اقتباس
ولقد تناول القرآن الكريم السؤال في مواضع وموضوعات تركز على الأهمية المنهجية للسؤال، وفي مقدمتها السؤال عن السؤال نفسه، إقرارًا منه لقيمته المعرفية والعلمية، ودوره في تأدية الرسالة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- للعالمين، حتى غدا السؤال في القرآن منهجًا واضحًا متميزًا، ولعل أهم ما يميز موضوع السؤال في القرآن والسنّة أنه يقوم على فقه خاص به، نستطيع أن نصفه بعلم السؤال في القرآن الكريم والسنّة، كأحد أنواع علوم القرآن الكريم والسنّة التي لم تذكرها كتب علوم القرآن والسنّة في الماضي، فهذا علم متكامل، له أسبابه ومناهجه وموضوعاته وأهدافه، وله قيمته المعرفية والعلمية التي ينبغي إظهارها وبلورتها بين المناهج المعرفية.
للسؤال مكانة معتبرة في اللغة العربية ولسان العرب، إذ شمل لسان العرب العديد من الصيغ اللغوية التي تفيد معنى السؤال، سواء كانت بألفاظ السؤال المباشرة، مثل: ماذا، وأين، وكيف، ومتى، وهل، وغيرها، أو بإدخال أحرف السؤال على بداية الكلمة، مثل أحرف الهمزة والمد، وهناك السؤال الاستفهامي، والسؤال الاستنكاري، والسؤال التعجبي، وغيرها، فهذه أنواع تشمل السؤال في اللغة العربية، وأساليب تعبيرها عن طريق طلبها للأشياء والمعاني، وجاء في معجم مقاييس اللغة: (السين والهمزة واللام كلمة واحدة، يقال: سأل يسأل سؤالًا ومسألة، ورجل سؤالة: كثير السؤال).
السؤال عنوان عقل السائل وأدبه، والمرء بلا عقل ولا أدب، لا قيمة له، ومن الفروق الجوهرية بين العاقل والجاهل، أن العاقل لا يقول كل شيء، في كل موضع، لكل أحد، وأما الجاهل فلا يحسن هذا التفريق. والسؤال نصف العلم. والسؤال ابن القلق الخلاّق، وسبيل المبدع إلى مزيد من الخلق والإبداع. وربما تكون أعظم فيوضات العقل البشري وأعظم محفزاته وهمومه هي: من أين؟ إلى أين؟ كيف؟ ولماذا؟ وستبقى من أهم ما يدفعه صعداً وإلى الأمام. واعلم أن السؤال في مواضع الحاجة، وفي مواطن الإشكال ولطلب المزيد من العلم والاستبصار، مما جرت عليه عادة الأخيار في الأعصار والأمصار، وهو -أعني السؤال- واجب عن العلم الواجب، وفضل عن العلم الذي هو فضيلة، والسؤال مفتاح يتوصل به إلى ما في الصدور والقلوب، من معاني العلوم وأسرار الغيوب.
أسلوب طرح الأسئلة أسلوب قرآني ونبوي، استخدم -كثيراً- في نصوص الشرع الحنيف، وفي الكثير من الآيات كان الله -عز وجل- يطرح الأسئلة في سياقها القرآني ثم يجيب عليها بما يشفي الصدور ويهدي المؤمنين ويضل الكافرين، والخطيب الذكي لا يثير التساؤلات ويتركها معلّقة دون إجابات، بل يجيب عليها. والملاحظ عليه أنه يكثر من سؤال "لماذا" الذي يعقبه جواب يحمل الثقة والأمل مثل أن يقول:"والآن، لماذا؟ هذه هي الحقيقة التي يجب قبولها؟ لماذا؟ لأن الاتفاق خير من الافتراق؟ لأنه لا يمكن أن يكون أحد على صواب كل الوقت، وهكذا أمثال هذه الأسئلة والإجابة عليها، وللأسف يقع كثير من الخطباء في خطأ كبير عندما يطرحون أسئلة على السامعين ويتركونها دون إجابات حاسمة، فيصاب السامع بالحيرة والتردد، ويترك المجال مفتوحاً أمام الظنون والأوهام، كل حسب هواه ومراده.
