عناصر الخطبة
1/رمضان شهر مبارك 2/حث النبي صلى الله عليه وسلم على فعل الخير في شهر رمضان 3/الفرص الرمضانية 4/من أبواب الخير في رمضان.اقتباس
اسأل نفسك: كيف سيكون صيامُ المشردين والمحاصرين؟! في فلسطين وسوريا واليمن وبورما، وهل سيصومون أم سيفطرون؟! وعلى أي شيء سيفطرون؟! صور من الفاقة والفقر، وهياكل عظمية تسير وتتعثر وكأنها طيف إنسان في السراب البعيد، صور يرها العالم أجمع يرق لها حتى الكفار ولذلك تنادت...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: بعد بضعة أيام سنستقبل شهراً عظيماً، وضيفاً كريماً، ضيفٌ تزدان به الدنيا وتشرق أنوارها، وتهب رياح الإيمان وتنساب بين أرجائها، شهرٌ كان يبشر بمقدمه رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابَه فيقول: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ"، قال الطيبي: "اتحاد الشرط والجزاء دلالة على فخامة الجزاء، أي فقد حرم خيراً لا يقدر قدره" (رواه أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ).
مرحبًا بك يا رمضان، حبيبًا جئت على وَلَهٍ منا وطولِ انتظار، جئت بعد غياب عامٍ مات فيه أقوامٌ ووُلِدَ آخرون، واغتنى قومٌ وافتقر آخرون، وسَعِدَ قومٌ وشقي آخرون، واهتدى قوم وضلَّ آخرون.
أكرم بهذه البشارة وأنعم بها وهي إشارة في الحث على بذل الجهد واستثمار أوقاته؛ فلنبادر لفعل الخير قبل فَوَات الفُرَص وذهابِ الأعمار قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "افْعَلوا الخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وتَعَرَّضُوا لِنَفَحاتِ رَحْمَةِ اللهِ؛ فإنَّ للهِ نَفَحاتٍ من رحمتِهِ، يُصِيبُ بِها مَنْ يَشَاءُ من عبادِهِ، وَسَلوا اللهَ أنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُم" (رواه الطبراني في الكبير عن أنس بن مالك رَضِي الله عَنهُ وحسنه الألباني في السلسلة).
وها هي رياح الإيمان قد هبَّت، ومواسم الخير قد أقبلت؛ فالسعيد من اغتنمها، نعم فرمضان فرصٌ وحظوات، صيامٌ وصلوات، جهادٌ ودعوات، ذكرٌ وصدقات، تلاوةٌ وخلوات، رمضان فرصٌ لا تعوض وأوقاتٌ لا تهدر؛ فهل نتذكر؟!
رمضان فرصةٌ للتوبة، وقد فتح اللهُ أبوابَها في كل يوم من أيام الدنيا؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِي الله عَنهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" (رواه مسلم)، لكن للتوبة في رمضان مزيد مزية لفضل الأعمال الصالحة فيه، ولسهولتها على المسلم.
أحبتي: مَنْ لم يتبْ ويرقَّ قلبُه في رمضان متى يتوب ويرق؟! فَمَرَدَةُ الشياطين قد صُفِّدت، والشرُ قد اجتمع على نفسه فهو لا يطيق انتشارًا، وسحائب الإيمان أطلت وأظلت، وبيوتُ المسلمين قد لهجت بالدعاءِ وصلَّت.
في رمضان فرصٌ سانحةٌ للدعاء فهو شهر الدعاء فقد؛ ذكر الله في معرض ذكره للصيام هذه الآيةَ العظيمة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة:186]، قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في قوله: (إني قريب) "القرب نوعان": "قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة".
سبحانك ربي: أيُ إيناسٍ للصائمين في مشقة صومهم يحصل لهم في ظل هذا الود والقرب والاستجابة؛ يكون أعظمُ من هذا الأنس؟! وقد جعل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدعاء أكرم شيء على الله فقال: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى الله -تعالى- مِنْ الدُّعَاءِ" (رواه الترمذي وحسنه الألباني)، بل جعل ترك الدعاء سبباً لغضبه -سبحانه- فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ" (رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني)، قال الطيبي: "معنى الحديث أن من لم يسأل الله يبغضه والمبغوض مغضوب عليه والله يحب أن يسأل".
