الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
السؤال:
ملخص السؤال:
سيدة متزوجة مِن رجل يعاملها معاملة حسنة جدًّا، لكنه لا يعترف بأركان الإسلام، ويقترب مِن الإلحاد!
تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
زوجي رجلٌ طيبٌ، وكريمٌ جدًّا معي، ويُقَدِّرني ويحترمني، لكن للأسف يُدَخِّن، ولا يُصلي، ولا يقتنع بأن هناك عقوبةً لتارك الصلاة، ودائمًا يقول لي: أنا لا أؤمن إلا بالقرآن، ويبرِّر ذلك بأن الصلاة إنما هي شَعيرة، وليستْ ركنًا مِن أركان الإسلام، مع العلم بأنه كان قبل ذلك مُلتزمًا جدًّا، وقوامًا لليل، صوامًا للنهار، وأنا أحببتُه لذلك!
الآن يُجادلني في معتقداته الجديدة، ويتهمني بالجهل وعدم التفكر في آيات القرآن، وآن القرآن يحمل معاني كثيرة!
ما يقلقني أنه دائم التشكيك في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستخرج لي متناقضات في القرآن والأحاديث، وهذا يزعجني كثيرًا!
المشكلة الكبرى الآن أنه ينهاني على محاسبتي لأولادي عن ترك الصلاة، ولا يريد أن أعلمهم العقيدة والصلاة والعبادات، ويتدخَّل مباشرةً ويقول لي: اتركيهم إلى أن يكبروا، وهم سيفهمون الصواب من الخطأ!
وصل الحال إلى أن ابني إذا كلمته في الصلاة يجري على والده ليُخبره بما أقول له، ووالده يعطيه الحرية في عدم الصلاة.
عرفتُ أن كثيرًا من أصحابه الآن ألحدوا، وأصبحوا غير مؤمنين بشيء، وأرى أن حاله تغيَّر نتيجة تأثره بأفكارهم، وعندما أخبرته بأني أخاف على ديني، ومِن حقي ألا أعيش مع ملحد، فأجابني بقوله: لم ألحدْ بعدُ، ولو ألحدتُ سأخبرك!
هددتُه بالانفصال لأنه في طريقه للإلحاد، فقال: هذا أمرٌ يخصك أنتِ، ولا مانع عندي من الانفصال إذا لم تتعايشي مع أفكاري!
أنا أحبه كثيرًا، ولا أريد أن أظلم أطفالي بقرار الطلاق، ولا أعلم ماذا أفعل؟
أشيروا عليَّ جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإنا لله وإنا إليه راجعون، فما تذكرينه أيتها الأخت الكريمة في رسالتك أصبح ظاهرةً ملْحوظةً في هذه الأيام، فمع الأسف الشديد هناك موجةٌ شديدةُ الخطورة مِن الأفكار الإلحادية، تضْرِب المجتمعاتِ العربيةَ والإسلاميةَ تزامنتْ مع الفصل الأخير من فصول الحرب الشرِسة على الإسلام، وهي في الحقيقة لم تخمدْ نارها، ولا يخبو أوارُها يومًا من الدهر، وأشرسُ ما في هذه المعركة التعدِّي على الثوابت الشرعية والقِيَم والشيَم الاجتماعية، فتسرَّبتْ لعُقْر دارنا الأفكارُ الإلحاديةُ كتلك التي تشكين منها على يدِ نفَرٍ مِن أبناء الأمة ومثقفيها ومن الإعلاميين والمعلمين والكتاب وغيرهم.
ومما زاد الأمر سوءًا غفلة مُنظمات المجتمع المدني والحكومات والمصلحين والمفكرين وكافة الطوائف المؤثرة في المجتمع، بل كثير منهم لم ينتبه بعدُ للخطورة الحقيقية لهذا الوباء الفتاك، وضرره البالغ على الفرد والمجتمع، ومن ثمَّ لم يقوموا بالدور المنتظَر منهم لتحصين الناس، ودحْض الشبُهات.
