اقتباس
الدولة العباسية نشأت فكرتها في تربة برية بعيدة كل البعد عن البحر وسواحله؛ لذلك فهي لم تكن دولة بحرية كما هو الحال مع سابقتها الدولة الأموية، لذلك فقد شهدت البحرية الإسلامية في بداية العصر العباسي جمودًا ملحوظًا خاصة في مصر والشام لفترة جاوزت الأربعين سنة، وذلك لعدة أسباب منها:
يعتبر تاريخ الدولة العباسية وعطاؤها الحضاري حافلاً بالأحداث والمواقف الفريدة، والحديث عنه يستوعب جزءًا كبيرًا من تاريخ الأمة الإسلامية؛ ذلك لأنه يتميز بعدة خصائص تجعله متفردًا بين التواريخ الخاصة بالدول الإسلامية، وأهم هذه الخصائص:
1- طول عمر الدولة العباسية؛ إذ قامت سنة 132هـ وسقطت سنة 656هـ.
2- قصر فترة القوة والسيادة التي لم تزد على قرن واحد من الزمان، مقارنة بفترة الضعف الطويلة التي امتدت لباقي عمر الدولة العباسية، أي لما يزيد على أربعة قرون.
3- ظهور العديد من الدول والمماليك الإسلامية في المشرق والمغرب، بعضها كان مستقلاً بالكلية ويناوئ الدولة العباسية ويعاديها مثل الدولة الأموية في الأندلس والدولة الفاطمية أو العبيدية في المغرب ثم مصر، والبعض الآخر مستقلاً تمامًا ولكن يدين بالولاء الظاهري للخلافة العباسية، مثل الدولة الغزنوية في خراسان والأغالبة في تونس والطولونية ثم الأخشيدية في مصر... وغير ذلك كثير.
4- ضعف السلطة المركزية للخلافة وتحول منصب الخلافة لرمز ديني وشرفي مع بداية القرن الرابع الهجري.
5- كثرة الصراعات الداخلية بين القوميات والطوائف والعرقيات، مثل الصراع بين السنة والشيعة، والأتراك والفرس، والأكراد والترك.
6- هجوم أوروبا الغربية على العالم الإسلامي في الحملات الصليبية الشهيرة التي استمرت لقرنين من الزمان ومثلت أهم حدث تاريخي في القرون الوسطى.
7- بروز دور البحرية الإسلامية المستقلة أو ما عرف بغزاة البحر المتطوعين على حساب الأساطيل النظامية، وذلك لكثرة الصراعات الداخلية والجانبية بين الدول والممالك الإسلامية، بحيث انشغلت عن قضية الجهاد بشقيه البحري والبري على حد سواء، كما أن الخلافة العباسية لم تهتم بالبحرية الإسلامية إلا في عصر قوتها، ثم أوكلت ذلك الثغر الجهادي للدول والممالك الإسلامية الأخرى التي ظهرت من تحت عباءتها وقامت في أطرافها البعيدة في المشرق والمغرب.
أولاً: البحرية في العصر العباسي الأول:
الدولة العباسية نشأت فكرتها في تربة برية بعيدة كل البعد عن البحر وسواحله؛ لذلك فهي لم تكن دولة بحرية كما هو الحال مع سابقتها الدولة الأموية، لذلك فقد شهدت البحرية الإسلامية في بداية العصر العباسي جمودًا ملحوظًا خاصة في مصر والشام لفترة جاوزت الأربعين سنة، وذلك لعدة أسباب منها:
1- انتهاج الدولة العباسية سياسة مشرقية، وتطلعت بوجهها نحو خراسان وشرق المعمورة عن شؤون البحر، ونفضت يدها من محاربة البيزنطيين في البحر المتوسط.
2- كثرة المشاكل الداخلية والثورات والاضطرابات التي واكبت قيام الدولة العباسية وخلال السنوات الأولى في عمرها.
3- انصراف الدولة البيزنطية عن العمليات البحرية ضد العالم الإسلامي بسبب النزاعات الداخلية التي بدأت منذ اعتلاء ليو الخامس الأرمني العرش البيزنطي وثورة توماس الصقلي التي احتدمت سنة 205هـ - 820هـ، ثم الصراع مع البلغار منذ عهد قسطنطين السادس وأمه إيرين.
