عناصر الخطبة
1/ الأخلاق عماد الأمم وقوام الشعوب 2/فضائل التراحم بين المؤمنين 3/سعة رحمة الله تبارك وتعالى 4/الرحمة التامة والعامة 5/من تمام رحمة أرحم الراحمين 6/الرحمة من أسمى الفضائل الإنسانية 7/من تمام رحمة الله بعبادهاقتباس
الرحمة من أسمى الفضائل الإنسانية, تكون من الآباء للأبناء تقبيلاً ومعانقة، وتأديباً، وإحساناً إليهم, وتكون الرحمة من الأبناء للآباء والأمهات قولاً كريماً، وصنعاً جميلاً، وطاعة في غير معصية الله. وتكون الرحمة بين الأقارب صلة ومواساة ومودة، وسعياً في مصلحة، ودفعاً لمضرة, وتكون بين الزوجين معاشرة بالمعروف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً، ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلاً، وسهّل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللاً، وكمل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً، الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أنفسكم على النار لا تقوى.
عباد الله: قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحة جلية في تقواه لربه، فإن تقوى الله -عز وجل- هي أساس كل صلاح، وسلوان كل كفاح: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].
أيها المسلمون: الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، والأمم باقية ما بقيت أخلاقها، هذه حقيقة مسلَّمة لا ينازع فيها إلا مريضٌ لم ينقه، أو مغرضٌ لا يفقه، كما أن من المسلَّم أيضاً أن تدهور الأخلاق ناجمٌ عن نقص الوازع الديني في النفوس، الوازع الديني الزاجر والمنجي، الوازع الديني الذي يمتلك عنان النفس ويسيطر عليها فيكبح جماحها.
ألا وإن من أعظم الأخلاق المندوبة والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم أن فقدان الرحمة بين الناس فقدان للحياة الهانئة، وإحلالٌ للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء. قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
إن الله -تبارك وتعالى- أرسل رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، وقد منَّ الله على رسوله بالرحمة، فألان جانبه لأصحابه، وخفض لهم جناحه، ورقق لهم قلبه، وحسَّن لهم أخلاقه، فاجتمعوا عليه، وأحبوه، وامتثلوا أمره، قال الله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29].
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والمحبة، والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم- فاقوا البشرية كلها بأحسن الصفات، وأجمل الأحوال والأقوال والأعمال, فهم أشداء على الكفار، جادون ومجتهدون في عداوتهم، وهم كذلك رحماء فيما بينهم، متحابون، متراحمون، متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب الواحد منهم لأخيه ما يحبه لنفسه.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ: فِي تَرَاحُمِهِمْ، وَتَوَادِّهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْواً، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [أخرجه البخاري (6011)، واللفظ له، ومسلم (2586)]. وفي صورة حسية بديعة يصوّر النبي -صلى الله عليه وسلم- علاقة المؤمن بأخيه المؤمن، فيقول-صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" [أخرجه البخاري برم (481)، ومسلم (2585) واللفظ له].
هذه معاملتهم مع الخلق.
وأما معاملتهم مع الخالق فإنك: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29]. فهذا دأبهم مع الخالق والمخلوق: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16،17]، قد أثرت العبادة من كثرتها وحسنها في وجوههم حتى استنارت، ولما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت بالجلال ظواهرهم.
أيها المسلمون: والقلب إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلاله، رق وصارت فيه الرأفة والرحمة، فتراه رحيماً رقيق القلب بكل ذي قربى، وبكل مسلم، وبكل مخلوق، يرحم الطير في وكره، والنملة في جحرها، فضلاً عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب من الله.
والله -عز وجل- إذا أراد أن يرحم عبداً أسكن في قلبه الرأفة والرحمة، وإذا أراد أن يعذبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة، فَتَخَلَّق بالغلظة والقسوة، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي، فالدين كله رحمة للعالمين، والرسل إنما بعثوا بالرحمة، وأبو بكر الصديق-رضي الله عنه- إنما فضل الأمة بما كان في قلبه من الرحمة العامة زيادة على الصديقية.
