اقتباس
خرج (عقة) المغرور ومن معه من العرب المنتصرة من المدينة للصدام مع المسلمين وأوغل في الصحراء غروراً منه لمبادرة المسلمين بالهجوم, ووصل إلي منطقة (الكرخ), وعبأ قواته النصرانية, ووصل المسلمون أرض المعركة, وعبأ (خالد) الجيش بسرعة, واستعد للقتال, ولم يكن (خالد) قد رأى (عقة) من قبل؛ فنظر إليه نظرة الفاحص الخبير بنفوس المحاربين, فعلم أن هذا الرجل شديد الغرور فقرر القيام بحيلة
الأحداث:
إعصار المسلمين يجتاح بلاد العراق
بعد أن فتح الله - عز وجل - معظم بلاد (العراق) للمسلمين, وذلك فى أربعين يوما فقط, وبعد أن فتحت (الحيرة) عاصمة الفرس العربية, وأهم مدينة بـالعراق بعد العاصمة الفارسية (المدائن), جاء الأمر من الخليفة (أبي بكر الصديق) لـ (خالد بن الوليد) أن يتوجه سريعا لإنقاذ المسلمين المحاصرين فى منطقة (دومة الجندل) ــ في شمال العراق علي الحدود مع سوريا الآن ــ , وكنا قد عرضنا من قبل فى أثناء سردنا لبداية الحملة الجهادية لفتح (العراق) أن الخليفة (أبا بكر) قد كلف كلا من (خالد بن الوليد) من ناحية الجنوب, و(عياض بن غنم) من ناحية الشمال, ليوجد بذلك حالة من التنافس بينهما؛ حيث جعل من يصل الى أولا هو القائد العام, فتقدم (خالد) وتعثر (عياض) ومن معه, وحوصروا فى منطقة منطقة (دومة الجندل) ، حاصرتهم أعداد ضخمة من القبائل العربية الموالية للفرس, وكان القائد (خالد بن الوليد) تواقاً لأن يهجم على (المدائن) عاصمة (الفرس), لينهي الوجود الفارسي تماما فى (العراق), ولكنه امتثل لأوامر قائده العام الخليفة (أبي بكر).
(النظام والجدية, وطاعة أولي الأمر فى غير معصية الله - عز وجل - من أهم عوامل النجاح, والله - عز وجل - علم أمة الإسلام درسا عظيما فى عاقبة مخالفة الأوامر؛ وذلك يوم أحد, وبين ذلك بقوله عز وجل: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) [آل عمران : 165 ].
خطر الحاميات الفارسية:
كان القائد الحربي (خالد بن الوليد) من الطراز النادر فى إدارة العمليات الحربية, بل ربما كان نسيجاً وحده, فقد رأى قبل التوجه إلى إنقاذ المسلمين المحاصرين بـ (دومة الجندل) ضرورة تأمين وضع المسلمين فى المدن المفتوحة, خاصة فى ظل وجود حاميات فارسية قوية فى المناطق المحيطة بمدينة (الحيرة) أهم مدن العراق, وعاصمة الفرس العربية, والتى كان لوقوعها في أيدي المسلمين دوى كبير فى أركان البيت الفارسي, وكانت هذه الحاميات تتركز فى منطقتين هما: (الأنبار) و (عين التمر), وبالفعل قرر (خالد) الهجوم على تلك الحاميات وإزالة التهديد الفارسي للوجود الإسلامى بالحيرة.
لم يكن (خالد) من القواد الذين ينتظرون المفاجآت, بل كان يعمل دائما على بث عيونه واستخباراته قبل خوض أية معركة, وقد نقل له سلاح الإستطلاع أوضاع المدينة من حيث موقعها ، وموقفها التحصيني, وكانت هذه المدينة شديدة التحصين مما يجعلا مسألة السيطرة عليها أمرا صعبا؛ وذلك لعدة أسباب منها:
موقع المدينة على الشاطىء الشرقى لنهر (الفرات)؛ مما يجعل بين المسلمين والفرس حاجزا مائيا يهابه المسلمون.
ومنها وجود أسوار منيعة حول المدينة, هذا غير خندق عميق متسع يحيط بالمدينة من كل ناحية, ولكن كل ذلك لم يفت فى عضد المسلمين وخطتهم الجهادية, وكان معظم أهل المدينة من النصارى, وعليهم قائد فارسي اسمه (شيرازاد), وقد جعل (خالد بن الوليد) قائدا له على المعركة؛ وهو الصحابى (الأقرع بن حابس), رغم أنه ليس من السابقين فى الإسلام, ولكنه صاحب كفاءة حربية ممتازة.
