عناصر الخطبة
1/الصفة وضدها 2/ أهمية القوة 3/ قوة الإيمان وثمرتها 4/ السبيل إلى تقوية الإيمان في القلوب 5/ الصوم سبيل القوةاهداف الخطبة
توضيح معنى القوة للناس / تحبيب قوة الإيمان في النفوساقتباس
.. أين هذه القلوب القوية، والنفوس الكبيرة من قوم يصومون عن الطعام والشراب، ويفطرون على ما حرم الله تعالى، قد أسرتهم برامج هزلية تُسطِّح العقول، وتفسد القلوب، يفطرون عليها كل يومٍ؟!
أين هذه القلوب من قلوب أقوام لا يصبرون في ليالي رمضان عمَّا تقذفه الفضائيات من كل خبيث مسموع ومشاهد يخدش الحياء، ويدمر الأخلاق، ويفسد العقول والقلوب؟!
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار
أيها الناس: خلق اللهُ تعالى البشر، وفاوت بينهم في القدرةِ والقوة، والشجاعةِ والحلم والأناة، وفي غيرها من الصفات، وجعل -سبحانه- في الواحد من الناس الصفة وضدها، وتغلبُ إحدى الصفتين الأخرى بإنمائها، وتحريك بواعثها، وتعاهدها بالرعاية والرياضة، وتنطفئ الأخرى بإهمالها وقهرها، ومجانبة أسباب حياتها.
فالإنسان قابلٌ للخير كما هو قابلٌ للشر، وهو قادرٌ وعاجز، وقويٌ وضعيفٌ، وحليمٌ وغضوب، ومتأنٍ وعجول، وشجاع وجبان، وكريمٌ وبخيل، وحازم ومتردد، فالصفة وضدها موجودتان فيه؛ ولكن إحداهما تغلب الأخرى وتلغيها، بحسب تربية المرء وبيئته وأقرانه؛ فالذي يخالط الكرماء يتأثر بهم فتراه كريماً، والذي يعيش بين البخلاء يؤثرون عليه فيصبح بخيلاً، وهكذا يقالُ في باقي الصفات.
وهذه الحقيقة التي اكتشفها الطب والعلوم الإنسانية حديثاً قد دلَّت عليها النصوص قديماً؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحلم يكتسب كما تكتسب سائر العلوم والمعارف، فقال عليه الصلاة والسلام: " إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم "، وأخبر الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى -وكان مشهوراً بالحلم- أنه كان يجالس الحلماء؛ لاكتساب الحلم منهم كما يختلف إلى الفقهاء لأخذ الفقه عنهم.
والقوة من الصفات الحسنة المرغوبة عند البشر، سواء كانت قوة الجسد، أم قوة الجاه، أم قوة المال، أم غيرها من أنواع القوة؛ فكل البشر يحبون القوة، ويودون أن يكونوا أقوياء، ويكرهون الضعف، ولا يريدون أن يصبحوا ضعفاء.
والشريعةُ جاءت بمدح القوة التي تعود على صاحبها بالنفع، وبذمها إذا رجعت عليه بالضرر، وبينت أن أفضل قوة يتحلى بها الإنسان هي قوةُ الإيمان؛ لأن العبد إذا امتلكها سخر كل قوةٍ لديه في خدمة مقتضيات إيمانه؛ مما يكون سبباً في الخير العاجل والآجل له؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف " رواه مسلم
إن قوة الإيمان تقود إلى قوة الأخذ بعزائم الشريعة؛ والثبات على أحكام الملة، وتحمل الابتلاءات والمحن في سبيل ذلك، وعدم الالتفاتِ إلى المخذلين والمرجفين من ضعاف الإيمان، وذوي القلوب المريضة الضعيفة؛ كما كان حال الأنبياء عليهم السلام مع المكذبين؛ إذ أمروهم بشريعة الله تعالى، وتحملوا في سبيل ذلك القتل والتعذيب، والسخرية والتشريد، والاستهزاء والتكذيب، وصبروا على ذلك حتى أتاهم فرج الله تعالى؛ لأن الله تعالى أمرهم بأن يأخذوا شريعته بقوةٍ وعزم وثبات، ويبلغوها للناس، قال سبحانه وتعالى: (يّا يّحيى خٍُذِ الكِتَابَ بقُوَّة) [مريم: 21].
