سعة رحمة الله

سالم بن محمد الغيلي

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/سعة رحمة الله بخلقه 2/من صور رحمة الله 3/كيفية استجلاب رحمة الله تعالى

اقتباس

سعة رحمة الله يعتبرها المؤمن فُرَصًا للإقبال على الله, والتعرض لرحماته وهباته بالأعمال الصالحة, وفعل الخير والتوبة وترك المعاصي. أما أهل الغفلة فيعصون الله ويتفلتون على شرعه, ويأتون بالصغيرة...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

عباد الله: ما أرحم الله! وما أرأفه! وما أصبره وما أحلمه، هو الرحمن الرحيم بالمؤمنين رؤوف رحيم, ما خلقنا ليُعذبنا، وما أوجدنا ليُشقينا، وما كلفنا ليشق علينا.

 

أنزل الكتب وأرسل الرسل وذلك من رحمته وشفقته على عباده ألا يعذبهم؛ (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى)[طه: 1-3[.

 

أنزل البلاء وأنزل النعماء، ينعم على قوم ليبتليهم بالنعم؛ هل يشكرون أم يكفرون, ويرسل البلاء على أقوام ليبتلي إيمانهم ويختبر صدقهم ويقينهم, لا ليعذبهم ويضيّق عليهم, بل إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه، وأكثر الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ لأنه يأتي مع البلاء والصبر عليه.. يأتي معه الأجور والدرجات والرضى والرحمات.

 

قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم، فمَن رَضي فله الرِّضَى، ومَن سخِط فله السَّخطُ"(حسنه الألباني في صحيح الترمذي).

 

الله -جل جلاله- أرحم بنا من أنفسنا، أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا, قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: قَدِمَ علَى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إذَا وجَدَتْ صَبِيًّا في السَّبْيِ أخَذَتْهُ، فألْصَقَتْهُ ببَطْنِهَا وأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "أتُرَوْنَ هذِه طَارِحَةً ولَدَهَا في النَّارِ؟" قُلْنَا: لَا، وهي تَقْدِرُ علَى أنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: "لَلَّهُ أرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَا"(صحيح البخاري) .

 

الله قادر أن يُعذّب مَن عصاه عند أول ذنب وعند أول جُرْم، وعند أول معصية، ولو فعل الله ذلك ما ترك على ظهر الأرض من دابة؛ لأن كل العباد خطّاؤون كل العباد مذنبون, قال -سبحانه-: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا)[فاطر:45[؛ يمهل ويمهل، ويمهل حتى من كفر به وحارب دينه؛ يمهلهم لعلهم يتوبون أو يذَّكَرون.

 

إن الله -تعالى- أخبرنا أن رحمته تسبق غضبه وأن له مئة رحمة, قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ"(صحيح مسلم).

 

وفي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ في كِتابِهِ فَهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتي غَلَبَتْ غَضَبِي".

 

من رحمته بعباده أنه سهَّل عليهم العبادة, سهّل علينا التكاليف الشرعية، ما جعل علينا في الدين من حرج.

 

فرض الصلوات خمسين وخفّفها إلى خمس, أوجب علينا الصيام شهر واحد، والمريض والمعذور بإمكانه تأخيره إلى وقت آخر.

 

أوجب علينا الحج إلى بيته المحرم، ولكن للمستطيع، أوجب الزكاة على أهل الأموال وبعد مُضي الحول, ومن ليس له مال ليس عليه زكاة.

 

ولو شاء الله لبقيت الصلوات خمسين, ولو شاء لأمرنا بالصيام طيلة العام والحج كل سنة، ولكنه رحيم بعباده.

 

غفر لزانية سقت كلبًا كاد أن يموت من العطش, وأدخل رجلاً الجنة بسبب غصن شجرة أزاحه عن طريق الناس.

 

أمرنا بالدعاء ليستجيب لنا, وحثّنا على الاستغفار ليغفر لنا, ودعانا إلى التوبة ليتوب علينا.

 

قال أنس -رضي الله عنه-: سمعت رسول يقول: "قالَ اللَّهُ -تبارَكَ وتعالى- يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً"(صحيح الترمذي للألباني).

 

يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار حتى يتوب مسيء الليل، إلى أن تطلع الشمس من مغربها. يحب التوابين ويحب المتطهرين, ويحب الصادقين، ويحب المتقين ويحب المحسنين.

 

غفر لرجل قتل مئة نفس، وتاب فتاب الله عليه؛ (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الحجر:49[، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر:53[.

 

وقال -صلى الله عليه وسلم- عن حال المؤمن يوم القيامة: "إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وأَمَّا الكَافِرُ والمُنَافِقُونَ، فيَقولُ الأشْهَادُ: (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18]. (رواه البخاري).

 

ألا -يا عباد الله- فلنتعرض لهذه الرحمات، وهذا العطاء وهذا الكرم.. لا نيأس ولا نقنط, لا يغلبنا عليها الشيطان, ولا يضيقها علينا الهوى والقسوة والفجوة والطبع اللئيم.

 

اللهم أدخلنا في واسع رحمتك وعفوك وسترك وكرمك يا أرحم الراحمين.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى.

 

عباد الله: باب الله مفتوح ليس عليه حاجب, والاتصال به مباشر, وكرمه واسع ورحماته منتشرة, فما عذرنا وما حجتنا؟! إن الشقي مَن لم تسعه هذه الرحمات وهذه الهبات... الشقي من ضيّع وفرّط وتمادى وسها عن الله حتى أدركه الشقاء والعذاب والهوان.

 

سعة رحمة الله يعتبرها المؤمن فُرَصًا للإقبال على الله, والتعرض لرحماته وهباته بالأعمال الصالحة, وفعل الخير والتوبة وترك المعاصي.

 

أما أهل الغفلة فيعصون الله ويتفلتون على شرعه, ويأتون بالصغيرة والكبيرة, ويقولون الله غفور رحيم.

 

ليس هذا المقصود من سعة رحمة الله, كيف نبارز الله بالمعصية ولا نخاف ولا نخشى؟ إن رحمات الله وعفوه وسعة مغفرته تُستجلب بطاعته واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[آل عمران: 132[.

 

سعة رحمة الله تستجلب بالصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:71[.

 

اللهم ارحمنا وارحم بنا, وتولَّ أمرنا, اللهم إنَّا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك, اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخّرنا, وما أسررنا وما أعلنّا, وما أنت أعلم به منا.

 

وصلوا وسلموا..

 

والله أعلم.

 

المرفقات
QkvPXspQm6aRx5bRKwBQBg6TooWySPSJ4zzVFodJ.doc
UticG50HTXsY121WBCV723jjI9GVrr0iU0V180mD.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life