فما أحسن حال من التجأَ إلى رب الأرباب! وما أطيب مآل من انتمى إلى كلِ صالحٍ أواب! ما ألذَّ حديث التائبين! وما أنفعَ بكاءَ المحزونين! وما أعذبَ مناجاة القائمين! وما أمرَّ عيش المحجوبين وأعظم حسرة الغافلين! وما أشنعَ عيش المطرودين!
رمضانُ أيها الإخوة: فرصةٌ لتربية صفة الرحمة في النفوس، حتى تعيشَ مبدأ الجسد الواحد الذي يُؤلمُ بعضَه ألمُ بعض، فمن سُنن الحياة أن الرحمةَ تظهر عند الإحساس بالألم، وأن الطغيان ينشأ عند الغفلة مع الأمن والغنى، قال الله -تعالى-: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)[العلق: 6- 7].
وهذا بعضُ السرِ الاجتماعي في الصوم إذ يحرص المسلم أشدَ الحرص ويُدققُ كلَ التدقيق في الامتناع عن الغذاء وشبه الغذاء مدةً آخرها آخرُ الطاقة، وهي طريقة عملية لتربية الرحمة في النفوس، ولا طريق غيرها إلا النكباتُ والكوارثُ التي تحل بالناس أعاذنا الله منها.
والصوم حرمانٌ مشروع، وتأديبٌ بالجوع، وخشوعٌ لله وخضوع؛ فلكلِ فريضةٍ حكمة، وبعض هذه الحكمُ ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة؛ لأنها تستثيرُ الشفقة، وتحضُ على الصدقة، حتى إذا جاعَ من أَلفَ الشبع، وعرفَ المترفُ أسبابَ الـمُتعِ، وعَلِمَ الحرمانَ كيف يقع، وألمَ الجوعِ إذا لذع! تصدق وبذل وأعطى بلا تردد وكلل.
اسأل نفسك: كيف سيكون صيامُ المشردين والمحاصرين؟! في فلسطين وسوريا واليمن وبورما، وهل سيصومون أم سيفطرون؟! وعلى أي شيء سيفطرون؟! صور من الفاقة والفقر، وهياكل عظمية تسير وتتعثر وكأنها طيف إنسان في السراب البعيد، صور يرها العالم أجمع يرق لها حتى الكفار ولذلك تنادت الهيئات الدولية لسد جوعتهم، وفي الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ" (رواه أبو داود وصححه الألباني).
رمضانُ -أيها الإخوة- فرصةٌ لتربيةِ النفوسِ، وتقويةِ الإرادةِ فيها والارتفاعِ بها إلى سماءِ المجد ودرجات العز، إن رؤيةَ هلالِ الصيام في السماء هو إشارةٌ بالغة لبدءِ معركةِ الإرادة وقوةِ العزيمة؛ فالصوم يدربُ المسلمَ على أن يمتنعَ باختياره عن شهواته وملذاته، في إرادة قوية ثابتة، لا يَضِيرُها كيدُ الشيطان، ولا تعدو عليها عوادي الشهوة؛ فأيُ قانونٍ من قوانين البشر يحقق ذلك؟! وأيُ أمةٍ من الأمم تجدُ فرصةً تستطيع من خلالها فرض نمط من أنماط تربية شعبها بمزاولة فكرة نفسية واحدة كلَ سنة وخلال ثلاثين يوما؟! غير أمة الإسلام، ألا ما أعظم الإسلام، وما أروع الصيام.!
فلو قيل لبعض الناس: دعوا عنكم شرب الدخان لاستصعبوه وأحسوا العنت بفقده؛ فما بالهم في أيام رمضان ودون أي نداء وإلحاح قد تركوه خلال فترة الإمساك وهي تزيد على خمسة عشرة ساعة.
