اقتباس
زواج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من زينب وما أثير حول هذا الزواج
د. معزز اسكندر الحديثي
أوْرَد بعضُ المؤرِّخين والمفسِّرين رواياتٍ واهيةً حولَ زواج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن زينبَ بنتِ جحش - رضي الله عنها[1]، ولم تكُن تلك الرواياتُ بعيدةً عن قواعد المحدِّثين في تخريج الرِّواية فحسبُ، وإنَّما بعيدة كلَّ البُعد عنِ التحليل المنطقي والعقلي لها، فنالوا بهذه الرواياتِ مِن مقامِ المصطفى وخُلُقه العظيم، ناسين العصمةَ التي وهبَها الله تعالى للأنبياءِ، وفي مُقدمتهم سيِّدنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذه الافتراءات اعتمدَها المستشرِقون ومَن سارَ على نهْجِهم، فأطلقوا لخيالِهم العِنان، وصوَّروا ذلك الزواج المبارَك كاننتيجة لقصَّة عشق بلغتْ حدَّ الولَه بيْن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والسيِّدة زينب - رضي الله عنها - وهي لا تزال على ذِمَّة رجلٍ آخَر!
وقبل أن نتناولَ هذا الموضوع نتعرَّف على بعضِ تلك الرِّوايات:
قال ابنُ إسحاق[2]: "مَرِض زيدُ بنُ حارثةَ فدخَل عليه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعودُه وزينبُ ابنةُ جحش امرأتُه جالسةٌ عندَ رأس زيد، فقامتْ زينب لبعض شأنها، فنَظَر إليها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم طأطأ رأسَه، فقال: سبحان الله مقلِّب القلوبِ والأبصار، قال زيد: أُطلِّقها لك يا رسولَ الله؟ فقال: لا، فأنزل الله: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]، أمَّا الطبري[3] فقدْ ذكَر عِدَّة روايات، ملخصها: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى زينبَ مرةً فأعجب بها، فقال: سبحان الله العظيم، سبحان الله مصرِّف القلوب.
سُبِي زيدُ بن حارثة وهو صغيرٌ وبِيع في سوقِ عكاظ، فاشتراه حكيمُ بن حِزام لعمَّته خديجةَ بنت خُويلد، فلمَّا تزوَّجها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهبتْه له، وبعدَ أنْ عرَفه أهلُه أرادوا فِداءَه، خيَّره رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاختار رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أهلِه، عندها تبنَّاه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال: اشهدوا أنَّه ابني يَرِثني وأرِثه، وأصبح يُدْعَى زيدَ بن محمَّد[4]، ونِظام التبنِّي كان شائعًا قبلَ الإسلام، وبَقِيَ نافذًا بعدَه برهةً، والابن بالتبنِّي كالابن الصلبي، وعليه فلا يجوز - في نِظام العرب قبل الإسلام - أنْ يتزوَّج المتبنِّي زوجةَ متبنَّاه إذا فارَقَها بطلاقٍ أوموت، كما هو الحال للابن الصُّلبي، ولماأراد الإسلام تنظيمَ عَلاقات الأسرة المسلِمة وَفق الأساس الطبيعي لها؛ ليحكمَ رَوابطها ويجعلَها صريحةً لا خلطَ فيها ولا تشويه، أبْطل عادةَ التبنِّي ليردَّ بذلك علاقاتِ النسبِ إلى أسبابها الطبيعيَّة، وهي علاقات الدَّم والأُبوَّة والبنوَّة الحقيقيَّة، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: 4]، قال الواحديُّ: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ نزلَتْ في زيد بن حارثة، وعليه أكثر المفسِّرين[5].
فقوله: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾؛ أي: لم يجعلِ الله مَن ادَّعيتَ أنَّه ابنك وهو ابن غيرِك ابنَك حقيقةً بمجرَّد دعواك؛ لأنَّ هذا الادِّعاء كلام لا حقيقةَ له ولا يثبت به نسب، فهو مخلوقٌ مِن صُلب رجلٍ آخَر، والله يقول الحق ويُرشدنا إلى أن نَنسُبَهم إلى آبائهم الحقيقيِّين، فإنْ لم نكن نعرِف آباءَهم الحقيقيِّين فهم إخوانُنا في الدِّين وموالينا فيه[6].