وأنتِ تعلمين - وفقك الله - أنَّ زوجك في مرحلةٍ عمريةٍ يصْعُب فيها توجيهه أو التحكم بسلوكه، بل إنه سيظن أن كل حوار معه هو حلقة من الصراع بين القديم والحديث، والذي يظهر أنه لم يدركْ بعدُ أنها معركة بين الكفر والإيمان، وبين الثوابت الشرعية والانحلال مِن الدين، وليس أمامك - بعد تفويض الأمر إلى الله، والإلحاح عليه سبحانه وتعالى، بالدعاء لزوجك بالهداية للصراط المستقيم، وتحرِّي أوقات ومواضع الإجابة؛ كوقت السحَر في الثلُث الأخير من الليل، وفي السجود - إلا الصبر والمناقشة معه بالحسنى، وعدم اليأس مِن إصلاحه، فليس أضر على الإنسان أن يتَسَرَّب اليأس إلى نفسه، أو أن يصيبه الوهَن والضعف بسبب محنة أو ابتلاء، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].
وقد يكون زوجُك أوتي مِن هذا الباب؛ أعني: باب اليأس، أو تكون الحياة قد أظلمتْ في عينه لما حل بالعالم الإسلامي مِن ضعفٍ وهوانٍ، وكذلك الدور الخبيث الذي لعبه بعضُ الدعاة الجدُد.
فذكِّريه بسعة رحمة رب العالمين، وأن الله تعالى يَقْبَل توبة عبده مهما بدر منه قبل التوبة، وتسلَّحي بالقوة والصبر، وبيِّني له المعنى الحقيقي للإسلام، وأنه الاستسلامُ لله وحده؛ وأنَّ مَن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلمْ له كان مستكبرًا عن عبادته، وأن الاستسلام له وحده يتضمَّن عبادته وحده وطاعته وحده، والانقياد التام، وقبول الحق، ومحبته وإيثاره، بمجرد إدراكه، فهذا دينُ الإسلام الذي لا يقبل الله مِن أحد من الأولين والآخرين غيره؛ وذلك إنما يكون بأن يُطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت.
فالإيمانُ قولٌ وعملٌ، ومِن الممتنع أن يكونَ الرجلُ مؤمنًا إيمانًا ثابتًا في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدةً، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنعٌ، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح؛ ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله:
﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 42 - 43]، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما، مِن حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما في الحديث الطويل - حديث التجلي: ((أنه إذا تجلَّى تعالى لعباده يوم القيامة سجد له المؤمنون، وبقي ظهْرُ مَن كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعةً مثل الطبق لا يستطيع السجود))، فإذا كان هذا حال من سجد رياء، فكيف حال من لم يسجد قط؟!
وثبت أيضًا في الصحيح: ((أنَّ النار تأكل مِن ابن آدم كل شيء، إلا موضع السجود، فإن الله حرم على النار أن تأكله))، فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله، وكذلك ثبت في الصحيح: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته يوم القيامة غرًّا محجلين مِن آثار الوضوء))، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن لم يكن أغرَّ محجلاً لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكون من أمته.
وقوله تعالى: ﴿ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [المرسلات: 46 - 49]، وقوله تعالى: ﴿ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ﴾ [الانشقاق: 20 - 23]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [القيامة: 31، 32]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾ [المدثر: 42 - 47]، فوصفه بترك الصلاة، كما وصفه بترك التصديق، ووصفه بالتكذيب والتولي، والمتولي هو: العاصي الممتنع من الطاعة، وكذلك وصف أهل سقر بأنهم لم يكونوا من المصلين، وكذلك قرن التكذيب بالتولي في قوله: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ [العلق: 9 - 16]، وأيضًا في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فإذا انتفى ذلك انتفت الأخوة، وأيضًا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمَن تركها فقد كفر))، وفي المسند: ((مَن ترَك الصلاة متعمدًا فقد بَرِئَتْ منه الذمة))، وأيضًا فإن شعار المسلمين الصلاة، وفي الصحيح: ((مَن صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا))، وأمثالُ هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة"؛ قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/ 611- 613) مختصرًا وبتصرف يسيرٍ.
