عناصر الخطبة
1/ التاريخ مدرسة لمن أحسن قراءته 2/ احتلال الصليبيين لبيت المقدس ووحشيتهم تجاه المسلمين 3/ المسلمون ينتبهون من رقادهم 4/ صحوة إسلامية في أوساط جيش المسلمين 5/ صلاح الدين يبث الحماسة في نفوس الجند 6/ تحرير بيت المقدس 7/ الحرب المعاصرة على الإسلام 8/ صراع عقائدياهداف الخطبة
اقتباس
صلاح الدين أخذ الدنيا بسيف الظفر ثم جاد بها بيد الكرم، روّع أوروبا مرتين، مرة حين قهر جيوشها بسيفه، ومرة حين شدَهَ نفوسها بنُبله. أصلح نفسه ونشر الصلاح في جنده وحفظ أمر الله فنصره الله، أشرب حب الجهاد حتى قضى نحوًا من ربع قرن على صهوة جواده، أو في حصار قبالة أعدائه، وفي نحو عشرين سنة، قاد أربعًا وسبعين معركة ..
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله ربكم واعملوا صالحًا؛ فلن يخرج العبد من الدنيا إلا بما قدم، ولن ينجو في الآخرة إلا بالإيمان والتقوى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132].
أيها المؤمنون: التاريخ مدرسة لمن أحسن قراءته، وتأمل عبره، وأفاد من أحداثه. أحداث السنين، وأنباء السابقين، وتجاربُ الأمم، وتقلباتُ الدول؛ تقرؤها في ساعات معدودات، وتفهمها في أيام قلائل.
عاثت أمم في الأرض ثم أدبرت، وسارت في البشر جحافل من الظلم والكفر، فسبت وقتلت ثم اندثرت. سادت أمم ثم بادت، وقامت للظلم صروح ثم تهدمت. أين عاد وثمود؟! وأين قوم إبراهيم وقوم لوط؟! وأين فرعون ذو الأوتاد (الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ) [الفجر:12]؟! الكل زال، وزالت ممالكهم وما بقي ولا يبقى إلا ملك الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ) [الرَّحمن: 26-27].
والقرآن قصّ علينا أهم أحداث التاريخ البشري، وأمرنا بالاعتبار والادِّكار، واليقين بأن العاقبة للمتقين. هذا قرآننا يحدِّث نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عن قصة نوح -عليه الصلاة والسلام- ثم يخاطبه فيقول: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49].
ومن أحداث التاريخ المحفوظة، حدثٌ عظيم، حدث قبل رمضان بسبعة أيام، منذ ما يزيد على تسعة قرون، في وقت كان بنو عبيد الباطنيون يحكمون كثيرًا من بلاد الإسلام، فنشروا فيها البدعة، وأماتوا السنة، وظهر عباد القبور والأضرحة. وفي حكمهم تفرق المسلمون، واختلفت كلمتهم، وضعفت قوتهم، فطمع فيهم الطامعون، واشرأبت أعناق الصليبيين لحرب صليبية، فشجعهم ما كان عليه كثير من المسلمين من فساد العقيدة والعبادة والأخلاق، وكثرةِ الاختلاف، وشدة التفرق.
فاندفعت جموع الصليبيين نحو المشرق، تغلي في قلوبها الأحقاد، ويشحن نفوسها الكيد، فاجتاحت حصون أنطاكية الممنعة، ثم انقضت على معرة النعمان فقاومهم سكانها؛ ولكن العدو كان أكثر فدخلوها عند العشاء فأسكتوا أصوات المؤذنين من فوق المنائر، وأعملوا السيوف في الرقاب، فقتلوا كلَّ رجل وكلَّ امرأة وكلَّ طفل، وجعلوا يطؤون جثث القتلى بعد أن ملأت الدروب وسدت المسالك.
وتابع الجيش الصليبي سيره يحصد المدن والقرى حتى وصلوا بيت المقدس ضحى يوم الجمعة لسبعة أيام بقيت من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة، دخلوها بنحو ألف ألف مقاتل، فجاسوا خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيرًا.