وبعدَ نزولِ هذه الآيات أصبح زيدٌ يُدعَى: زيدَ بنَ حارثة.
خُطبة زينب بنت جحش - رضي الله عنها -:
خطَب رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زينبَ بنت جحشٍ لمولاه زيدِ بن حارثة، ولكنَّها رفضتْ وأبَتْ لكونه لا يُماثلها شرفًا ولا حَسبًا؛ هي القُرشيَّة وهو المولَى، وساندَها في رَفضِها أخوها عبدُالله بن جحش[7].
ومِثل هذا الزواج في ذلك الوقت يُعدُّ ضربًا مِن الخيال؛ بسببِ التقاليد والأعراف التي قامَ عليها المجتمعُ العربيُّ قبل الإسلام، أراد رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تغييرَ كلِّ العادات والتقاليد التي لا تَنسجِم مع رُوح الإسلام ورِسالتِه السامية، فعزَم على تزويجِ ابنةِ عمَّته مِن مولاه زيد؛ ليحطِّمَ بذلك الزواجِ كلَّ الفوارق الطبقيَّة في المجتمع، ويجعلهم سواسيةً كأسنان المُشْط، ويُعلِّمهم بالطريق العمَلي أنَّ النسب والشَّرَف لم يعُدْ أساسًا للمفاضلة، وإنَّما المفاضلة بالتقوى وَفق قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
فعندما رَفضتْ زينبُ هذا الزواجَ أنْزَل الله قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]؛ قال ابنُ كثير[8]: "إنَّ رَسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - انطلَق ليخطبَ على فتاة زيدِ بنِ حارثة - رضي الله عنه - فدَخَل على زينبَ بنتِ جحش الأسديَّة - رضي الله عنها - فخَطَبها، فقالت: لستُ بناكحتِه، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بلَى فأنكحيه))، قالت: يا رَسولَ الله: أؤامِر نفْسي؟ فبينما هما يتحدَّثانِ أنزلَ الله هذه الآيةَ على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، قالت: رضيتُه لي يا رسولَ الله منكحًا".
ومعنى الآية: هو التسليم والخُضوع لقضاءِ الله ورَسولِه، وأنَّ عصيان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو عصيانُ الله؛ فليس لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ أن يختاروا مِن الأمورِ ما يَشاؤون، بل يجب أن يكونَ اختيارهم تبعًا لما اختارَه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعندَها قالت زينبُ وأخوها: رَضينا يا رسولَ الله[9].
شكوى زيد:
"حدَّثَنا محمَّد بنُ سليمانَ عن حمَّاد بن زيدٍ، عن ثابتٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: جاءَ زيدٌ[10] يَشكُو امرأتَه إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأمَرَه أن يُمسِكها، فأنزل الله: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ [الأحزاب: 37][11].
ظلَّتْ زينب تفْخَر على زيد بعدَ زواجها منه بشرفِها وحسبِها، وأنَّها القرشية وهو المولَى وعانَى زيدٌ مِن ذلك، وفشِل في إقامة أُسرة مستقرَّة هادِئة فبَدأ يشكو منها، وبدَا أنَّ حياتَهما لا يُمكن أن تستمرَّ طويلاً، وبعدَ أن أبطَل الله نظامَ التبنِّي وأحكامَه، أراد الله - جلَّ وعلا - أن يُلغي كلَّ الأعراف والتقاليد التي قامتْ على ذلك النِّظام، فاقتضتِ الحكمةُ الإلهية أنْ يتزوَّج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن زينبَ بنت جحْش ليلغي بذلك البنوَّة غير الحقيقيَّة مِن حياةِ الناس، فأخْبر الله نبيَّه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنَّ زيدًا سيُطلِّق (زينب)، وأنَّها ستكون زوجته ليزيل بذلك آثارَ نِظام التبني، فيتزوَّج مِن مُطلَّقة متبنَّاه زيد بن حارثة، ويواجه المجتمعَ بذلك، ولا يُمكن لأحدٍ غيرِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يقومَ بذلك في ذلك الوقتِ؛ لعُمق آثار التبنِّي في حياةِ الناس، الأمْر الذي أحدث ضجةً عظيمةً في حينه، ونفَذ المنافقون مِن خلاله فقالوا: إنَّ محمدًا تزوَّج حليلةَ ابنه، وهو المعصومُ مِن الله! فكيف لو أنَّ غيرَه قام بذلك العمل؟! بل ما زال أعداءُ الإسلام يُلفِّقون حولَ هذا الزواج الأساطير.