وللسؤال في الوحي المعصوم (القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة) مكانة بيانية كبيرة، وأهمية منهجية معرفية وعلمية عظيمة، نستقرئها من خلال مطالبة القرآن الكريم والسنّة بالإجابة على الأسئلة العميقة والكبيرة والواسعة، فالوحي قد أقر مكانة السؤال معرفيًا، وجعل له منهجية معتبرة، وهذا ملاحظ بكثرة وروده وتنوعه، بغض النظر عن السائل إن كان نبيًا أو مؤمنًا أو مشركًا أو كافرًا، ما دام السؤال يحمل العلم الذي فيه الخير والكرامة للناس والمسلمين والمؤمنين، وأن الغاية من السؤال هو إثبات الحق، والمعرفة النافعة للناس، سواء بالإجابة المباشرة أو عن طريق تفسير ظاهرة كونية أو بيان فائدة وجودها في الطبيعة.
ولقد تناول القرآن الكريم السؤال في مواضع وموضوعات تركز على الأهمية المنهجية للسؤال، وفي مقدمتها السؤال عن السؤال نفسه، إقرارًا منه لقيمته المعرفية والعلمية، ودوره في تأدية الرسالة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- للعالمين، حتى غدا السؤال في القرآن منهجًا واضحًا متميزًا، ولعل أهم ما يميز موضوع السؤال في القرآن والسنّة أنه يقوم على فقه خاص به، نستطيع أن نصفه بعلم السؤال في القرآن الكريم والسنّة، كأحد أنواع علوم القرآن الكريم والسنّة التي لم تذكرها كتب علوم القرآن والسنّة في الماضي، فهذا علم متكامل، له أسبابه ومناهجه وموضوعاته وأهدافه، وله قيمته المعرفية والعلمية التي ينبغي إظهارها وبلورتها بين المناهج المعرفية، وله فوائده التعليمية وتطوير وسائل المعرفة والعلم، فمنهجيته الأساسية تقوم على أربعة أركان هي: عرض الصيغة الصحيحة للسؤال. تصحيح مسار السؤال وتركيزه. الجواب الصحيح للسؤال الصحيح. تعميم الفائدة. وكل ذلك من أجل أن يحقق السؤال الغاية منه، وليس مجرد طرحه أو الإجابة عنه فقط.
ولفقه السؤال عدة تقنيات لابد للخطيب من اتباعها حتى يحقق من أسلوب طرح الأسئلة والجواب عليها أعظم استفادة ممكنة لجمهور المسلمين ، من أبرزها :
1 ـ التخطيط للسؤال:
حيث يقوم الخطيب بدراسة مادته الخطابية، وتحديد أهدافها قبل أن يعد الأسئلة عليها، فالأسئلة تنبع من أهداف الخطبة، وتنشق منها، وتصمم من أجل قياسها، ولذا يحرص الخطيب الماهر على ثلاثة أمور: إعداد الأسئلة وكتابتها. المحافظة على تسلسل معين لها. التدريب على إلقائها. والناظر في السنة النبوية يلحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يقدم الأسئلة يخطط لها جيداً، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: عن ابن عباس -رضي ا? عنهما-:أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم النحر فقال:"يا أيها النـاس أي يوم هذا؟ ". قالوا: يوم حرام، قال: "فأي بلد هذا". قالوا: بلد حرام، قال: "فأي شهر هذا" قـالوا: شهر حرام، قال: " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ". فأعادها مراراً، ثم رفع رأسه فقال: "اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت". قال ابن عباس -رضي ا? عنهما-: فو الذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته:"فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض". ففي هذا الحديث تبين أن النبي قد خطط لأسئلته جيداً ونوعها، في السؤال عن البلد والشهر واليوم؛ ليرسخ في أذهان الحاضرين ما يريد إبلاغه من أمور مهمة وخطيرة في حياة المجتمع الإسلامي.
