذلك أذن الله -عز وجل- لعباده الصالحين أن يقاتلوا المفسدين في الأرض من الكافرين والمجرمين والبغاة المعتدين؛ قال الزمخشري في كشافه: "ولولا أن الله ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض، يعيث الكفار فيها وقتل المسلمين، أو: لو لم يدفعهم الله بهم لعم الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض". وقال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء: 18]، فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في الوجود، والباطل منفي عن خدمة هذا الكون، بل هو معول هدم هذا الوجود، فهو استثناء لا أصالة له، طارئ لا ديمومة له، يطارده الله -عز وجل- ويقذفه بقذائف الحق فيدمغه بقدرته وسننه وأدواته في كونه.
ولأن لكل عصر منطقه في التدافع وصراعاته ومدافعاته، وأدواته وقوانينه في ذلك، ففي عصر النبوة كان اليهود والشرك هم من يقف خلف الباطل والشر، وفي عصر الخلفاء الراشدين كان الروم والفرس، وفي العصور التالية كانت الفرق الضالة مثل الخوارج والرافضة والقدرية وهكذا، أما في عصرنا الحاضر فهي الدول الصناعية الكبرى وسدنة الحضارة الغربية بقيادة أمريكا وحلفائها.
وما كان من أدوات التدافع في الماضي ليس بالضرورة أن تكون هي نفسها المستخدمة اليوم، ومع تطور أدوات وأسلحة الباطل كان لابد من تطور أدوات وسبل المدافعة ليتحقق المقصود من عمل هذه السنة؛ وهو منع الفساد في الأرض.
أبرز سمات الباطل:
الله -عز وجل- خاطب نبيه الكريم في محكم التنزيل فقال له: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام: 55]، أي: يا محمد: نحن قد بينّا لك في محكم التنزيل سمات المجرمين وأبرز ملامحهم وأشهر سبلهم وأدواتهم، حتى تكون على بينة من أمرك عندما نأمرك بمدافعتهم ورد ضررهم عن الأرض.
فأهل الباطل في صراعهم مع أهل الحق يتصفون بصفات ذميمة وقبيحة في أشخاصهم وأساليبهم وأدواتهم كما قال تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 30]، ومن أبرز هذه السمات:
1ـ الكبر والغطرسة؛ فالاستكبار والتعالي والازدراء للغير هي السمة الغالبة لأهل الباطل، فهم دائمًا يرون أنفسهم أفضل وأرقى من غيرهم وأجدر بالرئاسة والزعامة والقيادة، وهي نظرة موروثة من لدن إبليس -لعنه الله- إلى قيام الساعة، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 34]، وتوارثها المبطلون والطغاة من بعده على مر العصور: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف: 51 - 52]، استكبر على أمر الله وتبجح بمرور الماء تحت أقدامه، فأجرى الله -عزّ وجل- الماء فوق جسده وأغرقه فيه.
2ـ البطش والغلظة؛ فالباطل ضعيف الحجة، هش البيان، سخيف العقل، محجوج في كل موطن، لا يقوى على مقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، ومن ثم فهو دائمًا يلجأ للشدة، فهذا فرعون لما آمن سحرته وأقروا بصحة نبوة موسى -عليه السلام-، ما كان منه إلا أن هددهم بالقتل والتنكيل: (فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) [طه: 71]، وقال تعالى أيضًا: (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف: 127].
3ـ الظلم والطغيان؛ فالباطل يعرف أنه على خلاف الحق، وبعيد عن الخير، بل هو عدو أصيل للحق والخير؛ لذلك فهو يلجأ إلى الظلم والقتل والإبادة من غير رحمة ولا رأفة ولا مراعاة للذمم أو المواثيق أو العهود؛ قال تعالى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 8]، والتاريخ مليء بأمثلة طغيان الباطل وظلمه وفساده في البلاد وإلى العباد.
4ـ المكر والكيد؛ فللباطل أسلحة يستخدمها في صراعه مع الحق والخير، فالباطل لا يستطيع أن يواجه الحق بصورة صريحة، ولكنه يلجأ للمكر والخداع والكيد ليل نهار، ومكر الباطل وكيده لا يتوقف ظاهرًا وباطنًا، ولا يتخذ شكلاً واحدًا، بل هو في مجالات وأوجه كثيرة وعلى كافة الأصعدة، قال تعالى: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) [الرعد: 42]، وقال: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم: 46]، وقال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
5ـ الخداع والمراوغة؛ قال تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 9]، وقال تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [النساء: 142].
6ـ الجحود والنكران؛ قال تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78].
7ـ قسوة القلوب وتلبد الإحساس؛ فالباطل عديم الرحمة، قاسي القلب، محجوب عن نور الهداية، لا يعرف رأفة ولا رحمة، فبعده عن الحق وعمى بصيرته عن الخير قد منعه من التوبة والإنابة والشعور بالندم، قال تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة: 74]، وقال: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22]، وقال: (فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].
8ـ انتكاس الفطر وقلب الحقائق؛ فالمعروف عند الباطل منكرًا، والمنكر معروفًا، تمامًا مثل قوم لوط الذي أخرجوه من بينهم لأنهم متمسك بالطهارة والنقاء، فصارت الطهارة تهمة، والنقاء جناية، تستوجب النفي والطرد عند هؤلاء المبطلين الذين انتكست فطرهم، قال تعالى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل: 56].