ولَمَّا شكَا زيدٌ لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن زينبَ قال له رسولُ الله: أمْسِك عليك زوجَك، وهو يَعلم - عليه السلام - عن طريق الوحي أنَّه سيُطلِّقها ويتزوَّجها هو، فأنزل الله قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]، فالذي (أَنْعَم الله عليه) هو زيدُ بن حارثةَ؛ إذ أنْعَم الله عليه بالإسلامِ، (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)، وذلك بعِتْقه مِن العبودية، (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) هو ما قالَه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لزيدٍ عندما جاءَ يَشْكو منها ويُريد تطليقَها، فقال له: لا تُطلِّقها ضرارًا وتَعلُّلاً بتكبُّرها واشتدادِ لسانِها عليك، (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ)؛ أي: إنَّ الله أعْلمك أنَّ زيدًا سيُطلِّقها وأنك ستتزوَّجها؛ فلماذا تقول له: أمْسِك عليكَ زوجَك؟! وهذا عتابٌ مِن الله لرسولِه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - تقول له ذلك، والأولى أن تصمُتَ وتتركه يُطلِّقها، ولكنَّ المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَل ما يَجِب عليه مِن الأمْر بالمعروف[12].
يقول الدكتور عبدالكريم زيدان[13]: "وهذا التفسيرُ للآية هو الذي يَجِب المصيرُ إليه، وما قيل خلافه غيرُ صحيح؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ الله تعالى سيُظهر ما كان يُخفيه في نفْسِه مِن أنَّها ستكون زوجةً له بعدَ أن يُطلِّقها زيد، وهذا هو الذي أظْهَره الله وأوْقَعه، وهو تزويجها منه - صلَّى الله عليه وسلَّم".
فلو كان الذي أخْفاه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأضْمَره ذلك الحبُّ الذي زعَمه بعضُ المؤرِّخين والمفسِّرين لأظهرَه الله تعالى؛ لأنَّه لا يجوز أن يُخبر الله تعالى أنَّه سيُظهره، ثم يَكتُمه ولا يظهره، وفي ذلك يقول الشنقيطيُّ[14]: "وهذا هو التحقيقُ في معنى الآية الذي دلَّ عليه القرآنُ وهو اللائِق بجنابِه - صلَّى الله عليه وسلَّم".
﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾؛ أي: تخاف وتستحي أن تقولَ لزيد: طلِّقها عندما أراد طلاقَها حتى تتزوَّجها، كما أعْلمك الله بذلك؛ خشيةً أو حياءً مِن قول الناس: إنَّ محمدًا تزوَّج حليلةَ ابنه، والله وحْده أحقُّ أن تخشاه في كلِّ أمر تفعلُه[15].
رُويَ عن أمِّ المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - أنَّها قالت: "لو كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُخفي شيئًا مما أنْزَله الله عليه لأخفَى هذه الآية"[16]، ولكن حاشاه في ذلك فقدْ بَلَّغَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلَّ ما أنزله الله عليه حتى ما فيه عتابٌ له.