أعملوا السيوف في الرقاب، وأجروا الدماء في الشوارع، ورفعوا من جثث القتلى تلالاً، وصنعوا من هاماتهم قبابًا، ثم دخلوا الدور فسبوا من فيها وبقروا البطون بحثًا عن الدنانير، ولاذ المسلمون بالمسجد الأقصى، فتبعوهم وقتلوا داخله ما يزيد على سبعين ألفًا، فيهم العالم الزاهد، والعابد الراكع، والشيخ الطاعن، والطفل الراضع، والمرأة الثاكل، لم يميزوا مقاتلاً عن غير مقاتل، ولا فرقوا بين عاجز وقادر.
دخلوا بخيلهم بيت المقدس، فداست سنابكها على الأشلاء، وتخضبت قوائمها بالدماء، حتى كتب مؤرخ صليبي حضر هذا الحدث الجلل فقال: "فلما ولج حجاجنا المدينة جدّوا في قتل الشرقيين ومطاردتهم حتى قبة عمر حيث تجمعوا واستسلموا لرجالنا الذين أعملوا فيهم أفظع القتل طيلة اليوم بأكمله، حتى لقد فاض المعبد كله بدمائهم".
فهام الناس على وجوههم من الشام إلى العراق يصحبهم القاضي أبو سعيد الهروي، فحكوا لأهل بغداد ما حلّ بهم، فبكوا من هول ما أخبروا، ونظم القاضي الهروي كلامًا يصف تلك الكارثة، فقرئ في الديوان وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء ليحرضوا على الجهاد؛ ولكن ذلك لم يُجْدِ شيئًا؛ لأن الأوان قد فات، والداءَ قد استمكن. ولم تكن العلةُ في قوة العدو بقدر ما هي في ضعف المسلمين؛ حيث فرطوا في أمر الله وأضاعوه، فوكلهم الله إلى أنفسهم، ومن وكل إلى نفسه عجز، ومن وكل إلى الخلق ضيعوه، ومن توكل على الله كفاه.
لقد استقبل المسلمون ذلك الرمضان الحزين، وجراحهم تنزف، وأجفانهم تحترق، وقلوبهم تشتعل، وما أصابهم ما أصابهم إلا بما كسبت أيديهم.
أيها الإخوة: مكث الصليبيون في بيت المقدس ثنتين وتسعين سنة، عاثوا فيه وأفسدوا، وعلوا وظلموا، عاش بيت المقدس خلالها قرنًا إلا ثماني سنوات، لم يرفع فيه أذان، ولم تقم فيه صلاة، بل رفع فيه الصليب، ورُعي في أرضه الخنزير، وعلا شأن الكفر والتثليث، وسُمعت من أعاليه الأجراس والنواقيس.
كانت تلك المصيبة بمثابة الرجفة والزلزلة، والهزة العنيفة التي نبهت المسلمين من غفلتهم، وأيقظتهم من رقدتهم، فعاد كثير منهم إلى الله تعالى وأصلحوا أنفسهم قبل أن يجاهدوا عدوهم، فقيض الله لهم قادة صالحين، أقاموا علم الجهاد، وحاربوا الباطنية وأهل الفساد، حتى عزموا على غزو الصليبيين، وتخليص الأقصى منهم.
فصنع الإمام العادلُ نور الدين منبرًا حلف بالله أن يجعله لبيت المقدس إذا خلصه من النصارى؛ ولكنه انقطع دون يمينه، وعاجلته المنية قبل تحقيق الأمنية، فخلفه المجاهدُ الصالح صلاح الدين الذي أخذ الدنيا بسيف الظفر ثم جاد بها بيد الكرم، روّع أوروبا مرتين، مرة حين قهر جيوشها بسيفه، ومرة حين شدَهَ نفوسها بنُبله.
أصلح نفسه ونشر الصلاح في جنده وحفظ أمر الله فنصره الله، أشرب حب الجهاد حتى قضى نحوًا من ربع قرن على صهوة جواده، أو في حصار قبالة أعدائه، وفي نحو عشرين سنة، قاد أربعًا وسبعين معركة.
يحكي سيرته من عاصره ولازمه في بعض معاركه، وهو المؤرخ القاضي ابنُ شَدَّاد فيقول: "لو حلف الحالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارًا ولا درهمًا إلا في الجهاد أو في الإرفاد لصدق وبر في يمينه".
ويحكي عنه مرة أنه قال له: "في نفسي أنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت".