2 ـ التواصل مع المستمعين:
فيجب على الخطيب من أجل تحقيق هذا الأمر أن يراعي ما يلي: أن يحافظ على اتصال عيني مع المستمعين، وأن يكون الاتصال ودياً وليس بعيون حادة أو قلقة. أن يخاطب بأفضل وأحب العبارات المخاطب بها مثل: يا أيها المؤمنون، يا أحباب النبي، يا طلاب الجنة، يا جند الله وهكذا، حيث أوضحت دراسات أن قدرة المستمعين على الاستماع والتأثر تزداد إذا شعر بأن الخطيب يتعامل معهم بود وتقدير واحترام وإجلال. ومن خلال تتبع السنة يظهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحافظ على التواصل مع الصحابة، ويقدم لهم كل ما يحتاجونه وخير دليل على ذلك جاء في حديث زينب أنها قالت كنت في المسجد، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "تصدقن ولو من حليكن". وكانت زينب تنفق على عبد ا? وأيتام في حجرها، قال: فقالت لعبد ا?: سل رسول الله: أيجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيتامي في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول ا?، فانطلقت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوجدت امرأة من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي، فمر علينا بلال، فقلنا: سل النبي: أيجزي عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري، وقلنا: لا تخبر بنا، فدخل فسأله، فقال: "من هما ". قال: زينب، قـال: "أي الزيانب". قال: امرأة عبد ا?، قال: "نعم لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة".
ونلحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من كثرة التواصل مع أصحابه كان يعلم ما يدور في بالهم وخواطرهم، وخير دليل على ذلك أن مالك بن الحويرث قال: "أتينا النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن شبابة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله رفيقاً، فلما ظن أنَّ قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، قال: "ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعِّلموهم ومروهم". وذكر أشياءً أحفظها أو لا أحفظها: "وصُّلوا كما رأيتموني أصِّلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم".
3 ـ طرح الأسئلة المتتالية:
حيث تشير الدراسات إلى أن الأسئلة يجب أن تتخلل مدة الإلقاء، فحين يوضح الخطيب مفهوماً أو علاقة يفضل أن يقدم عدداًمن الأسئلة يمكن أن تنقل المستمع إلى مفهوم أو علاقة جديدة. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم-يستخدم الأسئلة المتتالية قبل أن يوضح المفهوم الذي يريده، وخير شاهد على هذا المنحى: أن رسول ا? خطب الناس يوم النحر فقال: "يا أيها الناس أي يوم هذا؟". قالوا: يوم حرام، قال: "فأي بلد هذا؟ ". قالوا: بلد حرام، قال:" فأي شهر هذا؟". قالوا: شهر حرام، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا". فأعادهـا مراراً، ثم رفع رأسه فقال: "اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت". قال ابن عباس -رضي ا? عنهما-: فو الذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته: "فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض".
وكذلك يتضح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عمد إلى استخدام الأسئلة المتتالية وخير دليل على ذلك ما رواه البخاري أنه لما فتحت خيبر أهديت للنبي شاة فيها سم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "اجمعوا إلي من كان هاهنا من يهود". فجمعوا له، فقال: "إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه". فقالوا: نعم، قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-:"من أبوكم ". قالوا: فلان، فقال: "كذبتم، بل أبوكم فلان". قالوا: صدقت، قال: "فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألت عنه". فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: "من أهل النار؟". قالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تخلفونا فيها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اخسؤوا فيها، وا? لا نخلفكم فيها أبدا". ثم قال :"هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه". فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟". قالوا: نعم، قال: "ما حملكم على ذلك؟". قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح، وإن كنت نبياً لم يضرك".