زَواج النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن زينب:
قال - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]؛ أي: لما قضَى زيدُ بن حارثة حاجتَه مِن زينبَ بنت جَحْش وفارَقها، وبانتْ منه زوجناكها، وكان الذي وَلِيَ تزويجها منه هو الله بمعنى أنَّه أوْحَى إليه أن يدخُل عليها بلا وليٍّ ولا عقْد ولا مهْر ولا شهود مِن البشر؛ روى مسلم[17] عن أنس بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -: "لَمَّا انقضتْ عِدَّة زينبَ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لزيدٍ (فاذْكُرها عليَّ)، قال: فانطلق حتى آتاها وهي تُخمِّر عجينَها قال: فلمَّا رأيتُها عظُمتْ في صدري حتى ما أستطيع أن أنظُر إليها أنَّ رَسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكَرها فوليتُها ظهري ونكصتُ على عقِبي، فقلتُ: يا زينبُ، أرسل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَذكُرك، قالت: ما أنا بصانعةٍ شيئًا حتى أوامِر ربِّي، فقامتْ إلى مسجدِها ونزَل القرآنُ، وجاءَ رسولُ الله فدخَل عليها بغير إذنٍ...".
وفي ذلك يقولُ البخاريُّ[18] عن أنس بن مالك أنَّه قال: "إنَّ زينبَ بنتَ جحشٍ كانت تَفخَر على أزواجِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتقول: زوَّجكن أهاليكُنَّ، وزوَّجني اللهُ تعالى مِن فوقِ سبعِ سموات".
ثم قصَّ اللهُ تعالى علينا سببَ ذلك الزواج وعِلَّته، وهو رفْع الحرَج والمشقَّة عن المؤمنين إذا أرادوا الزواجَ مِن أزواج أدعيائهم؛ أي: مَن جعلوهم أبناء لهم وهم ليسوا بأبنائِهم، إذا فارقوهنَّ بموتٍ أو طلاقٍ، وانتهتْ عدتهنَّ، ولهم في رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُسوةٌ حسَنة.
نفْي أُبوة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأحد:
بعدَ زواجِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن زينبَ بنتِ جحش، قال الذين في قلوبهم مرَض: لقدْ تزوَّج محمَّد مِن حليلةِ ابنه، فأنزل الله قوله - تعالى -: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40][19]؛ أي: لم يكُن محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبًا لزيدٍ على الحقيقة، ولم يكن محمدٌ أبًا لأحدٍ مِن الصحابة، ولم تكن زينبُ زوجةَ ابنِه، فرسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يَعشْ له ولدٌ ذكَر، فقد وُلِد له القاسم والطاهر والطيِّب مِن خديجة - رضي الله عنها - فماتوا صِغارًا، وولد له إبراهيم مِن مارية القبطيَّة - رضي الله عنها - فمات رَضيعًا، وكان له أربعُ بناتٍ مِن خديجة: زينب ورقيَّة، وأم كلثوم وفاطمة - رضي الله عنهنَّ جميعًا، فمات في حياته ثلاثٌ منهنَّ، وتأخَّرتْ فاطمة بعدَ وفاته بستَّة أشهر، ثم بيَّن الله تعالى صِفتَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: هو رسولُ الله وخاتم النبيِّين.
مناقشة رِوايات المؤرخين:
تُفيد رواياتُ المؤرِّخين بأنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما إنْ رأى زينبَ بنت جحش حتى أُعجب بها، وزينبُ بنت جحش هي بنتُ أُميمة بنتِ عبد المطلب عمَّة رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّها رُبِّيت بعينه وعنايتِه وعاشتْ قريبًا منه وشَهِدها وهي تَكبر مِن الطفولة إلى الصبا إلى الشباب، فلم تكُن غريبةً عنه ولا غائبةً عنه، وهو الذي خَطَبها لمولاه زيدِ بن حارثة.
وجميعُ تلك الرِّوايات تصوِّر لنا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً شهوانيًّا ما إنْ وقعَتْ عيناه على امرأةٍ جميلة حتى أُعجب بها وهامَ بها حبًّا وأرادها لنفْسه، وقدْ نسيَ أولئك الرواةُ أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تزوَّج خديجةَ بنتَ خُويلد - رضي الله عنها - وهو في رَيعان الشبابِ في الخامسة والعِشرين مِن عُمره، وهي في سنِّ الأربعين، وظلَّ معها ستًّا وعشرين سَنة ولم يتزوَّج عليها حتى ماتتْ - رضي الله عنها - على الرَّغم مِن أنَّ نِظام تعدُّد الزوجاتِ كان شائعًا عندَ العرَب، ثم حثَّ عليه الإسلامُ، وكان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَملِك المسوِّغَ الكافي للزواج كونَه لم يعشْ له ولدٌ ذَكَر الذي كان وما زال غريزةً مِن غرائز الأُبوَّة.