9ـ إساءة استخدام النعم؛ فقد قص الله -عز وجل- علينا في قرآنه العظيم، كيف أن مشركي قريش قد امتنّ الله عليهم بأن بعث لهم الرحمة المهداة والنعمة المسداة؛ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكنهم قابلوا النعمة العظيمة بالإساءة الفظيعة، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم: 28].
10ـ رفض النصيحة؛ فما من نبي أرسله الله تعالى إلى قومه إلا وقد اجتهد في نصيحتهم وبالغ في تذكيرهم ووعظهم، ولكنهم كانوا يتكبرون على النصح ويرفضون العمل بالنصيحة، والآيات في سورة الأعراف خير دليل على تكبر هؤلاء المبطلين ورفضهم لنصيحة الرسل، تكرر ذلك مع نوح وهود وصالح وشعيب -عليهم السلام أجمعين-.
11ـ سوء الطوية وخبث النفس، قال تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ) [النساء: 108].
12ـ الترف والغرق في الملذات؛ فالمترفون هم أكثر الناس استجابة لداعي الباطل، وأسرع الفئات في تأييده، وأكثر الناس نفورًا من الحق ومناصرته، فهم يخشون من تحجيم ملذاتهم والتضييق على متعهم الجسدية ووقف نزواتهم الطائشة، قال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116].
13ـ إثارة الشبهات والشائعات المغرضة؛ فالباطل لا يدخر وسعًا في محاربة الحق بكل ما أوتي من وسائل، ومن أجل إلحاق الأذى بالحق والصد عن سبيله، يروج الشائعات ويطلق الأقاويل المبطلة والشبهات على المؤمنين وأتباع الحق، قال تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً) [الأحزاب: 60]، وقال: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: 72].
وسائل مدافعة الباطل:
تتنوع وتتدرج صور ومجالات وأشكال تطبيق سنة التدافع بين الحق والباطل ضمن إطار الحياة ووفق سياق التضاد والتمايز، ويستمر التدافع بين الجانبين حتى يؤول الوضع إلى فسطاطين واضحين، فسطاط حق لا باطل فيه، وفسطاط باطل لا حق فيه، قال تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ) [الأنفال: 37]، وقد حدد الشرع وسائل وصور مدافعة الحق للباطل:
1ـ الجهاد؛ وهو أعظمها وأكثرها أثرًا وفضلاً، جعله الله -عز وجل- ذروة سنام الدين، والقدح المعلى، والوسيلة الأسمى لإقامة شعائر الدين ورد كيد الكافرين وإبطال سعي المجرمين، شرعه الله -عزّ وجل- لرد الظلم عن المظلومين، وتأمين الحياة من شرور المفسدين، وفضله والآيات والأحاديث والآثار والوقائع الدالة على فضله وأثره وحسمه أكبر وأشهر من إعادة ذكرها في هذا المقام.
2ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهو قطب الدين الأعظم، ورمانة ميزان الدين، والغاية من إرسال المرسلين، وأقوى وسائل حفظ الدين، لذلك قد ذكره الله -عز وجل- عقب الآية التي ذكرت سنة التدافع التي شهر فيها الجهاد، فقال: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج: 41].
3ـ المجادلة بالحسنى؛ وهي صورة من صور الدعوة ذكرها الله -عزّ وجل- في عدة آيات، وهي وسيلة من أعظم وسائل رد حجج الخصم ودحر شبهات أهل الباطل، وأنبياء الله تعالى جادلوا أقوامهم في أمور الدين والتوحيد، وأبانوا لهم بطلان عقائدهم الشركية، وصبروا على عنادهم وتحجر عقولهم حتى أقاموا عليهم كل الحجج الرسالية، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].
4ـ المفاجأة والمباغتة؛ فالمفاجأة من أهم أسلحة الحق في مواجهة الباطل قديمًا وحديثًا، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على تطبيق هذه الوسيلة في معظم غزواته ومواقفه التي واجه بها الباطل، وكان دائم الابتكار في هذه الوسيلة، وغزوة الأحزاب، ثم قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ومن قبلها جميعًا طريق الهجرة، خير شاهد على تطبيق النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأسلوب.
5ـ معرفة الباطل؛ وذلك بصورة واضحة وكاملة حتى يتبين للحق سبيله، كما قال المولى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام: 55]، فكان النبي دائم السؤال عن أحوال المشركين وتفاصيل تحركاتهم، ويرسل العيون والرجال ليأتيهم بالأخبار، ففي غزوة بدر أرسل رجلين من الصحابة ليستطلعا أخبار قافلة أبي سفيان التجارية، وفي غزوة بدر أرسل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام عيونًا له لمعرفة أخبار جيش قريش، وطريقة استجوابه للأسير الذي أسره المسلمون قبل بدر دلّت على ذكاء كبير وفطنة وقدرة استنباطية عالية لمعرفة حجم الجيش وقوته.
6ـ الاستعانة بالله والتوكل عليه، ودعاؤه -سبحانه وتعالى-، وطلب المدد والعون منه وحده في كل كبيرة وصغيرة في صراع الحق مع الباطل.
التعليقات