عناصر الخطبة
1/قصة وعبرة 2/حسن الظن بالمسلمين 3/الإنصاف مع المسلم والتماس الأعذار له 4/العدل والرحمة في التعامل مع المؤمنين.اقتباس
فالمؤمنُ يُحبُّ إخوانَه، ويُحسنُ الظَّنَ في كلماتِهم، ويتجاوزُ عن أخطائهِم وهفواتِهم، فما المصلحةُ اليومَ من تفرُّقِ المسلمينَ، ومن هو المستفيدُ إلا العدوُّ المبينُ، وعلينا أن نعلمَ أنَّ الرجلَ الواحدَ، تكونُ له حسناتٌ وسيئاتٌ، فيُحمَدُ ويُذَّمُ، ويُثابُ ويُعاقبُ، ويُحَبُّ من وَجهٍ ويُبغضُ من وَجهٍ، ولكنَّ أَهلَ السُّنةِ والجماعةِ، يُعظِّمونَ الحقَّ، ويرحمونَ الخلقَ....
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، هو الحَكَمُ العَدلُ، صَاحبُ الجُودِ والفَضلِ، إنْ أثابَ فبفضلهِ، وإنْ عاقبَ فبعدلِه، أحمدهُ سبحانهُ بما هوَ لهُ أهلٌ مِنَ الحمدِ وأُثني عليه، وأومنُ بهِ وأتوكلُ عليه، مَنْ يهدهِ اللهُ فلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضللْ فلا هاديَ له.
وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، جعلَ المُقسطينَ يومَ القيامةِ على منابرَ مِنْ نورٍ، جَزاءً وفاقاً لِعَدلِهم، وإعلاناً لشرفِهم وفضلِهم.
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أمرهُ ربُّهُ بالعدلِ فحقَّقَه، وأقرَّهُ بعملهِ ووثَّقَه، وزَكّىَ فؤادَهُ ومَنطِقَهَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ عليهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فعندما ذهبَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- إلى بيتِ عِتْبَانَ بنَ مالِكٍ -رَضيَ اللهُ عنه-، كَثُرَ الرِّجَالُ في البَيْتِ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ: ما فَعَلَ مالِكُ بنُ الدُّخْشُمِ؟، لا أرَاهُ، فَقالَ رَجُلٌ: ذَاكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "لا تَقُلْ ذَاكَ؛ ألَا تَرَاهُ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بذلكَ وجْهَ اللَّهِ"، فَقالَ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، أمَّا نَحْنُ، فَوَاللَّهِ لا نَرَى وُدَّهُ ولَا حَدِيثَهُ إلَّا إلى المُنَافِقِينَ، قالَ رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "فإنَّ اللَّهَ قدْ حَرَّمَ علَى النَّارِ مَن قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بذلكَ وجْهَ اللَّهِ".
اللهُ أكبرُ .. هكذا أحسنَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- الظَّنَّ بمِالكٍ -رضيَ اللهُ عَنهُ- لأنَّه لم تظهرْ عليه صفاتُ النِّفاقِ، وقد يكونُ جلوسُه مع المنافقينَ بسببِ المصاهرةِ؛ لأنَّ زوجتَه هي جميلةُ بنتُ عبدِاللهِ بنِ أبيِّ بنِ سلولٍ رأسِ المنافقينَ، وقد يكونُ قصدُه في مجالستِهم هو دعوتُهم إلى الحقِّ، وهكذا في أعذارٍ كثيرةٍ قد يلتمسها المسلمُ لأخيهِ، وصدقَ ظنُّ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بهِ؛ فمالكُ بنُ الدُّخشمِ كانَ هو أحدُ الرَّجلينِ اللَّذينِ هدما وأحرقا مسجدَ الضِّرارِ الذي بناهُ المنافقونَ في المدينةِ.
ويكونُ إحسانُ الظَّنِّ بالمسلمِ أحياناً بسببِ سابقةٍ حسنةٍ له في الإسلامِ، فلما كتبَ حَاطِبُ بْنُ أَبي بَلْتَعَةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- إلى أهلِ مكةَ يُخبرُهم بالاستعدادِ لفتحِ مَكَّةَ، وأخبرَ النَّبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بعُذرِهِ، فَقَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "صَدَقَ"، فَقَالَ عُمَرُ -رَضيَ اللهُ عنه-: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". فحاطبُ اجتهدَ وأخطأَ، وشفعَ له تاريخُه الجميلُ، وخاصةً غزوةُ بدرٍ التي كانتْ برهانَ الإيمانِ.
وهكذا كانَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- مُنصفاً، لا ينتقصُ ما عندَ النَّاسِ من جميلِ الأخلاقِ، ولو كانوا كفَّاراً ليسَ لهم في الآخرةِ من خَلاقٍ، فها هو يقولُ لأصحابِه عن النَّجاشيِّ قبلَ إسلامِه: "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجَا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ"؛ فلم يمنعه كفرُ النَّجاشيِّ عن ذكرِ ما فيه من العدلِ والإحسانِ.
بل يبعثُ إليه الصَّحابةَ ليتخلَّصوا من أذى أهلِ الأوثانِ، وهذا منهجٌ ربَّانيٌّ عظيمٌ، واسمع إلى قولِ اللهِ -تعالى-: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ)؛ وهو المالُ الكثيرُ (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا)[آل عمران:75]، مع أن هذه الآيةَ جاءت في سياقِ آياتِ الذَّمِّ لأهلِ الكتابِ، ولكنَّ اللهَ -سبحانَه وتعالى- ذكرَ ما في بعضِهم من الأمانةِ، لنتعلَّمَ الصِّدقَ والعدلَ والأمانةَ.