وأمر سبحانه موسى عليه السلام بأن يأخذ مواعظه وأحكامه، ويبلغها لبني إسرائيل بقوة وثبات فقال عز من قائل: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وأمرقومك يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ) [الأعراف:145].
وخاطب سبحانه النبي الخاتم محمداً صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ) [الحجر:94]. والصدع لا يكونُ إلا بقوة، وصوتٍ جهير، وإعلانٍ على الملأ، وتحدٍ للمكذبين والمعارضين.
فجمع عليه الصَّلاة والسَّلام الناس، وخطب فيهم، وصدع بالحق أمامهم بكل ثباتٍ وعزمٍ وقوة.
وفعل الطاعة في وقتها الفاضل مع المشقة سماه النبي صلى الله عليه وسلم قوة؛ لأن من أتى بها مع المشقة قد حمله إيمانه القوي على تحمل المشقة في سبيلها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: " أيَّ حينٍ توتر؟ قال: أول الليل، بعد العتمة، قال: فأنت يا عمر؟ فقال: آخر الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أنت يا أبا بكر فأخذت بالوثقى، وأمَّا أنت يا عمر فأخذت بالقوة ".
وإذا بُلغت الدعوة للناس، وصُدع بالحق فيما بينهم، فلابد أن يوجد من يعارضُها ويحاربُها؛ من أحزاب الشياطين، وأهل الأهواء والمصالح الذين يريدون تعبيد الناس لأهوائهم وشياطينهم، ويرفضون أن تكون عبوديتهم خالصةً لله تعالى، وهؤلاء لا يمكن ردعهم إلا بالقوة على حد قول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60].
وأمثالُ هؤلاء المحاربين من الكفار والمنافقين لا يمكن التعاملُ معهم إلا بحزم وقوةٍ وغلظة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة:73]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وليجدوا فيكم غِلْظَةً) [التوبة:123].
وذكر الله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " كان أهل الحديبية أشداءَ على الكفار، أي: غلاظٌ عليهم كالأسد على فريسته ".
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: " هذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار، رحيماً براً بالأخيار، عبوساً غضوباً في وجه الكافر، ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن ".
ولما كانت غزوة بدر، وأُسر من المشركين سبعون، واقترح عمر أن يدفع كل أسير إلى قريبه من المسلمين فيقتله؛ ليعلم الكفار أنه لا هوادة في الدين، وأن قوة الإيمان تعلو وشائج القرابة؛ صوَّب الله تعالى رأي عمر، وعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على قبول فدائهم؛ لأن ما رآه عمر كان فيه حزم وقوة في الحق (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:67].
إن قوة الإيمان هي المحرك لكل قوة نافعة، وهي الباعث على الشجاعة والصدع بالحق؛ لأن من آمن بقوة القوي العزيز، وأيقن بأن أية قوة مهما بلغت فهي ضعيفة عاجزة أمام جبروت الجبار وعزته وبطشه؛ فلن يرهب قوة الأقوياء، ولن يخاف جبروت الجبارين، ولن يبقى في قلبه محل إلا لخوفِ الله تعالى ومحبته ورجائه.
والضعفُ أمام المخلوقين، والخوف منهم إنما ينشأ عن ضعف الثقة بالله تعالى، وتزعزع التوكل عليه، وعدم إحسان الظن به؛ ولذا فإن تقوية الإيمان بالله تعالى في القلوب، وزرع التوكل عليه، وإحسان الظن به - كفيلٌ بقوة القلب وشجاعته، وتعلقِه بالله تعالى، وإقدامه على المنايا في سبيله بنفس رضية مطمئنة.
