اقتباس
وعلى الخطيب أنْ يراعي مجيء الناس، واستعدادهم، وتفرُّغهم له، فيستعدّ بمظْهَره، ومخْبَره، وخُطْبته لهذا الموقف كلَّ جمعة، بما يتناسب مع تنوُّع الناس في علومهم، وأفهامهم، ومستوياتهم. وعليه بالإخلاص والتحضير الجيّد؛ احترامًا لعقول الناس، والحرص على الكلام المبسّط المركَّز القصير، فإن الناس يملُّون وفيهم المريض والعاجز، والإيجاز علامة الفقه، ولا ينبغي أن يشعر الحاضرون وكأنهم في حبْس الخطيب.
أخي الخطيب ...
إن مهمّة الخطيب مهمّة جليلة عظيمة، فهو يقوم بتذكير الناس كل أسبوع في خير يوم طلعت فيه الشمس، وهو يوم الجمعة، العيد الأسبوعي للمسلمين، ويستعدّ الناس لهذا اليوم بالاغتسال واختيار أجمل الثياب، والتبكير ومحاولة الاقتراب من الخطيب والإنصات، والناس مُلزَمون بالتفرُّغ للحضور والاستماع يقول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:9-10] .
ولذلك يجب على الخطيب أن يُقَدِّر مهمّته، ويستشعر عِظَم مسؤوليّته، ويتهيّأ للجمعة تهيُّؤًا إضافيًّا آخر غير التهيُّؤ الذي يحصل من سائر الناس، فالناس يأتون طاعةً لِله وعبادةً له من أجل أن يستمعوا إلى الخطيب ويُصَلُّوا خلْفه. ولا يوجد مثل ذلك عند غير المسلمين.
وعلى الخطيب أنْ يراعي مجيء الناس، واستعدادهم، وتفرُّغهم له، فيستعدّ بمظْهَره، ومخْبَره، وخُطْبته لهذا الموقف كلَّ جمعة، بما يتناسب مع تنوُّع الناس في علومهم، وأفهامهم، ومستوياتهم. وعليه بالإخلاص والتحضير الجيّد؛ احترامًا لعقول الناس، والحرص على الكلام المبسّط المركَّز القصير، فإن الناس يملُّون وفيهم المريض والعاجز، والإيجاز علامة الفقه، ولا ينبغي أن يشعر الحاضرون وكأنهم في حبْس الخطيب، بل ينبغي أن يخرجوا وهم منشرحون من خطبته، متفَهِّمون لطرحه، مستفيدون من كلامه، وعليه أن يعمل على مراعاة الواقع ومعالجته بحكمة من خلال الكتاب والسنة، و يستفيد -باقتضاب- من كلام الربانيين، ونثْر وشِعر الحكماء المجرّبين، وبطريقة التذكير والوعظ، و ينبغي ألّا تكتفي الخطبة بالنصوص دون تنزيلها على الواقع، ولا بتفصيل الواقع دون الاستهداء بالنصوص، و لا بالاكتفاء بالوعظ دون بيان ما بيّنه الشرع في دنيا الناس مما يحتاجون إليه، و لا بالاقتصار على سرْد أحكام الفقه بلا وعْظ، بل ينبغي أن تلُمّ الخطبة شتات ذلك كله بإيجاز وبلاغة مفهومة، وحرْصٍ ظاهرٍ على التزكية. وقد ثبت أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- خطب بسورة (ق) كما عند مسلم، وكان الناس يفهمون القرآن تلقائيًا؛ لأنه نزل بلغتهم المباشرة، وهذا يعطينا صورة عن شمول الخطبة، وعن مقدار مدة خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخير الهدْي هدْي محمد -صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن هذا يلقي عبئاً كبيرًا على الخطيب في كل أسبوع، ولكن الأجر على قدْر المشقة، ومع الاستمرار والمثابرة؛ سيعتاد الخطيب ذلك ويسهل عليه، وقد سئل عبد الملك بن مروان عن إسراع الشيب فيه، فكان ردّه: كيف لا يسرع إليّ الشيب وأنا أعرض عقلي على الناس كلَّ أسبوع!، ويكفي الخطيب أنه يمارس أفضل القول (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33]. وأنه يُقَدّم الهداية للعديد من الناس " لَأَنْ يهدِيَ الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمُرِ النَّعَم" متفق عليه. ولا بأس أنْ يستخير الله في موضوع الخطبة، فهي أمرٌ ذو بال يستحق الاستخارة حتى يختار الله له الأصوب، والأنفع، والأنسب، وقد كان عليه الصلاة والسلام يُعلّم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما في حديث جابر عند البخاري، وكذلك يستشير أهل المشورة في موضوع الخطبة إن اقتضى الظرْف ذلك، ويدعو الله أن ينفع بخطبته، وبالله التوفيق.
التعليقات