4- الانفصال السياسي الكبير الذي حدث في بلاد الأندلس عندما أقام الأمويون لأنفسهم دولة مهمة تنافس دولة الخلافة العباسية على أرض الأندلس، وتطلع الأمويون بالأندلس للقيام بدور بحري كبير، وهم أصحاب خبرة سابقة كما أسلفنا.
بدأت الدولة العباسية تهتم بالبحرية الإسلامية ابتداءً من عهد هارون الرشيد الذي وصلت الدولة في أيامه إلى أوج قوتها؛ بسبب السياسة الجهادية المكثفة التي اتبعها الرشيد ضد الدولة البيزنطية، واهتم الرشيد بأمر الثغور والأسطول فولى حميد بن معيوف سواحل الشام ومصر سنة 190هـ، فغزا جزيرة قبرص عندما نكث أهلها العهد، وغزا جزيرة كريت، سعى الرشيد لإيجاد نوع من التوازن مع الدولة الأموية في الأندلس، وأثمرت تلك السياسة الضاغطة عن عودة السيطرة الإسلامية على الحوض الشرقي للبحر المتوسط.
غير أن التفوق البحري الإسلامي الذي حدث في الحوض الشرقي للبحر المتوسط في بداية القرن الهجري الثالث لم يكن بفضل جهود الدولة العباسية أيام هارون الرشيد وحفيده جعفر المتوكل، ولكن بفضل جهاد غزاة البحر المتطوعين ومعظمهم من الأندلسيين، ونشاط البحرية في دولة الأغالبة التي حكمت تونس وإفريقية من سنة 185هـ حتى سنة 296هـ، فالأندلسيون فتحوا جزيرة كريت سنة 212هـ، وفي العام نفسه كانت أساطيل الأغالبة بقيادة القاضي الفقيه المحدث أسد بن الفرات تقتحم جزيرة صقلية، وكان فتح كريت وصقلية قمة النجاح البحري في العصر الأول للدولة العباسية.
ثانيًا: البحرية في العصر العباسي الثاني:
يبدأ العصر العباسي الثاني بعد مقتل الخليفة العباسي جعفر المتوكل سنة 247هـ، وكان المتوكل آخر الخلفاء الأقوياء في الدولة العباسية، وأيضًا آخر من اهتم منهم بالشؤون البحرية، واستقبلت الدولة برحيله عهدًا جديدًا، صارت فيه الكلمة النافذة للقادة الأتراك الذين يقودون الجيش في بغداد، وهي فاتحة عهد الضعف الطويل الذي سيتعالى يومًا بعد يوم حتى السقوط النهائي.
خلال ذلك العصر الطويل كان لولاة الأقاليم استقلالية كبيرة في إدارة شؤون الأقاليم التي تحت أيديهم، بحيث إن الوالي صار أشبه ما يكون بملك في إقليمه، وتلك اللامركزية في إدارة شؤون الدولة لم تكن لتظهر للوجود لولا ضعف مركز الخلافة وتراخي قبضتها، والشاهد من الكلام أن تلك السياسة قد أفرزت ظهور العديد من الولاة الأقوياء الذين أقاموا دويلات داخل جسد الخلافة، بعض تلك الدويلات كان أكبر نفوذًا وأكثر اتساعًا من الدولة العباسية نفسها، ولحسن طالع الأمة الإسلامية أن تلك الدول كانت من عوامل بقاء الخلافة العباسية نفسها ومن أهم أسباب استدامة حركة الفتوحات البحرية، وسوف نعرض في عجالة للدور البحري الكبير الذي قامت به دولتان من أهم الدويلات البحرية وهما الدولة الطولونية ودولة الأغالبة.
البحرية في الدولة الطولونية (254هـ - 292هـ):
على الرغم من قصر عمر تلك الدولة إلا أن ذكاء مؤسسها ورمزها الأمير أحمد بن طولون وحبه للجهاد جعل منها دولة قوية تحكم مصر والشام والحجاز واليمن على الرغم من العداء الشديد الذي كان بين أحمد بن طولون والأمير الموفق بالله قائد الجيوش العباسية وأخي الخليفة المعتمد بالله، ومحاولات الموفق الكثيرة لعزل ابن طولون.