وتقوية الإيمان في القلوب تكون بدوام التفكر في قوة الله تعالى وعزته وعظمته وجبروته، ومعرفة أسمائه وصفاته، والمحافظة على الفرائض، واتباعها بالنوافل، والنظر في نصوص الوعد والوعيد نظرة تدبر ورجاء واعتبار وخوفٍ.
وذكر الله تعالى، وكثرة استغفاره، لها تأثير عجيب في قوة القلوب والأبدان؛ كما قال هود عليه السلام: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود:52]؛ والقوة هنا عامة؛ فتشمل قوة القلوب وشجاعتها، وقوة الأجساد وشدتها، كما تشمل قوة الأفراد، وقوة الأمة بمجموعها إذا لازمت الاستغفار، وجانبت المعاصي؛ فتصبح أمة قويةً، محاطةً بهيبة دين الله تعالى، محفوظةً بحفظه ورعايته.
فاللهم احفظنا بحفظك، واملأ قلوبنا إيماناً ويقيناً، وارزقنا قوة تقذف بها المهابة منا في قلوب أعدائنا، إنك سميع قريب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما أمر، والشكر له على عظيم نعمه وآلائه فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- فإن الأيام تمضي، والأعمارَ تنقص، وما أكثر العصيان، وما أقل الاستغفار والتوبة!! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
أيها المؤمنون: الصوم الذي فرضه الله تعالى على المسلمين سبيل من سبل بناء القوة فيهم؛ فهو يجمع بين تقوية قلوبهم وتقوية أجسادهم؛ فأما أجسادهم: فَيُدفع عنها بالصيام الكثير من العلل والأدواء بتخليتها من زوائد الأطعمة التي اعتادت عليها طوال العام، وأمَّا تقوية القلوب فمن وجوه كثيرة: فالمسلم في رمضان يصبر على وطأة الجوع والعطش، ويترك كل ما اعتاده في النهار من ملذات، ويصبر على الحرمان بطوعه واختياره.
والصبر الاختياري على ملذات النفس وأهوائها أكثر فائدة للنفس وللأمة من الصبر الذي تحمل عليه الفاقة، أو يلجئ إليه الحرمان، أو تبعث عليه الرهبة من العقاب والحساب.
إن الصبر على الشدائد قوةٌ معنوية ينالها أهل الصيام، هي من أقوى الأسلحة التي تتسلح بها الأمم في مواجهة أعدائها، والصبر على الحرمان في قلب المعركة يعد من أهم عوامل النصر، ومن المعلوم أن من أكبر الأزمات التي تواجه الجيوش الحديثة تموين أفرادها بالطعام، وتوفير الرفاهية لهم حين يطول بعدهم عن بلادهم وأهليهم؛ ولذا عمدت كثير من الجيوش غير المسلمة إلى اصطحاب فرق من النساء الساقطات مع الجيوش؛ للقيام بترفيه الجنود، أو بتجنيد نسائهم؛ ليتسلى بهن جندهم حين يطول مقامهم في معاركهم ومرابطاتهم.
أليس من العجب -أيها الإخوة- أن الجيوش المسلمة كانت تنطلق في صدر الإسلام من قلب جزيرة العرب؛ لتخوض غمار حروب كبرى استمرت عشرات السنوات، ثم لم يحدث أن وجدت القيادة أو الخلافة نفسها إزاء مشكلة التموين أو الترفيه!!.
أما التموين فكان أفراد الجيش المسلم صوَّاماً عبّاداً، يقنعون بالقليل من الطعام، وأما الترفيه فما كانت لذتهم إلا في عبادة ربهم، يحيون ليلهم في التهجد والذكر وقراءة القرآن، ويقضون نهارهم على صهواتِ خيلهم ينازلون الأعداء، في وقت كان أعداؤهم لا يحضرون القتال إلا وبصحبتهم المسكراتُ والمومسات، ولا يتقدمون للمنازلة إلا بعد ضمان توفير الطعام والشراب؛ فكانوا مستعبدين لشهواتهم، منهارين في معنوياتهم.
