عناصر الخطبة
1/ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة في صلاة الجمعة 2/ تأملات في تفسير سورة الأعلىاهداف الخطبة
اقتباس
كَاَن مِنْ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْأَعْلَى، حَيْثُ كَانَ يَقْرَأُهَا فِي صَلَاةٍ الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَفِي صَلاةِ الْوَتْرِ إِذَا أَوْتَرَ بِثَلَاثِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَا يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نَجْهَلَ مَعَانِيَ هَذِهِ السُّورَةِ الْعَظِيمَةِ. وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ بِإِذْنِ اللهِ نُبَيُّنُ شَيْئَاً مِنْ دَلائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَتَوْجِيهَاتِهَا...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الْعَزِيزِ الرَّحِيم، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِه، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِه وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيم، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ عَلَى نَعْمَائِهِ وَأَثْنَي عَلَيْهِ الْخَيْرَ كُلَّه، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لا رَبَّ غَيْرُهُ وَلا إِلَهَ سِوَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ اللهُ بِالْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَة، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ أَحَبُّ الْهَدْيِ إِلَى اللهِ , وَبِهِ النَّجَاةُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 22- 23].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَاَن مِنْ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْأَعْلَى، حَيْثُ كَانَ يَقْرَأُهَا فِي صَلَاةٍ الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَفِي صَلاةِ الْوَتْرِ إِذَا أَوْتَرَ بِثَلَاثِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَا يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نَجْهَلَ مَعَانِيَ هَذِهِ السُّورَةِ الْعَظِيمَةِ.
وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ بِإِذْنِ اللهِ نُبَيُّنُ شَيْئَاً مِنْ دَلائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَتَوْجِيهَاتِهَا.
يَقُولُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى: 1] وَمَعْنَاهُ: نَزِّهْ رَبَّكَ ذَاكِرَاً اسْمَهُ. فَهُوَ الْأَعْلَى الذِي لَهُ الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ: عُلُوُّ الذَّاتِ وُعُلُوُّ الصِّفَاتِ، وَكَلِمَةُ (سَبِّح) تَتَكَرَّرُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَاً، وَلَهَا مَعْنَىً عَظِيمٌ، وَهُوَ أَنَّنَا نُنَزِّهُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلِّ صِفَةِ نَقْصٍ، لِأَنَّ صِفَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- جَمِيعُهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) [الروم: 27] أَيْ الصِّفَةُ الْعُلْيَا.
وَيُنَزَّهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنِ النَّقْصِ فِي صِفَاتِ كَمَالِهِ , فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدِيرٌ لا يَعْجَزُ، وَقَوِيٌّ لا يَضْعُفُ قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) أَيْ: مَا لَحِقَنَا ضَعْفٌ وَلَا تَعَب. وَيُنَزَّهُ اللهُ كَذَلِكَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) يَعْنِي: أَوْجَدَ كُلَّ الْخَلْقِ مِنَ الْعَدَمِ، وَأَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَأَتْقَنَهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى أَكْمَلِ صُورَةٍ.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) يَعْنِي: الذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْمَقَادِيرَ وَأَتْقَنَهَا وَدَبَّرَهَا، ثُمَّ هَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ لِمَا جُعِلَ لَهُ، فَهْيَّأَ الْمَخْلُوقَاتِ لِمَا يَصْلُحُ لَهَا، فَمَثَلا: قَدَّرَ لِصِغَارِ الْحَيَوانَاتِ كَيْفَ تَشْرَبُ حَلِيبَ أُمَّهَاتِهَا؟! فَتَجِدُ صَغِيرَ الْغَنَمِ مَثَلاً إِذَا وُلِدَ يَقُومُ عَلَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَتَّجِهُ إِلَى رِجْلَيْ أُمِّهِ وَيَبْحَثُ عَنْ ثَدْيِهَا، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ هَيَّأَ ثَدْيَهَا عَلَى شَكْلٍ يُلَائِمُ سِعَةَ فَمِهَ، ثُمَّ يَمْتَصُّ الْحَلِيبَ وَيَتَغَذَّى بِه.
وَهَكَذَا الإِبِلُ أَيْضَاً نَجِدُ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدَّرَهَا عَلَى صُورَةٍ تُلائِمُ الصَّحَرَاءَ، وَهَدَاهَا لِتَعِيشَ فِيهَا , فَتَجِدُ أَرْجُلَهَا تَنْتَهِي بِأَخْفَافٍ مُسَطَّحَةٍ، لِكَيْ تَقْدِرَ عَلَى الْمَشْيِ فِي الرِّمَالِ، وَهِيَ كَذَلِكَ تَشْرَبُ الْكِمِّيَاتِ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْمَاءِ، فَتَبْقَى فِي الصَّحْرَاءِ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَلا تَعْطَشُ، وَهَكَذَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى) أَيْ: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، فَأَنْبَتَ بِهِ الْعُشْبَ الذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الإِنْسَانُ وَالْحَيَوَانُ.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) أَيْ: بَعْد أَنَّ مَرَّ عَلَيْهِ زَمَنٌ مُقَدَّرٌ، صَيَّرَ اللهُ هَذَا الْمَرْعَى هَشِيمَاً مَائِلاً إِلَى السَّوَادِ لِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ نِهَايَةٌ.
وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) أَيْ: سَنُحَفِّظُكَ أَيُّهَا الرَسُولُ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ، وَنُرَسِّخُهُ فِي قَلْبِكَ فَلا تَنْسَى مِنْهُ شَيْئَاً، (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) أَنْ يُنْسِيَكَهُ مِمَّا أَرَادَ اللهُ نَسْخَهُ، فَيُبَدِّلُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ بِمِثْلِهِ.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) أَيْ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ خَلْقِهِ الظَّاهِرَ وَالْخَفِيَّ، فَالْكُلُّ فِي عِلْمِ اللهِ وَاحِدٌ.
وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) هَذِهِ بِشَارَةٌ لِلرَّسِولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَهْدِيهِ لِمَا هُوَ أَيْسَرُ، وَيَجْعَلُ شَرْعَهُ وَدِينَهُ يُسْرَاً سَهْلاً.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) يَعْنِي: ذَكِّرْ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَبِشَرْعِهِ وَبِالدَّارِ الآخِرَةِ مَا دَامَتِ الذَّكْرَى مَسْمُوعَةً مَقْبُولَةً. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) أَيْ: سَيَمْتَثِلُ مَا فِي الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى مَنْ يَخَافُ مِنَ اللهِ خَوْفَاً مَبْنِيَّاً عَلَى الْعِلْمِ.
وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) أَيْ: سَيُعْرِضُ عَنْ هَذِهِ الذَّكْرَى وَلا يَأْبَهُ بِهَا الْكَافِرُ الذِي بَلَغَ فِي الشَّقَاءِ مُنْتَهَاهُ، فَلَا يَخْشَى رَبَّاً وَلا يَرْجُو دُخُولَ جَنَّةٍ وَلا النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وقوله عز وجل: (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) يَعْنِي: الذِي مَصِيرُهُ النَّارُ فَيُقَاسِي عَذَابَهَا وَيَصْطَلِي بِلَهَبِهَا. وَتِلْكِمُ النَّارُ عَظِيمَةٌ كَبِيرَةٌ مُرْعِبَةٌ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَلا شَكَّ أَنَّ هَذَا عَدَدٌ مَهُولٌ، وَيَدُلُّ عَلَى كِبَرِ حَجْمِ النَّارِ.
وَأَمَّا حَرَارَتُهَا فَإِنَّهَا أَشَدُّ مِنْ كُلِّ نَارٍ فِي الدُّنْيَا بِتِسْعٍ وَسِتِّينَ مَرَّةٍ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ" قَالُوا: وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ , قَالَ: "فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) أَيْ: أَنَّ الْكَافِرَ يُعَذِّبُ فِي النَّارِ عَذَابَاً مُسْتَمِرَّاً، وَلَنْ يَمُوتَ فَيَسْتَرِيحَ، وَلَنْ يَعِيشَ حَيَاةً سَعِيدَةً، بَلْ هُوَ فِي شَقَاءٍ أَبَدِيٍّ سَرْمَدِيٍّ.
نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ مِنَ النَّارِ، أَقُولُ قَولِي هَذَا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِيْ ولَكُمْ فاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ القَوِيُّ الْمَتِينُ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأَمِينِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) الْمَعْنَى: حَقّاً قَدْ حَصَّلَ الْفَلَاحَ مَنْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّرْكِ وَالْبِدْعَةِ وَابْتَعَدَ عَنِ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ مَعَ النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أَيْ: لا زَالَ ذَاكِرَاً للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، ثُمَّ هُوَ يُقِيمُ الصَّلَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ، فَهُوَ فِي طَاعَةٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- دَائِمَاً.
وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) الْمَعْنَى: لَسْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تُؤْثِرُونَ الآخِرَةَ، بَلْ تُفِضِّلُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَتَقِدِّمُونَهَا عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّ الآخِرَةَ تَفْضُلُ الدُّنْيَا بِمَرَاحِلَ لا تُقَدَّرُ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أَيْ: وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَبْقَى مِنْهَا، فَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟".
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً [يعني: يغمس فيها مرة واحدة فقط] ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ , وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ" (رَوَاهُمَا مُسْلِم).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى) فَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْمَذْكُورَ لَكُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الأَوَامِرِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُسْتَحْسَنَةِ (لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) اللَّذَيْنِ هُمَا أَفْضَلُ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ أَعْطَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- كُلَّاً مِنْ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صُحُفَاً فِيهَا الْأَخْبَارُ الصَّادِقَةُ وَالْأَحْكَامُ العَادِلَةُ وَالعَقَائِدُ الْمُسْتِقِيمَةُ.
لَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ مَا فِيهَا قَدْ نَسَخَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، فَلَا يَحِلُّ لَنَا النَّظَرُ فِيهَا لِأَنَّهَا مَحَرَّفَةٌ، ثُمَّ إِنَّ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ قَدْ حَوَاهُ الْقُرْآنُ وَزَادَ عَلَيْهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذَا مَا تَيَسَّرَ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ مِنْ مَعانِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ.
اللَّهُمَّ اَجْعَلِ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلُوبِنَا وَنُورَ صَدُرِنَا وَجَلَاءَ أحْزانِنَا وَذَهَابَ هُمُومِنَا، اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مِنْهُ مَا جَهِلْنَا وَذَكِّرْنَا مِنْهُ مَا نُسِّينَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ شَاهِدَاً لَنَا لا شَاهِدَاً عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ أَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، وَعَمِلَ بِمُحْكَمِهِ وَآمَنَ بِمُتَشَابِهِهِ، اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، والحَمْدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ.
التعليقات