4 ـ الأسئلة الختامية:
إن وجود الأسئلة في نهاية كل فقرة أو إثارتها بشكل مستمر في أثناء الخطبة؛ يجعل الخطيب يتأكد من استيعاب الفكرة والهدف قبل أن ينتقل إلى فكرة جديدة. ويلحظ أن السنة النبوية حافلة بالأسئلة الختامية ويتضح ذلك من خلال ما جاء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أنفق زوجين في سبيل ا?، نودي من أبواب الجنة: يا عبد ا? هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة". فقال أبو بكر -رضي ا? عنه-: بأبي أنت وأمي يا رسول ا?، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال:"نعم، وأرجو أن تكون منهم". يظهر ذلك من خلال الحديث السابق حيث أنه وفي ختام عرض النبي لأصناف الداخلين من أبواب الجنة، سأله أبو بكر -رضي ا? عنه-، وهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها فأجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بنعم، ورجا ا? أن يكون هو منهم.
5 ـ امتزاج السؤال بصيغ التشويق والترغيب والترهيب:
فكثيراً ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعمد إلى مزج صيغة السؤال بصيغة ترغيب أو ترهيب أو تشويق، حسب المعنى الذي قصده من سؤاله، أو حسب المناسبة التي أثير فيها السؤال، ولفهم معنى الترغيب والتشويق إما من بداية السؤال بأداة محددة، أو من خلال المعنى العام للسؤال بما يتضمن من حث على أداة الاستجابة المطلوبة، ويتبين ذلك التشويق -مثلاً- من خلال قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا تعجبون كيف يصرف ا? عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً، وأنا محمد". وهنا يظهر مزج النبي السؤال بصيغة الحض والترغيب والتشويق في قصة ضيف النبي الذي أتى إلى رسول الله فقال: يا رسول ا?، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا رجل يضيفه هذه الليلة، يرحمه ا?". فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول ا?، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول ا?، لا تدخريه شيئاً، قالت: وا? ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي، فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول ا?، فقال: "لقد عجب ا? -عز وجل-، أو: ضحك من فلان وفلانة".
وكثيراً ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعمد إلى مزج أسلوب السؤال بأسلوب الترهيب حسب المعنى الذي يقصده من سؤاله، أو حسب المناسبة التي أثير فيها السؤال، ولفهم معنى الترهيب إما من ابتداء السؤال بأداة محددة، أو من خلال المعنى العام للسؤال بما يتضمن من حث على أداة الاستجابة المطلوبة ونرى أنه قد مزج النبي- صلى الله عليه وسلم- أسلوب السؤال بأسلوب الترهيب ويتضح ذلك من خلال قوله: "ألا أحدثكم حديثا عن الدجال، ما حدث به نبي قومه: إنه أعور، وإنه يجيء معه بمثال الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه"، وفي هذا الحديث ما يدل على هذه الآلية حيث امتزج السؤال بصيغة الترهيب من الجواب المتوقع في قوله -صلى الله عليه وسلم: " ألا أحدثكم حديثاً عن الدجال ؟ ".
ويستمر مزج الرسول للسؤال بأسلوب الترهيب ويظهر جلياً ذلك من قوله: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر". قلنا: بلى يا رسول ا?، قال: "الإشراك با?، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور". فما زال يقولها، حتى قلت: لا يسكت. وفي هذا الحديث ما يدل على هذه الآلية حيث امتزجت صيغة السؤال بصيغة الترهيب من الجواب المتوقع في قوله -صلى الله عليه وسلم-: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" فهنا كان يرهب النبي أصحابه من خطورة أشياء قد توقع بهم في نار جهنم.
