رحلة نفسية مع التنويريين

تركي الجاسر

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

بهذا الطرح يكون التنويريون في مواجهة مع كل نصوص الكتاب والسنة المرتبطة بالمنظومة الإسلامية السياسية، وما يلتحق بها من نصوص اجتماعية وتربوية وعقدية. المشكلة ليست ممارسات الحكم الإسلامي الخاضعة للاجتهاد، ولا أقوال الفقهاء وآراء العلماء غير المعصومة، بل نصوص القرآن والسنة الصحيحة مباشرة (11). هذه المواجهة لا يمكن أن تدفع التنويريين لإلغاء الكتاب والسنة، فهم يعتبرون أنفسهم ملتزمين بها..

 

 

 

تحدث الكثير من الكتاب والباحثين باستفاضة عن ظاهرة “التنوير” أو “الليبرالية الإسلامية” أو “العصرانية” التي غزت ميادين الفكر الإسلامي لعدة عقود(1).

 

وكان في تناولهم لهذه القضية، تقصٍّ لا بأس به، يغني عنا تكرار ما قاموا به، ويدفعنا لتناول القضية من زوايا أخرى لا تقل أهمية وخطرا. ومن الزوايا التي لم تحظ بالنقاش الكافي، تفسير أسباب نزعتهم للتضايق من ثوابت مهمة في المنهجية الإسلامية، وبيان مبرر استهدافهم لهذه الثوابت والظواهر النفسية المشتركة بينهم(2).

 

من هم؟

 

الحديث هنا ليس عن المتربصين بالدين من التيارات الليبرالية التي تحمل مشروعا علمانيا صريحا، أو توجها لتخريب المجتمع، أو التشكيك الصريح بالدين. إنما الحديث عن تيار يحوي مجموعة، تظن أنها تخدم الدين وتحت مظلة الدين، ولا يدركون أنهم يتجرأون على ثوابت أساسية في الدين، بسبب انغماسهم بمنهجية تأخذهم بعيدا عن هذا الشعور(3).

 

تيار متفاوت والعدل مطلوب

 

ومن العدل القول إن هذا التيار ليس نسقا واحدا، بل هو طيف يتفاوت في جرأته على الثوابت، يمتد من متحفظ حذر يظهر بوضوح أنه قلق، يشعر بالخطيئة، وبين جريء يتهكم ببعض هذه الثوابت وكأنه زنديق. ومن العدل كذلك الإشارة إلى أن الظروف والسياقات الاجتماعية والسياسية، تختلف من شخص أو بلد لآخر. بعضهم يعيش في جو من الجهل والتراكمات الفكرية المغلوطة، والضغوط الاجتماعية والسياسية، والجرأة على الدين، وقلة المتدينين، مما يدعو لتفهم ما يقع فيه، والآخر يعيش في وجود فكري واجتماعي خال من الضغوط، وفي وسط غزير العلم لا يمكن أن يساق له فيه عذر (4).

 

استحضار هاتين الحقيقتين ضروري في قراءة هذا المقال، حتى لا يحمل ما فيها وكأنه نمط ينطبق على الجميع.

 

توافق تلقائي وليس مؤامرة

 

الميل للتنوير ليس مؤامرة تدار من خلف الكواليس، أو من قبل جهات خفية تتحكم بهذا العدد الكبير من الكتاب والمفكرين والمثقفين، بل هو تلاقٍ طبيعي لمن يحملون نفسية الهزيمة، وضعف الانتماء، وتخلخل الثقة بالنصوص الشرعية(5). ولهذا السبب، يتقوى التنويريون أو العصرانيون ببعضهم البعض تلقائيا، وتتوازى أطروحاتهم رغم اختلافهم في درجة الجرأة على الثوابت.

 

 المسيرة النفسية للتنوير

 

 وما دامت المشكلة ليست مؤامراتية، فلماذا يصطدم التنويريون مع ثوابت عظيمة في الدين، مثل النص الشرعي، وعدالة الصحابة، وقضايا الهوية، والانتماء، ومفهوم الجهاد… لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا إذا أدركنا أن الصدام مع هذه القضايا ليس بذاته أصل مشكلة التنويريين، بل هو نتيجة طبيعية لمسيرة نفسية، ابتدأت بانطلاقة انهزامية تأسست عليها منظومتهم الفكرية، ووضعتهم على سكة لا يمكن الاستمرار فيها إلا بالتشكيك بهذه الثوابت (6).

 

الخطوة الأولى: إعجاب بالأنموذج الغربي على مستوى الممارسات

 

يعيش المفكر أو المثقف التنويري في مجتمعات إسلامية حافلة بالتخلف السياسي والاجتماعي، والاستبداد السياسي، والضعف العسكري والتقني والخدماتي، وغياب العدل والحرية والكرامة. في المقابل ينبهر هذا المثقف بنماذج حقيقية لأنظمة حكم غير إسلامية، توفر ما يتطلع له من عدل وحرية كرامة، ومشاركة سياسية، ومحاسبة وشفافية، واستقرار، وقوة عسكرية، وتقدم تقني وخدماتي، وهي أنظمة غير خاضعة لتقلبات سياسية أو مشاكل عسكرية أونزوات شخصية (7).