وهكذا تزوَّج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زينبَ بنتَ جحش - رضي الله عنها - سَنَة خمسٍ للهجرة[20]، وقيل: سنة أربع[21]، وكان عمرُه ثماني وخمسين سَنَة، وفي عِصمته خمس زوجات.
[1] هي زينبُ بنت جحش بن رِئاب بن يَعمُر الأسدي، وأمُّها أُميمة بنتُ عبد المطلب عمَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تزوَّجها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سَنَة خمس للهجرة، وكان اسمها: برَّة، فسمَّاها: (زينب)، تُوفِّيت سنة عشرين للهجرة؛ ابن عبدالبر، "الاستيعاب" (4/ 314)؛ ابن حجر "الإصابة"، (4/ 313).
[2] "السير والمغازي" (ص: 262).
[3] "تاريخ الرسل" (3/ 95).
[4] ابن عبد البر، "الاستيعاب" (1/ 545)، ابن حجر، "الإصابة" (1/ 563).
[5] الطَّبري، التفسير، (21/ 119)، القرطبي، التفسير (14/ 118)، ابن كثير، التفسير (3/ 4659)، الصابوني، "روائع البيان تفسير آيات الأحكام مِن القرآن" (2/ 254).
[6] ابن كثير، "تفسير القرآن" (3/ 465)، الصابوني، "روائع البيان" (2/ 254).
[7] ابن كثير، "تفسير القرآن" (3/ 489).
[8] "تفسير القرآن" (3/ 489).
[9] ابن كثير، "تفسير القرآن" (3/ 490).
[10] هو زيدُ بن حارثة بن شراحبيل الكلبي، أبو أسامة مولَى رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تبنَّاه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو ابن ثمان سِنين، من أوائل الذين أسلموا، شهِد بدرًا، أمَّرَه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على المسلمين في غزوة مؤته سَنة ثمان للهجرة، واستُشهد بها؛ ابن عبدالبر، "الاستيعاب في معرفة الأصحاب، المطبوع بهامش الإصابة"، (1/ 546)، ابن حجر، "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 563).
[11] البخاري، الصحيح، كتاب التفسير، باب (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) (ص: 868)، رقم الحديث (4787)، واللفظ له؛ الترمذي، سُنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر وآخرين، كتاب "تفسير القرآن"، (باب ومِن سورة الأحزاب)، (5/ 354)، رقْم الحديث (3212)، النسائي، السُّنن الكبرى، سورة الأحزاب، باب قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) (6/ 234)، رقْم الحديث (11407).
[12] ابن كثير، "تفسير القرآن" (3/ 490 -491).
[13] "المستفاد مِن قصص القرآن" (2/ 326).
[14] "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (4/ 285).
[15] ابن كثير، "تفسير القرآن" (3/ 490 - 491).
[16] ابن كثير، "تفسير القرآن" (3/ 491).
[17] "الصحيح"، كتاب النكاح، باب زواج زينب بنت جحش (2/ 1048)، رقم الحديث (1428).
[18] "الصحيح"، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: ﴿ اتَّقِ اللهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ (ص: 1309)، رقم الحديث (7420).
[19] الطبري، التفسير (22/ 16)، القرطبي، التفسير (14/ 188).
[20] ابن عبدالبر، "الاستيعاب" (4/ 314)، المقريزي، "إمتاع الأسماع" (1/ 253)، ابن حجر، "الإصابة" (4/ 313).
[21] ابن جماعة، "السيرة النبوية الشريفة - المختصر الكبير" دراسة وتحقيق: آسيا كليبان الزهيري، (ص: 100).
التعليقات