أحمد بن طولون اهتم بشدة ببناء أسطول بحري قوي يحمي دولته ذات السواحل الطويلة من هجمات البيزنطيين، كما قام ببناء حصن ضخم بجزيرة الروضة، فكان بذلك أول من فكّر في تأمين مجرى النيل من غارات الأعداء الذين قد يدخلون إليه عبر دمياط أو رشيد، واستحضر أمهر صناع السفن من أجل بناء سفن قتالية كبيرة [الشواني] ونشرها عبر سواحل مصر والشام لحماية الثغور من عدوان البيزنطيين.
وعلى نفس نهجه سار ولده خمارويه من بعده فزاد في عتاد الأسطول وعدد سفنه وعمل على التصالح مع أمير طرسوس الذي كان منافرًا لأبيه، لأهمية قاعدة طرسوس البحرية في قطع الطريق على الأساطيل البيزنطية ومنع تقدمها نحو السواحل المصرية، ولكن للأسف برحيل خمارويه سنة 282هـ ذهبت قوة البحرية الطولونية، بل ذهبت سعادة الدولة كلها ولم تلبث بعده إلا قليلاً.
البحرية في دولة الأغالبة ( 184هـ - 296هـ):
نظرًا لكثرة الفتن والانتفاضات في بلاد المغرب خاصة من جانب القبائل البربرية التي انتشر فيها فكر الخوارج الصفرية والإباضية بما يحمله من ثورية وخروج على السلطة الحاكمة، فلم تجد حكومة الخلافة أيام هارون الرشيد خيرًا من أن تعهد بحكم البلاد لعائلة عربية مستوطنة المغرب منذ فترة، لتتولى مؤونة تلك الفتنة، لبعد المنطقة عن الحكومة المركزية في العراق، فكلف هارون الرشيد قائده إبراهيم بن الأغلب التميمي سنة 184هـ بتلك المهمة الشاقة، وبذلك يكون هارون الرشيد قد دسّ فكرة الدويلات صاحبة الطابع الأسري الوراثي، وعلى نسقها ستظهر دويلات أخرى بعد ذلك في المشرق والمغرب، مثل الدولة الطاهرية والدولة السامانية في المشرق، والدولة الطولونية والدولة الإخشيدية في بلاد الشام ومصر وغير ذلك كثير.
ظلت دولة الأغالبة بإفريقية [تونس] والشمال الإفريقي لما يزيد على قرن من الزمان، ويعتبر عهدها من أزهى عصور إفريقية في شتى المجالات، وبالأخص في المجال البحري الذي كان للأغالبة فيه القدح المعلي في أوائل القرن الثالث الهجري وذلك لعدة أسباب؛ منها:
1- امتداد سواحل الدولة أو الدويلة من طرابلس شرقًا حتى بجاية [بالجزائر] غربًا، وهذا الأمر يستلزم بحرية قوية تدافع عن هذه السواحل الطويلة ضد هجمات البيزنطيين، بل توجه إليهم الغزوات في عقر دارهم.
2- توافر المهارات والقدرات والكفاءات البحرية لأهل هذه البلاد وخبرتهم الواسعة مع البحر وشؤونه، وكذلك خبرتهم بالبيزنطيين الذين احتكوا بهم طويلاً أيام الاحتلال البيزنطي للشمال الإفريقي.
3- توافر المواد الخام اللازمة لبناء الأساطيل، وتوافر الأيدي العاملة الماهرة، ووجود مراكز صناعة السفن في تونس منذ أيام جابر بن النعمان.
4- تنامي الروح الجهادية عند أهل تلك البلاد بعد فترة الاضطرابات الطويلة، وذلك بفضل انتشار المذهب المالكي ووجود عدد كبير من تلاميذ الإمام مالك، منهم أسد بن الفرات والبهلول بن راشد وابن عمر الرعيني وغيرهم.
حققت البحرية الأغلبية فتوحات بحرية كانت الأبرز والأهم في القرن الثالث الهجري؛ فقد افتتحوا جزيرة صقلية كبرى جزر البحر المتوسط سنة 213هـ، ثم افتتحوا جزيرة مالطة سنة 255هـ، وأغاروا على جزيرة سردانية عدة مرات حتى كادوا أن يفتحوها، وبفضل تلك الإنجازات البحرية عرف المسلمون كيف يهددون إيطاليا وجنوب أوروبا الغربية كلها، وسيطروا على البحر التيراني، بل ويغيروا على روما القديمة نفسها.
التعليقات