وهكذا ينبغي عندما نحكمُ على الآخرينَ، أن نراعيَ الصِّدقَ والعدلَ والدِّينَ، كما قالَ تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)[الأنعام:152]، ولا يليقُ بالمسلمِ أن يكتمَ المحاسنَ ويُظهرَ السَّيئاتِ، ويتناسى الجميلَ ويَذكرَ القَبيحاتِ، بل عليهِ أن يرحمَ إخوانَه، ويحفظَ لسانَه، ولذلكَ عندما اتُّهمتْ عائشةُ الشَّريفةُ -رضيَ اللهُ عنها- بالإفكِ وتكلَّمَ النَّاسُ فيها، سَألَ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ ضرَّتَها عَنْ أَمْرِها، فَقَالَ لِزَيْنَبَ: مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟، فَقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا".
أحياناً بسببِ موقفٍ واحدٍ فقط، ننسى ما للشَّخصِ من حسناتٍ، ونُخفي ما نعلمُ من حَسنِ الصَّفاتِ، بل قد يكونُ للهوى نَصيبٌ إذا حَكمنَا، فنطعنُ في غيرِنا لنمدحَ أنفسَنَا، كَانَ النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قَدْ جَلَدَ رَجُلاً فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: "اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يؤْتَى بِهِ"، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إلا ُ أَنَّهُ يحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ"، اللهُ أكبرُ .. يُجلدُ ويُعاقبُ على الخَطايا، ويُمدحُ على جميلِ المزايا، وصدقَ القائلُ:
إذا الحبيبُ أتي بذَنبٍ واحدٍ *** جاءَتْ محاسنُه بألفِ شفيعِ
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، أوجبَ علينا الشُّكرَ عندَ النِّعمِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، وسلمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإذا كانَ اللهُ -تعالى- يحذُّرنا أن نحكمَ على النَّاسِ من خبرِ الفاسقِ ولو كانَ مُسلماً، كما قالَ –تعالى-: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات:6]، فكيفَ بزمانِ الإعلامِ الجائرِ، وكيدِ العدوِّ المتآمرِ، هل لنا أن نُصدِّقَ كلَّ ما يُنقلُ لنا عن إخوانِنا المؤمنينَ؟، وإذا كانَ ما يُنقلُ صحيحاً، فما هي الظُّروفُ التي قِيلَ فيها هذا الكلامُ؟، وهل ينبغي على العاقلِ أن يُعمِّمَ في الأحكامِ؟
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10]، فالمؤمنُ يُحبُّ إخوانَه، ويُحسنُ الظَّنَ في كلماتِهم، ويتجاوزُ عن أخطائهِم وهفواتِهم، فما المصلحةُ اليومَ من تفرُّقِ المسلمينَ، ومن هو المستفيدُ إلا العدوُّ المبينُ، وعلينا أن نعلمَ أنَّ الرجلَ الواحدَ، تكونُ له حسناتٌ وسيئاتٌ، فيُحمَدُ ويُذَّمُ، ويُثابُ ويُعاقبُ، ويُحَبُّ من وَجهٍ ويُبغضُ من وَجهٍ، ولكنَّ أَهلَ السُّنةِ والجماعةِ، يُعظِّمونَ الحقَّ، ويرحمونَ الخلقَ، وصدقَ من قالَ:
وَمَن ذا الذي تُرضَى سَجَاياهُ كُلُّها *** كَفى المَرءَ نُبلاً أَنْ تُعَدَّ مَعايِبُهْ
قالَ سفيانُ بنُ حسينٍ: "ذكرتُ رَجلاً بسوءٍ عندَ إياسِ بنِ معاويةَ، فنَظرَ في وَجهي، وقالَ: أغزوتَ الرومَ؟ قلتُ: لا، قال: أغزوتَ السِّندَ؟، أغزوتَ الهندَ؟، أغزوتَ التُّرَك؟ قُلتُ: لا، قال: أفَتسلَمُ منك الرومُ والسِّندُ والهندُ والتركُ، ولم يسلَمْ منكَ أخوكَ المسلمُ؟، قال: فلَم أَعُدْ بعدَها".
فعلينا أن ننظرَ بالعينينِ، ونُوزِنَ بالكِّفتينِ، ولا نكونُ كالمنافقِ الذي إذا خاصمَ فجرَ، وجحدَ ما كانَ من المعروفِ وأنكرَ، بل علينا أن نَمتثلَ قولَه -تعالى-: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[البقرة:237]، فالمؤمنُ أخٌ، والكافرُ عدوٌّ، ولا نجعلْ كلمةً من جاحدٍ تُنسينا إخوانَنا، ولا زلةً من جاهلٍ تحرمُ المسلمينَ دعاءَنا.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمرْ أعداءَ الملةِ والدينِ، اللهمَّ انصر إخوانَنا المجاهدينَ والمضطهدينَ في دينِهم في كلِّ مَكانٍ.
اللهمَّ أنقذْ المسجدَ الأقصى من براثنِ الصهاينةِ المعتدينَ واليهودِ الغاشمينَ، اللهم اجعله شامخًا عزيزًا إلى يومِ الدينِ.
اللهمَّ أصلح أحوالَ أمةِ محمدٍ في كلِّ مكانٍ.
اللهم اجمع قلوبَهم على كتابِكَ وسنةِ نبيكَ محمدٍ واهدهم سَبلَ السلامِ وجنبهم الفواحشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ.
اللهم وفق إمامَنا وأعوانَه إلى ما فيه عِزُّ الإسلامِ وصَلاحُ المسلمينَ.
اللهم ادفعْ عنا الغَلا والوبا والربا والزنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ، ما ظَهرَ منها وما بَطنَ، عن بلدِنا هذا خَاصةً وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ.
التعليقات