عناصر الخطبة
1/ساعة الندم عند الاحتضار عند الموت 2/أبرز أمنيات الموتى عند الاحتضار 3/بعض قصص النادمين عند الاحتضاراقتباس
الندم الذي سأتحدث عنه اليوم لا يمكن فيه الاستدراك، وإنما سنتحدث عنه من باب التذكير والإعداد حتى لا نندم حيث لا ينفع الندم، هذه الساعة هي: ساعة الاحتضار عند الموت، وكلنا سنمر بهذه الساعة؛ إنها ساعة مرتبطة بالموت، وهي ساعة يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة، وهو طريح على فراش الموت، ويعاين رسل ربه، وهم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: سبق أن تحدثنا في الخطبة الماضية عن ساعتين من ساعات الندم التي يندم فيهما الإنسان، ألا وهما: الندم على فوات طاعة من الطاعات، والندم على ارتكاب معصية من المعاصي، ومن أراد الله به الخير رزقه النفس اللوَّامة التي تلومه على ترك الطاعة، وتلومه على فعل المعصية، فيدفعه ذلك إلى التوبة والندم والاستغفار، وإلى الرجوع إلى ربه -سبحانه وتعالى-، وميزة الساعتين السابقتين أن الندم فيهما يمكن تداركه؛ لأنه يكون في الدنيا.
وأما الندم الذي سأتحدث عنه اليوم فلا يمكن فيه الاستدراك، وإنما سنتحدث عنه من باب التذكير والإعداد حتى لا نندم حيث لا ينفع الندم، هذه الساعة هي: ساعة الاحتضار عند الموت، وكلنا سنمر بهذه الساعة؛ إنها ساعة مرتبطة بالموت، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)[آل عمران: 185]، وهي ساعة يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة، وهو طريح على فراش الموت، ويعاين رسل ربه، وهم جالسون مد بصره؛ كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)[القيامة: 29 - 32]، حينئذٍ يستصغر الإنسان الحياة ويدرك حقيقتها، ويدرك أنها لهو ولعب، ويدرك أن الآخرة هي الحياة الحقيقية؛ كما قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20].
وتدرك أن الحياة الحقيقية هي الآخرة؛ كما قال تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 64]، ويود لو أنه "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابه قبل هرمه، وصحته قبل سقمه، وغناه قبل فقره، وفراغه قبل شغله، وحياته قبل موته" كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الحاكم في المستدرك، ويود لو أنه لم يؤجل عمل اليوم إلى الغد، وأنه ترك عنه تسويف العمل، سلاح الشيطان: سأعمل! سأصلي! سأحج! وإذا كانت أنثى: سأستر نفسي! سألبس حجابي!... ولكن الموت قد يأتي بغتة ولا يزال في الأماني، فيحصل الندم.
وحاله:
لا أؤخر شغل اليوم عن كسل *** إلى غَدٍ إن يوم العاجزين غَدُ
ولسان حاله:
إذا كنتُ أعلمُ يقينًا *** بأنَّ حياتي كساعَهْ
فَلِمْ لا أكون ضنينًا بها *** وأجعلها في صلاح وطاعَهْ
عند حضور أجل الإنسان يستحضر في ذهنه أمنيات هي عنوان الندم، وإذ أذكرها عسى أن نتعظ بها قبل فوات الأوان: الأمنية الأولى: يتمنى عند الاحتضار الرجوع إلى الدنيا ليعمل عملًا صالحًا، فهل هذا ممكن؟ وهل تتحقق له أمنيته؟ كلا، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 99-100]، فيرفض الطلب، إذن ما الحل؟ هو أن تعمل الآن.
الأمنية الثانية: يتمنى أن يرجع إلى الدنيا لتكثير الصدقات والعمل الصالح: فأين كنت لما كنت في الحياة، وفي زمن الإمهال، لماذا لا تتصدق؟ لماذا لا تُخرج زكاة مالِكَ؟ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون: 9-11].
فاستغل دنياك فهي دار الاختيار، ودار الإمكان قبل فوات الأوان، أما إذا حلَّ الموت انتهى هذا الزمان وحل الحساب، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55]. فهذا جزاء دنيوي، وأمَّا في الآخرة قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)[الكهف: 107-108].