ولهذا أظهر أثرها في جميع مقاماته حتى في فداء الأسرى يوم بدر، واستقر الأمر على ما أشار به، وفي بذل ماله كله في سبيل الله، وفي هجرته مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي جهاده معه، ويوم وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأثناء خلافته، والله يجازي من هذه صفاته، وهذه رحمته، بالرضوان التام المؤكد يوم القيامة كما قال -سبحانه-: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل: 17-21].
أيها الإخوة: إن الله -عز وجل- هو الرب الرؤوف الرحيم، وأقرب الخلق إليه أعظمهم رأفة ورحمة، وأبعدهم منه من اتصف بضد ذلك، ومن رحمته -سبحانه- أنه يفرح بتوبة العبد إذا تاب أعظم فرح وأكمله.
ومن كمال رحمته أنه يدعو من كفر به، وفتن أولياءه، وأحرقهم بالنار إلى التوبة كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) [البروج: 10]، فلا ييأس العبد من عفوه ومغفرته ورحمته، ولو كان فيه ما كان، فلا أكفر بمن حرق بالنار من آمن بالله وحده، ومع هذا لو تابوا لم يعذبهم، وألحقهم بأوليائه.
عباد الله: والرحمة صفة وجدانية تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأً للانعطاف معه، والإحسان إليه، وهي محبة للمرحوم مع جزع من الحال التي من أجلها رحم.
والرحمة التامة: إفاضة الخير على المحتاجين وإرادته لهم؛ عناية بهم, والرحمة العامة: هي التي تتناول المستحق وغير المستحق, ورحمة الله -عز وجل- تامة وعامة. أما تمامها، فمن حيث أنه أراد قضاء حاجات المحتاجين, وأما عمومها فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، فهو -سبحانه- الرحيم مطلقاً، ورحمته وسعت كل شيء, كما قال -سبحانه-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156].
والرحمة سبب واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله, وأنزل عليهم كتبه, وبها هداهم, وبها يسكنهم دار ثوابه, وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم, وبها يتجاوز عنهم, وبها يرفع عنهم عقابه, والله -تبارك وتعالى- هو الرحمن وحده، العطوف على العباد بالإيجاد أولاً، وبالإمداد ثانياً، وبالهداية إلى الإيمان ثالثاً، وبالإسعاد في الآخرة رابعاً، وبالإنعام بالنظر إلى وجهه خامساً، وبسماع كلامه سادساً، وبرضوانه سابعاً.
والرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس من شق عليك في إيصال المصالح إليك، ودفع المضار عنك، فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، وحسن الخلق، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل الأب ذلك كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه، فهذه رحمة مقرونة بجهل.
ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على الإنسان خاصة المؤمن، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فابتلاء الله له وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من كمال رحمته به. عَنْ سَعْدٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: "الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ" [حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي رم (1956)].
ومن رحمته بعباده أن نغَّص عليهم الدنيا وكدّرها عليهم؛ لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان, ومن رحمته بهم أن حذّرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به.
أيها الإخوة: وجميع المسلمين يرجون رحمة الله في جميع أعمالهم؛ فالعابد يرجو بعبادته رحمة الله كما قال -سبحانه-: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9].
والمجاهد والمهاجر في سبيل الله والداعي إلى الله كلهم يرجون رحمة الله, كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 218].
والرحمة صفة الأنبياء والصالحين كما قال -سبحانه-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
عباد الله: والله -تبارك وتعالى- أرحم الراحمين، خلق مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، وجعل منها في الأرض واحدة، فيها يتراحم الخلق كلهم، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَهُ" [أخرجه البخاري بم (6000)، ومسلم (2752) واللفظ له].
والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن رحم أهل الأرض رحمه الذي في السماء، والرحمة حلية المؤمن، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي، ومن رحم الناس رحمه الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَرْحَمُ الله مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ" [أخرجه البخاري (7376)، واللفظ له، ومسلم (2319)]، وقُصرت الرحمة على من يرحمون الناس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ" [أخرجه البخاري (1284)، واللفظ له، ومسلم (923)].