6 ـ استثمار المناسبات:
حيث إن استثمار الوقت المناسب والظرف الملائم من الآليات المساعدة على فهم السؤال وتحقيق المطلوب منه، ويتضح ذلك من خلال الهدي النبوي الشريف في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى شيخاً يهادى بين ابنيه، قال: "ما بال هذا؟". قالوا: نذر أن يمشي. قال:"إن ا? عن تعذيب هذا نفسه لغني". وأمره أن يركب. ويظهر ذلك من هذا الحديث حيث استغل النبي -صلى الله عليه وسلم- مناسبة رؤيته للشيخ يهادى بين ابنيه، سأل عن سبب ذلك، ووجه الآلية من خلال حكم شرعي لأصحاب الأعذار. وفي موقف آخر يستثمر النبي-صلى الله عليه وسلم- المناسبات في تعليم وتوجيه وتنبيه الصحابة وخير شاهد على هذا المنحى ما جاء في السنة النبوية أن الصحابة كانوا مع النبي في بقيع الغرقد في جنازة، فقال: "ما منكم من أحد، إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار". فقالوا: يا رسول ا?، أفلا نتكل؟ فقال : "اعملوا فكل ميسر. ثم قرأ :"فأما من أعطى واتقى.وصدق بالحسنى - إلى قوله – للعسرى". ففي هذا الحديث استثمر النبي جلوس الصحابة في بقيع الغرقد في جنازة، ووجه قوله لهم بأن كل واحد قد كتب مقعده، واستدل لهم على ذلك بالآية الكريمة السابق ذكرها.
7-تنوع مقاصد الأسئلة:
وذلك بأن يكون السؤال له مقاصد متنوعة، حتى يستطيع الخطيب أن يوصل أكبر كم من الأفكار والأهداف من خلال طرح هذه الأسئلة على المستمعين، وهناك الكثير من الشواهد على هذه الآلية، ويتبين أنه في السنة النبوية تعددت أسئلة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أشياء لإكساب المعلومات والخبرات للصحابة ومن بعدهم، فكان من تنوع مقاصد الأسئلة لتشمل السؤال الذي يقيس مهارة عقلية، وخير شاهد على هذا المنحى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا تعجبون كيف يصرف ا? عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً، وأنا محمد". حيث يظهر من خلال السؤال تركيزه على تحديد المدلول الحقيقي للكلمات، وهذا لا يدركه إلا نبي فطن، فإذا كان الكفار يشتمون مذمماً في إشارة منهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقلب منهم باسمه الشريف فان الشتم بذلك لا ينصرف إليه لأن اسمه محمد وليس مذمم. وكذلك ذهب النبي إلى هذا المنحى في أحاديث أخرى، ويتضح ذلك من قول أبي عثمان قال: "أنبئت أن جبريل -عليه السلام- أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أم سلمة، فجعل يحدث ثم قام، فقال النبي -صلى ا?عليه وسلم- لأم سلمة: "من هذا؟ ". أو كما قال، قال: قالت: هذا دحية، قالت أم سلمة: وأيم ا? ما حسبته إلا إياه، حتى سمعت خطبة نبي ا? -صلى ا? عليه وسلم- بخبر جبريل. ففي هذا الحديث قاس النبي -صلى الله عليه وسلم- مقدرة زوجته أم المؤمنين أم سلمة على التمييز بين الأشباه ومدى فراستها؛ فسألها عن جبريل -علية السلام- بقوله لها: من هذا؟.
8-التنويع في أساليب الأسئلة:
وذلك باستخدام أدوات الاستفهام المعروفة في اللغة العربية التي تعطي دلالات مختلفة، ومنها:
1-ما: ويستفهم بها عن غير العاقل. ويتبين ذلك من خلال ما رواه البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الكسوف، فقال: "دنت مني النار،حتى قلت: أي رب وأنا معهم، فإذا امرأة -حسبت أنه قال- تخدشها هرة، قال: ما شأن هذه؟ قالوا:حبستها حتى ماتت جوعاً".
2-ماذا: ويستفهم بها أيضا عن غير العاقل. ويتبين ذلك من خلال ما رواه البخاري عن أنس -رضي ا? عنه-: أن رجلا سأل النبي عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: "وماذا أعددت لها". قال: لا شيء، إلا أني أحب ا? ورسوله، فقال: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فأنا أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.