الحكمة تقتضى أن يتولى قيادة العمل من عنده الخبرة والكفاءة اللازمة لذلك العمل؛ فالأصلح قد يكون ليس هو الأفضل دينيا, ولقد علمهم ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما ولى (عمرو بن العاص) قيادة جيش فيه (أبو بكر) و (عمر) و (أبو عبيدة), ولم يكن قد مر على إسلام (عمرو) سوى أربعة شهور.
ذات العيون:
بدأ المسلمون زحفهم على المدينة الحصينة؛ فبدأوا أولا بإجتياز نهر (الفرات) على الرغم من فيضان مائه في ذلك الوقت, وعلى الضفة الأخرى كان الرعب مستوليا على أهل المدينة؛ فلم يجرؤ أحد على الخروج من المدينة لصد العبور الإسلامي, وذلك للسمعة الكبيرة للمسلمين وفتوحاتهم الهائلة وضرباتهم السريعة في أيام معدودات, والتي جعلت الجميع مكتوفي الأيدي, وبعد أن عبر المسلمون ظهرت أولى محاولات المقاومة عندما قامت مجموعة من أهل المدينة بارتقاء أسوارها, ورشق المسلمين بالسهام, وكان هذا الرمي وبالا عليهم؛ إذا اكتشف القائد الفذ (خالد بن الوليد) ان هؤلاء المقاتلين سذج لا يعرفون من فنون القتال والرمي, ولا خبرة لهم بالحرب.
أمر (خالد بن الوليد) كتيبة خاصة فى الجيش الإسلامي مكونة من أمهر رماة العرب برمي الأعداء رمياً واحداً كثيفاً, ويركزون على عيونهم, وبالفعل انطلقت تلك السهام كالطير الأبابيل, وأصابت هدفها بدقة بالغة, وفقأت قرابة الألف عين, فصاح أهل المدينة جميعا: (ذهبت عيون أهل الأنبار), وسمي هذا اليوم بذات العيون, وصاحوا وماجوا, وعمتهم الفوضى, وخرج (شيرازاد) يسأل عن الخبر؛ فلما علم أسرع لعقد صلح مع المسلمين, ولكنه اشترط شروطا لا يقرها الإسلام فى الحرب؛ فلم يوافق (خالد) عليها.
ليس كل صلح يوافق عليه, وليست كل معاهدة يصدق عليها, دون النظر لأوامر الإسلام وكم من معاهدة واتفاقية أخذت مطية لسلب الحقوق, واغتصاب الأرض المسلمة, وما إتفاقية (كامب ديفيد) و (أوسلو) منكم ببعيد.
جسر الجمال:
كان الخندق المائي يمثل مشكلة حقيقية للمسلمين, لأنه عميق ومتسع, ويحيط بالمدينة من كل مكان, ولكن ذلك لم يكن ليمنع الأسد الضاري (خالد) صاحب العقلية العسكرية الفذة؛ حيث قام بالدوران حول سور المدينة لدراسة هذا الخندق جيدا, حتى وقف عند نقطة معينة من الخندق وتأملها طويلا, ثم تفتق ذهنه عن فكرة عبقرية؛ حيث وقف على أضيق نقطة فى الخندق, وأمر بذبح كل الجمال الهزيلة والمريضة, وإلقائها عند هذه النقطة؛ فردم تلك النقطة بصنع جسر من الجمال, واستطاع المسلمون أن يعبروا بسهولة, وأصبح الجيش المسلم محيطا بأسوار المدينة من كل مكان استعدادا لاقتحامها, فاسرع (شيرازاد) وطلب الصلح من (خالد) بشروط الإسلام, على أن يخرج (شيرازاد) سالما بأهله وماله الى مكان آمن؛ فوفى له (خالد) ذلك الشرط, وبلغ مأمنه, ودخل المسلمون المدينة وأمن الناس على معايشهم.
الوفاء بالعهد أصل قرآني حافظ عليه المسلمون في كل موطن, وكان سبب إسلام كثير من الناس.
عندما عاد (شيرازاد) إلي قائد الفرس العام علي (العراق) (بهمن جاذويه) مهزوماً من الأنبار لامه (بهمن) بشدة علي مصالحة المسلمين, والتفريط في هذه المدينة الحصينة رغم ضخامة قواته, وكان (شيرازاد) رجلا عاقلا فقال: " إن هؤلاء القوم - يعني أهل الأنبار - قد قضوا علي أنفسهم بالهزيمة عندما رأوا جيش المسلمين, وإذا قضي قوم لأنفسهم بالهزيمة كاد هذا القضاء أن يلزمهم ". ففهم (بهمن) كلامه واقتنع به.