الله أكبر!! هدف نبيل، وغاية سامية، وهمة عالية، استحق بها أن يحقق الله على يديه أعظم منقبة في ذلك العصر ألا وهي فتح بيت المقدس وإخراج الصليبيين منه، وتطهيره من رجسهم.
فلما عزم على ذلك سار إليهم، فضرب الحصار عليهم، واجتهد وجندُه في ضربهم بالمجانيق والعَرَّادات. وكلما فتر حماس الجند أو ضعفوا نظروا إلى الصلبان منصوبة على الجدران، وفوق قبة الصخرة صليبهم الأكبر، فالتهبوا وزادهم حنقًا وحماسًا لهدمها وكسرها، فضاعفوا الهجوم، واشتدوا في الطلب، حتى نقبوا السور من أحد جهاته وأحرقوه، فذعر النصارى لذلك وطلبوا المحاورة، فتراسلوا وتحاوروا ثم استسلموا وسلموها للمسلمين دون قتال، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة، وعن كل صغير وصغيرة دينارين، وأن تكون الأسلحة والغلات والدور للمسلمين. وتسلمها المسلمون يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، بعد قرن إلا قليلاً، فدخلوا بيت المقدس مهللين مكبرين، تضج ألسنتهم بالدعاء، وتعلو أصواتهم بالشكر لله والثناء عليه، وأُنزل الصليب الأكبر فهوى على الأرض، فارتفعت أصوات الجند بالتكبير، ومحيت النقوش والتصاوير، وأزيلت الأجراس والنواقيس، ونظف المسجد مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وكان الصليبيون قد جعلوا محراب المسجد مكانًا لقاذوراتهم، فنظفه المسلمون وطيبوه.
قال الحافظ المؤرخ ابن كثير -رحمه الله-: "لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان، وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أولُ جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان، فنُصب المنبر إلى جانب المحراب... وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال، كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال. ثم ذكر أنه خطبهم القاضي محيي الدين ابن الزكي فافتتح خطبته بقول الله تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 45]، وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر فضائل بيت المقدس ومنزلته عند المسلمين".
وظلت القدس بعد هذا الفتح إسلامية تشد الرحال إلى مسجدها من كل مكان، ويقصدها طلاب العلم لمجاورة كثير من العلماء فيها، حتى كان ما كان، وانقلبت الأحوال، ودالت الأيام في القرن الماضي، فاحتلها يهود، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ) [آل عمران: 141].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الحروب والثارات بين اليهود والنصارى كانت على أشدها؛ حتى إن الصليبيين لما دخلوا بيت المقدس أحرقوا من فيه من اليهود، واشترطوا على عمر أن لا يسمح لليهود بالسكن فيها؛ ولكن هذه العداوة زالت أو تأجلت لمواجهة ما يسمونه: خطر الإسلام الذي اجتاح الأرض بنوره، فاجتمع المتعادون واصطلحوا، وتآزر أهل الإنجيل المحرف مع أهل التوراة المبدلة ضد أهل القرآن المحفوظ، فأصبحت الحرب ضد الإسلام حربًا صليبية يهودية، رمزُها الظاهر بيتُ المقدس، وإن كانت تعمُّ الأرض كلها.
فالنصارى يرون في القدس مولد نبيهم عيسى -عليه الصلاة والسلام-، وموطن كنيستهم الكبرى المسماة بالقيامة وكنيسة البشارة.
واليهودُ يرونها مملكة داود -عليه الصلاة السلام-، وفيها هيكلُهم المزعوم الذي يعتقدون في بنائه ملك العالم كله.
والمسلمون يعتقدون أنهم أحق به؛ لأنه مسرى نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ونبيُهم خاتم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فلابد أن يسودَ دينه الأرض كلها، وهم أولى بموسى وعيسى وداود -عليهم الصلاة والسلام- من اليهود والنصارى، كما أن الصلاة في بيت المقدس مضاعفةٌ، ولا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد هو منها.
فاتضح بذلك أن الصراع على بيت المقدس صراعٌ عقائدي ديني، وما العلمانية في الصراع عند اليهود والنصارى إلا مرحلةٌ طارئة مؤقتة في طريقها إلى الاضمحلال والزوال؛ حيث قويت الأحزاب الدينية في بلادهم، واكتسحت الأحزابَ العلمانية. بل عادت كثير من شعوبهم إلى كنائسهم ومعابدهم، ورجعوا إلى توراتهم وإنجيلهم.