لقد جاء الإسلام بما يقوي الإرادة، ويشحذ العزيمة، ويعلي من الهمة، ويجعلُ المسلم يستعلي على شهوته وهو محتاج إليها، ويقهر نفسه على الصيام مع مسيس حاجته إلى الفطر؛ وذلك حينما رتب النبي صلى الله عليه وسلم الأجور العظيمة، والثواب الجزيل على الصيام في حال الجهاد والرباط؛ وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: " من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً " رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض ".
وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام ".
وفي الصيام تربية على الطاعة والامتثال؛ لأن الصائم حَبَسَ نفسه عن شهواته باختياره؛ طاعةً لله تعالى، وإذا كان كذلك كان عنده من قوة الإرادة، وصلاحِ القلب ما يجعله يقدم مصلحة الجماعة على مصلحة نفسه، ويسمع ويطيع لقادته ولمن ولاَّه الله أمره؛ كما فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه حينما عزله عمر رضي الله عنه عن قيادة الجيوش؛ خوفاً على الناس من الفتنة به، فصار جندياً بعد أن كان قائداً، ولم يتمرد، أو يعص، أو ينعزل عن الجيش، أو يرجع من الغزو؛ لأن إرادته كانت للآخرة، وطلبه لما عند الله تعالى كان أقوى من حظوظ نفسه، فسمع وأطاع، ونقلت عنه مقولته المشهورة: " إني لا أقاتل لعمر، ولكني أقاتل لرب عمر ".
وعقد النبي صلى الله عليه وسلم لواءً لأسامة بن زيد رضي الله عنهما، ولما يبلغ العشرين من عمره على رأس جيش فيه شيوخ الصحابة، وكبار قادتهم فسمعوا وأطاعوا ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ولما يذهب الجيش أشار عمر على أبي بكر رضي الله عنهما أن يولي عليهم من هو أكبر سناً، وأكثر حنكة من أسامة، فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: " يوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعزله أنا! لا أبا لك "؛ ماذا ترون في هذه الطاعة العجيبة للنبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره حياً وميتاً من قوم كانت إراداتهم أقوى من شهواتهم، وطلبهم للآخرة أعظم من نظرهم إلى الدنيا!!.
أين هذه القلوب القوية، والنفوس الكبيرة من قوم يصومون عن الطعام والشراب، ويفطرون على ما حرم الله تعالى، قد أسرتهم برامج هزلية تُسطِّح العقول، وتفسد القلوب، يفطرون عليها كل يومٍ؟!
أين هذه القلوب من قلوب أقوام لا يصبرون في ليالي رمضان عمَّا تقذفه الفضائيات من كل خبيث مسموع ومشاهد يخدش الحياء، ويدمر الأخلاق، ويفسد العقول والقلوب؟!
أين هي الإرادة القوية التي يتربى عليها الصائم كل يوم، أما نفعته في حجب نفسه وأهله وأسرته عما حرم الله تعالى عليهم، وقسرها على ما أحل الله تعالى لهم..
إنها قلوب ضعيفة، وإرادات هزيلة، ومعنويات منهارة، وعزائم خائرة، ونفوس منهزمة، شكلت بمجموعها ضعفاً في الأمة، ضرب عليها الذلة والمسكنة بسببها، ولن يرفع عنها إلا بعودة جادة إلى الله تعالى؛ فتوبوا -أيها المؤمنون-، وأنيبوا إلى ربكم، وحذار حذار من مفسدات الصوم؛ فمن صامت حواسه عما حرَّم الله تعالى عليه فهو المقبول إن شاء الله تعالى، ومن صام عن الطعام والشراب وأفطر بصره على الحرام، وسمعه على سماعه، وقلبه على الاستئناس به - فيخشى عليه من رد الصيام والقيام، وحبوط العمل، نسأل الله العافية.
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
التعليقات