وصدق شيرازاد فيما قاله؛ فإن الهزيمة النفسية هي الهزيمة الحقيقية, هي الهزيمة التي تحطم القلوب, وتفل العزائم, وتخور معها الهمم, فلا يستطيع صاحبها معها أن يتقدم ولو خطوة واحدة للأمام, بل يظل عمره أسير ضعفه, ورهين وهمه؛ فهلا تدبر ذلك المسلمون ؟!
الغرورالصليبي:
كانت الحامية الأخري متمركزة بمدينة عين التمر, وكانت علي طريق (دومة الجندل) تراقب الأوضاع عن كثب, وكانت الحامية الموجودة بـ (عين التمر) ـ بلدة قريبة اليوم من بغداد ــ مكونة من قوتين كبيرتين: قوة فارسية بقيادة (مهران بن بهرام), وقوة عربية نصرانية مكونة من خليط من قبائل (تغلب) و (إياد) بقيادة (عقة بن أبي عقة) ــ بفتح العين والقاف ــ , وكان أحمقا مغرورا, دفع ثمن هذا الحمق والغرور غاليا؛ حيث طلب هذا الصليبي الحاقد المغرور (عقة) من القائد الفارسي (مهران) أن يخلي الساحة ليقاتل هو المسلمين وحده دون مساعدة من الفرس, وقال له: " إن العرب أعلم بقتال العرب؛ فدعنا وخالداً ", ولنا أن نفهم النفسية المريضة التي دفعت (عقة) لهذا الطلب الغريب؛ فالغرور والحقد والرغبة في الفخر والزهو, وتحقيق الأمجاد بالانتصار علي المسلمين, وقائدهم (خالد بن الوليد) صاحب الراية الميمونة, والانتصارات الباهرة كل ذلك دفع (عقة) لهذا الطلب, بل تمادى في غيه وغروره, وقرر الخروج لقتال المسلمين خارج المدينة: في الصحراء المفتوحة؛ كأنه بذلك يسعى لحتفه بقدميه كما يقولون؛ لأن الصحراء المفتوحة هي أصلا ميدان المسلمين المفضل في القتال, وعندما سمع (مهران) هذا الكلام من (عقة) قال له: "صدقت؛ لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب وإنكم مثلنا في قتال العجم, دونكموهم, وإن احتجتم إلينا أعناكم ", وكان (مهران) قد بيت في نفسه أمرا؛ وهو الأنسحاب من أمام المسلمين لعلمه أنهم لا يقهرون, وقد انتقد قادة الفرس ذلك الأمر من (مهران) وقالوا له: " ما حملك علي أن تقول هذا القول لهذا الكلب " – يعنون عقة – فقال لهم مهران: " دعوني؛ فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم, إنه قد جاءكم من قتل ملوككم, وفل حدكم؛ فاتقيته بهم؛ فإن كان لهم علـــــى
(خالد) فهي لكم, وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا؛ فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء ".
إن أعداء الدين مهما حاول أحد خدمتهم – ولو بروحه—فلن يعدوا قدره عندهم إلا قدر كلب؛ كما قالت الفرس عن أعوانهم من العرب, وهكذا وصل أعداء إلاسلام لمآربهم الخبيثة قديما وحديثا علي أكتاف طابور طويل من الكلاب, وما اكثرهم !!
أسرع هزيمة في التاريخ:
خرج (عقة) المغرور ومن معه من العرب المنتصرة من المدينة للصدام مع المسلمين وأوغل في الصحراء غروراً منه لمبادرة المسلمين بالهجوم, ووصل إلي منطقة (الكرخ), وعبأ قواته النصرانية, ووصل المسلمون أرض المعركة, وعبأ (خالد) الجيش بسرعة, واستعد للقتال, ولم يكن (خالد) قد رأى (عقة) من قبل؛ فنظر إليه نظرة الفاحص الخبير بنفوس المحاربين, فعلم أن هذا الرجل شديد الغرور فقرر القيام بحيلة بارعة شجاعة جريئة في نفس الوقت وهي خطف القائد (عقة) نفسه في عمليه فدائية أشبه ما تكون بعمليات الصاعقه فانتخب مجموعة خاصة من أبطال المسلمين وأطلعهم على الفكرة الجريئة, فوافق عليها الجميع؛ فالكل أبطال, والجميع (خالد), وبالفعل انقض (خالد) ومجموعتة الفدائيه علي صفوف العدو – وهم يقدرون بعشرات الآلاف – كما ينقض الأسد على فريسته, وكان (عقة) مشغولا بتسوية الصفوف, واندهش العدو من هذه المجموعة الصغيرة التى تهجم على عشرات الآلاف, ولم يفيقوا من هول الصدمــــــــــة إلا و (خالد) قد أسر (عقة), وحمله بين يديه كالطفل الصغير, وعاد به الى صفوف المسلمين, وعندها تجمدت الدماء فى عروق العرب المتنصرة, وركبهم الفزع الشديد؛ ففروا من أرض المعركة دون أن يسلوا سيفا واحدا فى أسرع هزيمة فى التاريخ.