كما أن العلمانية أيضًا طارئةٌ وفي طريقها للأفول والزوال في البلاد الإسلامية، بدليل أن أقطابها ومنظريها يندحرون يومًا بعد يوم، ويعانون قوة المد الإسلامي رغم استماتتهم في تحجيمه؛ ما اضطرهم إلى وقف معارضتهم الصريحة للإسلام وشريعته وهيمنته، والتحول إلى تفسيره بما يوافق العصر ومتطلباته، فكثر حديثهم عن الإسلام العصري، والعقلانية الإسلامية، وما إلى ذلك من الهراء الذي يراد منه تمييع الإسلام، والدعوة إلى وحدة الأديان، وتلاقح الحضارات والعولمة السياسية والاقتصادية والثقافية.
وكل ذلك في طريقه إلى الأفول والزوال؛ ليتجسد الصراع العقدي، وقد كشف القرآن هذه الحقيقة حتى لا يكون فيها لبس ولا غموض، فمن كذبها فهو يجازف بمعارضة القرآن وتكذيبه: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120]، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ) [البقرة:109].
ولأهمية هذه الحقيقة في الإسلام رُبطت بأكثر أركان الإسلام تكرارًا في اليوم والليلة، فالمسلم يصلي كل يوم خمس مرات على الأقل، يقرأ أو يسمع فيها الفاتحة سبع عشرة مرة، ولا تصح الصلاة دونَها، وهي تتضمن الدعاء باجتناب سلوك طريق اليهود والنصارى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 6، 7].
وفي ظل الوفاق الجديد -الذي أضفى الشرعية على الاحتلال، وسعى لكسر الولاء والبراء تحت مسمى كسر الحواجز النفسية، وصار سيفًا لحماية اليهود في الداخل والخارج- هل سيمنعون المسلم من قراءتها في الصلاة؟! أم سيحذفون منها هاتين الآيتين؟! كلا ويخسؤون.
والواقع يشهد لهذه الحقيقة المتمثلة في أن الصراع عقدي، فالجنديُ الصليبي حينما كان يلبس بزة الحرب إبان مرحلة الاستعمار كان يودع أمه فيقول: "أماه: أتمي صلاتك، لا تبكي بل اضحكي وتأملي، أنا ذاهب إلى المسلمين فرحًا مسرورًا، سأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة، سأحارب الديانة الإسلامية، سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن".
وأما اليهود فإنهم لما دخلوا مدينة القدس هتفوا بالأهازيج يقولون: "هذا يوم بيوم خيبر.. يا لثارات خيبر". وقالت رئيستهم آنذاك: "إني أشم رائحة أجدادي في خيبر". ألا لعنة الله عليها وعلى أجدادها وقومها.
هذه هي الحقيقة وإن زورها من زورها، وأخفاها من أخفاها، وما حصل للمسلمين من ضعف وهوان هو من عند أنفسهم. فالانحراف والفساد يضرب أطنابه في بلاد المسلمين، انحراف في العقيدة، وتعلق بالمخلوقين، وعبادةٌ للقبور في كثير من البلاد الإسلامية، وتضييعٌ لأمر الله -عز وجل-، وارتكابٌ لنهيه. وما أشبه الليلة بالبارحة، فأحوال المسلمين اليوم تشبه أحوال المسلمين عندما سلب الصليبيون قدسهم، إن لم تكن أشد سوءًا هذه الأيام. وعليه فلن يتم خلاصه بالشعارات الزائفة، ولا بالحماس المتأجج، ولا بالاندفاع المتهور.
وإنما يكون ذلك بمجاهدة النفوس قبل مجاهدة الأعداء، بإصلاح ما فسد من أحوال المسلمين في اعتقاداتهم وعباداتهم وأخلاقهم، وعودتهم للإيمان والتقوى، والكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة، وحينها يعتزون وينتصرون لأن الله معهم: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) [المدثر: 31]، فيسخر الله الحجر والشجر يعاون المسلم فيقول: "يا مسلم يا عبد الله: هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود". كما ثبت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فأصلحوا أنفسكم وبيوتكم، ومن هم تحت أيديكم، وصلوا أنفسكم بالله وأصلحوا ما بينكم وبين الله إن أردتم نصرًا وعزًّا: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) [آل عمران: 126].
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...
التعليقات