إن هذه الإرادة وهذه التربية الرمضانية يجب ألا تذهب أدراج الرياح، بل الواجب أن ترسخ في النفوس، وأن تكون جُزءًا لا يتجزأ من كيانها، حتى إذا انتهى الشهر ووُدَّع بقيت آثار هذه الإرادة وهذه التربية في النفوس، فلا يكون ذهاب التربية إلا حين تروح الروح، قال ربنا -جل في علاه-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
بارك الله لي ولكم….
الخطبة الثانية:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183]؛ أجل لعلكم تتقون؛ فالغاية الكبيرة من الصوم التقوى؛ التقوى التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعةً لله، وإيثاراً لرضاه؛ التقوى التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو كانت هاجساً في البال؛ التقوى التي يعلم المسلمون وزنها عند الله؛ فهي غاية ما تتطلع إليها نفوسهم، والصوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ موصلٌ إليها لذلك كله جعلها الباري هدفاً ساطعاً يتجهون إليه عن طريق الصيام؛ لعلكم تتقون.
أيها الأحبة: ومما يجب التفطن له الحذر من حبائل التسويف، وبئس مطية الرجل سوف.. ومحروم من تصرمتْ الليالي والأيامُ العظيمةُ وهو بين السينِ وسوف، ولم يدرك من هذا الموسم العظيم إلا أجر النية، والتحسر على فوات الأوقات.
أيها الإخوة: وأقول مذكراً لنفسي وإياكم: ها هي أيام الخير قد أقبلت، ومواسم البذل قد أطلت؛ فهل من مشمر إلى الجنة.؟ لنقل جميعا نعم نحن المشمرون إن شاء الله، وبداية التشمير تبدأ بالعزم الأكيد على استثمار أوقات هذا الشهر الجليل:
أولاً: بتركِ ما نهى الله عنه ومجاهدةَ النفسِ على ذلك، ثم بالتزودِ مما شرع من العبادات.
ومن ذلك معاهدة النفسِ على أداءِ الصلاة المفروضة في وقتها وعدمِ ترك الجماعة: ثم الحرص على صلاة التراويح كاملة مع الوتر مع الإمام، قال رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (رواه البخاري)، ولما قال الصحابة -رَضِي الله عَنهُم- للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لو نفلتنا بقيةَ ليلتنا هذه قال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيامُ ليلة" (رواه أهل السنن بسند صحيح).
ومما ينبغي أن يكون من أولويتنا تفطير الصائمين: وفيه أجر عظيم، ولا تصرف فيه الزكاة؛ وإنما هو من الصدقات، وإطعام الطعام، وقد حث عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فعن عن زيد بن خالد الجهني -رَضِي الله عَنهُ-: عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا" (رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة، وعند النسائي في الكبرى وابن خزيمة وصححه الألباني).
رمضان -أيها الأحبة- شهر القرآن ولذلك كان للقراءة فيه مزية على غير؛ فقد كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتدارس القرآن مع جبريل كل ليلة في رمضان؛ وفي السنة التي قبض فيها مر عليه مرتين، ومما ورد في فضل قراءة القرآن عموماً قول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ" (رواه الترمذي وهو صحيح).
أيها الإخوة: وحارس هذه العزيمة الحرصُ، وقضاءُ النوافل التي تفوتنا فقد كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقضي ما يفوته منها؛ فإن فاتنا القيام مع الإمام مثلاً قضيناه كما هو من الليل، أو شفعا من الغد في الضحى، وإن فاتنا وردنا من القراءة قضيناه في وقت يليه، هذه عزائم الجادين، وهذا ديدن الحريصين؛ فإذا حرص المسلم على القضاء، بادر بالأداء؛ لثقل القضاء، أما من تهاون بالقضاء فسيجد نفسه وقد فاته خير كثير يصعب عليه تداركه.
أسأل الله لنا جميعا التوفيق والإعانة.
التعليقات