3-من: ويستفهم بها عن العاقل". ويتضح ذلك من خلال قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى ا? ورسوله. قال محمد بن سلمة: أتحب أن أقتله يا رسول ا?؟ قال: "نعم". قال: فأتاه: فقال: إن هذا -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- قد عنانا وسألنا الصدقة، قال: وأيضاً، و ا? لتملنه، قال: فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه، حتى ننظر إلى ما يصير أمره، قال: فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله.
4-كيف: ويطلب بها تعيين الحال. والشاهد على ذلك ما رواه البخاري عن عبد ا? بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً مذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه، ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "القني به". فلقيته بعد، فقال: "كيف تصوم". قلت: كل يوم، قال: "وكيف تختم ". قلت: كل ليلة، قال: "صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر". قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم ثلاثة أيام في الجمعة". قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: "أفطر يومين وصم يوماً". قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم أفضل الصوم، صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة". فليتني قبلت رخصة رسول ا?، وذاك أني كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار، ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً، وأحصى وصام أياماً مثلهن، كراهية أن يترك شيئاً فارق النبي عليه.
5-أين: ويطلب بها تعيين المكان. ويتبين ذلك مما رواه البخاري أنه جاء بلال إلى النبي -صلى ا? عليه وسلم- بتمر برني، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أين هذا؟". قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع، لنطعم النبي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "أوه أوه، عين الربا عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به".
6-أي: ويطلب بها تمييز أحد الأمور المتشاركين في أمر يعمها. ويتبين ذلك من خلال ما رواه البخاري عن عائشة -رضي ا? عنها-: قلت: يا رسول ا?، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال:"إلى أقربهما منك باباً".
7-هل: ويطلب بها التصديق فقط، أي معرفة وقوع النسبة أو عدم وقوعها ويتبن ذلك ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع -رضي ا? عنه قال: كنا جلوساً عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها، فقال:"هل عليه دين؟". قالوا: لا، قال: "فهل ترك شيئا؟". قالوا: لا، فصلى عليه. ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول ا?، صل عليها، قال: "هل عليه دين؟". قيل: نعم، قال: "فهل ترك شيئا؟". قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها. ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها، قال:"هل ترك شيئا". قالوا: لا، قال: "فهل عليه دين؟". قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "صلوا على صاحبكم". قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول ا? وعلي دينه، فصلى عليه.
8-الهمزة: ويطلب بها أحد أمرين: إما تصور، أو تصديق، فالتصور يكون حين يسأل بها عن المفرد الذي قد يكون اسماً، وقد يكون فعلاً، والتصديق يكون حين يسأل بها عن نسبة تردد الذهن بين ثبوتها ونفيها. ويتبين ذلك من خلال قوله -صلى الله عليه وسلم-: عن جويرية بنت الحارث -رضي ا? عنها: أن النبي دخل عليها يوم الجمعة، وهي صائمة، فقال: "أصمت أمس؟". قالت: لا، قال: "أتريدين أن تصومي غداً؟". قالت: لا، قال:"فأفطري".
مجالات أسلوب السؤال والجواب:
1-إخراج المستمعين من أسر الظنون والأوهام والتخرصات في فهم الظواهر المحيطة وطبيعة الأشياء، بل والتساؤل عن مآلات الأمور، وهذا ظاهر من سؤال الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم عن الساعة وإماراتها وعلاماتها وأصناف الناس يومها، ودروب الفتن وأزمنة الغربة، وعن أمور دينهم ودنياهم وما أشكل عليهم فهمه من ألفاظ قد تكون غريبة علي مسامعهم، كما ورد في حديث الرويبضة وحديث الوهن، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يستخدم هذا الأسلوب ويفعّله -دائماً- مع الصحابة، فيبادر هو بطرح التساؤلات عليهم؛ ليستخرج ما عندهم من طاقات ومواهب وقدرات، وهذا ظاهر ومشاهد في كثير من أحاديثه -صلى الله عليه وسلم.