ولذلك الإنسان يموت ويعاتبه الله أنه كذَّب بالله ورسوله، وأنه ترك الصلاة، وأنه عاش متكبرًا على الله وعلى الخلق، قال تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)[القيامة: 26 - 36].
يا غافلًا عن العمل *** قد غرَّه طولُ الأمل
الموت يأتي بغتة *** والقبر صندوق العمل
فنحن الآن في الأمنية فوجب العمل على تحقيقها، فهذا إبراهيم التيمي، افترض افتراضًا نستفيد منه، قال: مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها، وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: فقلت أنت في الأمنية فاعملي!
فبادروا إلى العمل الصالح قبل أن تندموا ساعة الاحتضار.
وفقني الله وإياكم للعمل الصالح، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى.
ثم أما بعد: رأينا في الخطبة الأولى أن ساعة الاحتضار ليس فيها الإمهال، فاجتهدوا قبل فوات الأوان، فما هي بعض قصص النادمين للاعتبار؟
من قصص النادمين عند الاحتضار، هذا أبو هريرة -رضي الله عنه- عند وفاته بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: بُعْد السفر، وقلة الزاد، والخوف من الوقوع من الصراط في النار، فماذا عساي أن أقول أنا وأنت؟! إذا كان أبو هريرة يشتكي من قلة الزاد، ولكن عزاؤنا أننا نرجو الله، فالمؤمن عند إقباله على ربه يغلب الرجاء على الخوف حتى لا ييأس من رحمة الله.
وهذا معاذ بن جبل -رضي الله عنه- الذي اهتز عرش الرحمن لموته، لما حضرته الوفاة، قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، ثم قال: مرحبًا بالموت، مرحبًا، زائر مُغِبٌّ، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك. حتى معاذ يشتكي الفاقة في أعماله، فماذا نقول نحن؟
وهذه قصة الشاب أبان بن عياش -عليه رحمة الله- يقول: خرجت من عند أنس بن مالك -رضي الله عنه- عندما كان في البصرة بعد الظهر- قال: فرأيت جنازة يحملها أربعة نفر، فقلت: سبحان الله! رجل مسلم يموت ويمر بسوق البصرة ولا يشهد جنازته إلا أربعة نفر، والله لأشهدن هذه الجنازة، يقول: فحملت معهم، ثم بعد ذلك لما دفنا الرجل قلت لهؤلاء الأربعة: ما شأنكم؟ وما شأن هذه الجنازة؟ قالوا: استأجرتنا هذه المرأة لدفن هذا الرجل، يقول: فتبعتها حتى وصلت بيتها، فجئتها وقلت: لله ما أخذ وله ما أبقى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، قالت: الحمد لله أولًا وآخرًا، قلت لها: ما شأن هذا الرجل الذي دفنتموه؟ قالت: هو ولدي كان مسرفًا على نفسه بارتكاب الذنوب والمعاصي، وكان عاقًّا لي، وقال لي وهو مريض وهو في سكرات الموت: يا أماه! إذا أنا متُّ فلقنيني كلمة التوحيد، فإذا قلتها وقضيت حياتي وأردت لي السعادة فضعي قدمك على خدي وقولي: هذا جزاء من عصى الله، ولا تخبري أحدًا بموتي؛ فهم يعلمون عصياني فلن يشهدوا جنازتي، ثم إذا دفنت فارفعي يديك إلى الله إن كنتِ تريدين لي السعادة، وقولي: يا رب، إني راضية عن ولدي فارض عنه! قال ابن عياش: فما عملتِ؟ قال: فضحكت، فقلت: ما يضحككِ يا أمة الله؟ قالت: والله بعد أن دفن رفعت يدي إلى الله وقلت: يا رب، إني راضية عنه فارض عنه! قالت: فو الله، إني سمعته بأذُنيَّ ينادي: يا أماه! قدمت على رب كريم رحيم غير غضبان علي ولا ساخط.
لا إله إلا الله ما أعظم بر الوالدين! ما أحوجنا إلى الدعاء منهما!
ولذلك علينا -أيها الإخوة الأفاضل-: أن نبادر بالعمل قبل فوات الأوان.
فاللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، وفي السر والعلن، وارزقنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، آمين.
التعليقات