أيها الإخوة: ومن أصول هذا الدين الرحمة والشفقة على الخلق عموماً، فما تراحم قوم إلا اجتمع أمرهم، وارتفعت بين الأمم مكانتهم، ورضي الله عنهم، وما نُزعت الرحمة من قوم، واستعملوا الغلظة والقسوة إلا دارت عليهم دائرة السوء. من رحم الخلق رحمه الله, ومن أحسن إليهم أحسن الله إليه, ومن عفا عنهم عفا الله عنه.
والرحمة عاطفة شريفة، وخليقة محمودة، مدح الله بها عبده ورسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- كما قال -سبحانه-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
اللهم ذكِّرْنا بك فلا ننساك، وأكرمنا بتقواك، وارزقنا المنازل العلا من الجنة، في الفردوس الأعلى مع النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أيها الإخوة: الرحمة من أسمى الفضائل الإنسانية, تكون من الآباء للأبناء تقبيلاً ومعانقة، وتأديباً، وإحساناً إليهم, وتكون الرحمة من الأبناء للآباء والأمهات قولاً كريماً، وصنعاً جميلاً، وطاعة في غير معصية الله، وخدمة صادقة، ودعاء لهم بالخير، واستغفاراً لهم، ووفاء لديونهم، وإكراماً لأصدقائهم.
وتكون الرحمة بين الأقارب صلة ومواساة ومودة، وسعياً في مصلحة، ودفعاً لمضرة, وتكون بين الزوجين معاشرة بالمعروف، وإحساناً وعفواً متبادلاً.
وتكون الرحمة بين أهل الدين الواحد إرشاداً إلى الخير، وتحذيراً من كل شر, وتكون بين جميع الأفراد بأن يحب أحدهم للآخر ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فيسعى إلى ما فيه منفعتهم، يواسي محتاجهم، ويداوي جريحهم، ويعود مريضهم، ويجبر كسيرهم، ولا يكلف أحداً بأمر عسير، ولا يحمله من الأمر ما لا يطيق.
وتكون الرحمة بالكفار والضالين بدعوتهم إلى الله، والإحسان إليهم، والدعاء لهم بالهداية، وإعطائهم من المال ما يفتح قلوبهم لفهم هذا الدين، والدخول فيه ونحو ذلك مما يؤلف قلوبهم.
عباد الله: ومن تمام رحمة الله بعباده أن أرسل إليهم رسله بما يسعدهم في الدنيا والآخرة، وكلام الله هدى ورحمة للبشرية فهل قمنا بإبلاغه إليهم؟ (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [إبراهيم: 52].
وإذا أراد الله بأهل الأرض خيراً نثر عليهم أثراً من آثار اسمه الرحمن، فعمر به البلاد، وأحيا به الموات، وأصلح به العباد، وإذا أريد بهم شراً أمسك عنهم أثر ذلك الاسم، فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن.
أيها الأحبة: ورحمة الله وسعت كل شيء، وقد خلق الله مائة رحمة، وأنزل على أهل الأرض رحمة واحدة منها، فبها يتراحم الخلق ويتعاطفون، فكل رحمة في كل مخلوق فهي من آثار رحمة الله هذه.
والعالم كله مملوء بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، وما فيه من ضد ذلك فهو من مقتضى سبقت رحمتي غضبي، والمسبوق لا بدَّ لاحق وإن أبطأ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة، فإذا كان يوم القيامة كمل الله بهذه الرحمة لتكون مائة رحمة، يرحم بها أهل الإيمان به وطاعته وتوحيده.
وإذا كان الله قد ملأ هذا الكون برحمته, فهلا ملأناه بدوام ذكره وحمده؟! فسبحان العزيز الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء. فأكثروا من الطاعات، واغتنموا الأوقات، والزموا الباقيات الصالحات، والجئوا إلى ربكم رب الأرض والسماوات، فربكم قد فتح أبوابه للسائلين، وكتب على نفسه الرحمة للمستغفرين التائبين، وهو قيوم السماوات والأراضين.
اللهم اهدنا فيمن هديت, وعافنا فيمن عافيت. وتولنا فيمن توليت, واستعمل ألسنتنا بذكرك, وجوارحنا في طاعتك وعبادتك. اللهم ثبتنا على الإسلام، وارزقنا حلاوة الإيمان، واجعلنا من أهل السعادة يا كريم يا منان.
التعليقات