واصل المسلمون سيرهم بعد هذه الضربة الخاطفة حتى وصلوا الى أسوار المدينة, وكان (مهران) وحاميته الفارسية قد عرفوا بما حل للمغرور (عقة) ومن معه, ففروا هاربين تاركين أعوانهم النصارى لمصيرهم المحتوم, وعندها أسقط فى يد نصارى المدينة ماذا يفعلون ؟ فأرسلوا إلي (خالد) يطلبون منه الصلح, ولكن (خالد) علم أن هؤلاء الذين يطلبون الصلح هم المحاربون الذين انهزموا فى أرض المعركة, وهم بالتالي لا يستحقون الأمان والصلح, وإنما أجبرهم على ذلك قرب أجلهم, ودنو هزيمتهم، فرفض (خالد) الصلح معهم؛ إذ لا أمان مع هؤلاء الخونة الكفرة, الذين باعوا أنفسهم للمشركين الأصليين عباد النار, وقاتلوا بني جلدتهم وأهل كتاب مثلهم, لا لشيء إلا بدافع الحقد والحسد وأصر (خالد) على عدم الصلح حتى ينزلوا على حكمه, وهذا معناه فى عرف الحروب أن يكون (خالد) مخيرا فى فعل أي شيء معهم: يقتلهم, يسبيهم, يعفو عنهم, المهم أنهم تحت حكمه وأمره, فلما يئس المتنصرة من نجدة الفرس لهم نزلوا على حكم (خالد بن الوليد), فألقى القبض على جميع من حمل السلاح, ثم حكم فى الحال بإعدام المحاربين, وبدأ بزعيمهم الأحمق (عقة), وسبي الذرية والأموال.
ليس فى ذلك قسوة ولا غدر كما يظن البعض ممن يتعاطفون مع المنهزم وينسون إجرامه, فما حدث لهم جزاء وفاقا لهؤلاء الذين خرجوا وفى نيتهم استئصال المسلمين, بدافع من الحقد الصليبي المحض, كما أن هذا الحكم هو حكم الله - عز وجل - كما حدث يوم أن حكم الصحابي (سعد بن معاذ) بنفس الحكم على إخوانهم فى الحقد والشقاء يهود بني قريظة؛ فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ".
وقد وجد المسلمون بمدينة (عين التمر) كنيسة يتعلم فيها أربعون صبياً الإنجيل؛ فلم يتعرض لهم (خالد) بالقتل, بل اعتبرهم من جملة السبي, وذلك من عدل الإسلام؛ فلم يأخذ هؤلاء بجريرة بني جلدتهم المقاتلين, وكان من بينهم شاب اسمه (نصير) هو أبو الفاتح الكبير (موسى بن نصير) فاتح الأندلس, وأيضا (سيرين) أبو عالم زمانه, ومفتي الأمة فى عصره (محمد بن سيرين).
وبتلك المعركة استطاع المسلمون إخلاء المنطقة الواقعة بين الحيرة ودومة الجندل من أية قوات معادية للمسلمين؛ وهي مساحة تقدر بخمسمائة كيلومتر مربع.
أهم الدروس والعبر:
**************
1ـ القائد المحنك الفطن يعرف كيف يشعل المنافسة الشريفة التي تخدم الدين وأهله
2ــ النظام والجدية والطاعة في غير معصية هي دليل الانتصار
3ـ القيادة إنما ينالها الأجدر والأحق بها في مجالها ــ القوي الأمين ــ
4ــ المعاهدات والاتفاقيات لابد أن تكون موافقة للشرع في كل بنودها
5ــ الهزيمة النفسية هي أخطر أنواع الهزائم
6ــ الجواسيس والخونة والعملاء قدرهم عند أسيادهم قدر الكلاب وأقل
7ــ عدل الإسلام وسماحته سبب في فتح القلوب قبل البلاد
أهم المراجع:
- تاريخ الرسل والملوك
- تاريخ الحلفاء
- فتوح البلدان
- المنتظم
- محاضرات فى الأمم الإسلامية
- الكامل فى التاريخ
- البداية والنهاية
- موسوعة التاريخ الإسلامي
- التاريخ الإسلامي
- الخلفاء الراشدين
التعليقات