2-تحرير المستمعين من أسر الخرافات والأساطير التي سيطرت على عقول الكثير من البشر الذين استمتعوا بالتنازل عن عقولهم وانمحت عندهم الفوارق بين الممكن والمستحيل، ويظهر هذا الأثر بكثرة في كتاب الله -عز وجل- الذين حمل أكثر من ستين آية جاءت بصيغة التساؤل، مثال تساؤل الأنبياء لأقوامهم الذين عبدوا الأصنام وصدقوا الأساطير والخرافات عن مدى صحة هذه المعبودات الباطلة، كما جاء في قصة إبراهيم -عليه السلام- عندما سأل قومه كما جاء في سورة الشعراء: (هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)، فلم يكن لهم إجابة معقولة على تساؤلات إبراهيم -عليه السلام- سوى أنها موروثات الآباء والأجداد.
3-كسر جدار العجز والإحباط الذي تعاني منه الأمة التي ظلت لقرون لا تجرؤ على طرح أسئلة جريئة عن سبب التأخر والتخلف الذي ضرب الأمة ورجع بها من سلم الريادة إلى ذيل الركب، فالمتسائل مثله كمثل من يلقي حجراً في بركة راكدة، أسن ماؤها من طول الركود، فيثير العديد من الدوائر المتتابعة، مما جعل دائرة المفاهيم تتسع وتتعمق وهذا يقود بدوره إلى ريادة فكرية وتقدم معرفي وكلاهما جناحي طائر التقدم والرقي.
4-إثبات قدرة الله الشاملة، حيث يعتبر السؤال منهجًا عقليًا في إثبات قدرة الخالق -سبحانه وتعالى-، ومنها قول الله –تعالى-: (ولئِنْ سألْتهُمْ منْ خلق السّمواتِ والأرْض ليقُولُنّ الله قُلِ الْحمْدُ لِلّهِ بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلمُون) [لقمان:25]، وقال الله: (ولئِنْ سألْتهُمْ منْ خلق السّمواتِ والأرْض ليقُولُنّ الله قُلْ أفرأيْتُمْ ما تدْعُون مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ أرادنِي الله بِضُرٍّ هلْ هُنّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أوْ أرادنِي بِرحْمةٍ هلْ هُنّ مُمْسِكاتُ رحْمتِهِ قُلْ حسْبِي الله عليْهِ يتوكّلُ الْمُتوكِّلُون )[الزمر:38]، وقال الله: ( ولئِنْ سألْتهُمْ منْ خلق السّمواتِ والأرْض ليقُولُنّ خلقهُنّ الْعزِيزُ الْعلِيمُ) [الزخرف:9]، وقال الله: ( ولئِنْ سألْتهُمْ منْ خلقهُمْ ليقُولُنّ اللهُ فأنّى يُؤْفكُون) [الزخرف: 87]، وقال الله: ( ولئِنْ سألْتهُمْ منْ خلق السّمواتِ والأرْض وسخّر الشّمْس والْقمر ليقُولُنّ اللهُ فأنّى يُؤْفكُون) [العنكبوت:61]، وقال الله: ( ولئِنْ سألْتهُمْ منْ نزّل مِن السّماءِ ماءً فأحْيا بِهِ الأرْض مِنْ بعْدِ موْتِها ليقُولُنّ اللهُ قُلِ الْحمْدُ لِلّهِ بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْقِلُون ) [العنكبوت:63].
وفي هذه الآيات الكريمة تعليم للنبي -عليه الصلاة والسلام- أن يسأل قومه عمن خلق السموات والأرض، لأن من معاني (ولئِنْ سألْتهُمْ)، أي: اسألهم عن خالق السموات والأرض، وفي السؤال تنبيه على عظمة خلق السموات والأرض، فالسؤال عن الشيء العظيم يكشف عن قوانين خلقته، وتوجب عقليًا الإقرار بقدرة الخالق سبحانه وتعالى.
التعليقات