ولتعلمي - رعاك الله - أنَّ هناك أسبابًا كثيرة مانعةً من قبول الحق؛ من أهمها: الجهل بالشريعة وحِكَمِها، وشمولها وسماحتها، فإن من جهل شيئًا عاداه، فأوامرُ الرب تعالى رحمةٌ وإحسانٌ، وشفاء ودواء، وغذاء للقلوب، وزينة للظاهر والباطن، وحياة للقلب والبدن، ومسرة وفرحة ولذة وبهجة، ونعيم وقرة، وحياة للقلوب، ونور للعقول، يُدرك هذا كله مَن كان له عقلٌ وفطرةٌ سليمةٌ، كيف لا والذي شرعها هو أحكم الحاكمين؟ وقد شهد لها عقلاءُ الفلاسفة بالكمال والتمام، وأنه لم يطرق العالم ناموسٌ أكمل ولا أحكم منها.
فاطلبي العون من الله في سعيك لإصلاح زوجك والصبر عليه، والتحبب إليه، فهو من أقوى الأسباب لقبول الحق مِن قائله.
وفي الختام يجب أن تُدركي أن للصبر عليه مقدارًا وسقفًا محددًا، وأنه متى لم يستجب للحق، ويَعُدْ لرشده، ويتُبْ عن تلك الأفكار الإلحادية، فيجب عليك تركه ومفارقته، ولا يحل لك البقاء عنده، وأيضًا لتتمكني من تربية الأولاد على الدين الحق، فلا يخفى عليك خطورة استمرار الحياة مع زوجٍ بتلك الصفات؛ فضررُه شديدٌ على دين الأبناء.
وتذكَّري أنه رجل كبير، وعاقل ويختار، ومؤاخَذ بما يفعل، فاحذري أن تغامري بدينك ودين أبنائك، مِن أجْل حبٍّ قلبيٍّ، فمحبةُ الله ورسوله وتقديمُها على محبة كل شيء هو أصلُ الدين، وقد توعد الله مَن قدم محبة غيره بالوعيد الشديد والمقت الأكيد، فقال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين ﴾ [التوبة: 24].
وعلامة ذلك الحب أنه إذا عرض على المسلم أمران: أحدهما يحبه الله ورسوله، وليس لنفسه فيه هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه، ولكنه يفوت عليه محبوبًا لله ورسوله، أو ينقصه، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه على ما يحبه الله دلَّ ذلك على أنه ظالم، تاركٌ لما يجب عليه؛ وقال تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة:
22]
فالعقيدةُ لا تحتمل لها في القلب شريكًا، فإما تجرد لها، وإما انسلاخ منها، وليس المطلوبُ أن ينقطع المسلمُ عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة، ولا أن يَتَرَهْبَن ويزهد في طيبات الحياة، كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلصَ لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحركة والدافعة، فإذا تَمَّ لها هذا فلا حرَج عندئذٍ أن يستمتعَ المسلم بكل طيبات الحياة، على أن يكونَ مُستعدًّا لنبْذِها كلها في اللحظة التي تتعارَض مع مَطالب العقيدة.
ومفرقُ الطريق هو أن تُسيطرَ العقيدة، أو يسيطر المتاعُ، وأن تكونَ الكلمةُ الأولى للعقيدة، أو لِعَرَضٍ مِن أعراض هذه الأرض؛ قاله حكيمُ الإسلام الأستاذ سيد قطب في "ظلال القرآن" (3/ 1615).
هذا، وأسأل الله تعالى أن يصلحَ لك زوجك، وأن يحفظَ عليكم جميعًا دينكم
التعليقات