 

 الخطوة الثانية: من الإعجاب بالممارسات إلى الإعجاب بالفكر

 

هذه النماذج الغربية المبهرة، ليست هيكلا سياسيا مبتورا، ولا قائمة قوانين عارية، بل هي تراكم تاريخ حضاري شامل، تداخلت فيه الممارسة الاجتماعية مع النشاط السياسي، ثم تأصلت بتراكم فكري وفلسفي ضخم(8) صدر عن تفاعل مع معطيات التاريخ والأحداث، فأنتج الأسس والمبادئ والمنطلقات التي صارت وعاء، يحمل التركيبة السياسية والاجتماعية في الدول الحديثة.

 

الخطوة الثالثة من الإعجاب بالفكر إلى القبول بمرجعيته

 

وبسبب قوة هذا التنظير والتأصيل، يجد التنويري نفسه و قد تبناه شعوريا أو لاشعوريا، فتنتقل المواجهة في ذهنه، من مواجهة النماذج الحالية في العالم الإسلامي، إلى التأصيل السياسي الإسلامي نفسه(9). هذه المواجهة ليست في التفاصيل، بل في أصل منهجية التفكير والتصور لأكثر القضايا أهمية في المنظومة السياسية الإسلامية، وهي مفاهيم الدولة والأمة والانتماء.

 

 الخطوة الرابعة: صدام المفاهيم

 

الخلاصة التي توصل لها التنويريون، أنه لا يمكن أن تتحقق الحرية والكرامة، والعدل، والمشاركة السياسية، والمحاسبة، والشفافية، إلا بالديمقراطية في ظلال كيان قطري واضح الحدود، ودولة تملك سلطة التشريع بتفويض من الشعب، ونظام دولي قائم على السلم العالمي. هذه المفاهيم الثلاثة، سببت بدورها ثلاث صِدامات وطأت للحالة التنويرية التي نتحدث عنها:

 

الصدام الأول: في مفهوم الانتماء والهوية، الموجه للكيان القطري بحدوده الآمنة المتفق عليها عالميا، وحتى لو فكر التنويري بانتماء إسلامي، فهو انتماء روحي عاطفي دون تطلع لوحدة المسلمين في كيان سياسي واحد. وبما أن النصوص الشرعية قطعية وصريحة، في تأصيل مفهوم الأمة الواحدة في كيان سياسي واحد، فلن يكون غريبا أن يصبح هذا الموضوع أحد أسباب صدام التنويريين مع النصوص الشرعية.

 

الصدام الثاني: في مفهوم “من نحن ومن الآخرون”، فتماما مثل الفكر الغربي نحن مواطنو القطر الفلاني، والآخرون مواطنو الأقطار الأخرى، ولا مجال للتصنيف الديني لهذه العلاقة. وتبعا لذلك، فإن كل المفاهيم التي لها علاقة بالحرب مرتبطة بالدفاع عن حدود هذا القطر أو مصالحه، ولا مجال للتفكير بالجهاد، لأن العلاقة مع الآخر مبنية على السلم العالمي. وغزارة النصوص الشرعية في تصنيف البشر على أساس ديني (مسلم وغير مسلم)، وغزارتها في الحديث عن الجهاد بمفهومه الشرعي الواسع، تجعل هذه النقطة سببا آخر في صدام التنويريين بالنصوص.

 

 الصدام الثالث: في مفهوم التشريع، فبناءً على الديمقراطية، يعبتر المشروع التنويري سيادة الشعب فوق سيادة الشرع، ويجعل الشعب المصدر النهائي للتشريع، وهذه بالضرورة مصادمة للنصوص الشرعية. ومهما تحايل التنويريون في إيجاد صيغ تزاوج مع الشريعة، فلا يمكن للمفهوم الديمقراطي بمظلة الدولة القطرية الحديثة أن يظهر للوجود، إلا بجعله مهيمنا على الشرع مع مصادمته الصريحة للنصوص الشرعية(10).

 

 الخطوة الخامسة: المواجهة المباشرة مع النص “الكتاب والسنة”

 

 بهذا الطرح يكون التنويريون في مواجهة مع كل نصوص الكتاب والسنة المرتبطة بالمنظومة الإسلامية السياسية، وما يلتحق بها من نصوص اجتماعية وتربوية وعقدية. المشكلة ليست ممارسات الحكم الإسلامي الخاضعة للاجتهاد، ولا أقوال الفقهاء وآراء العلماء غير المعصومة، بل نصوص القرآن والسنة الصحيحة مباشرة (11). هذه المواجهة لا يمكن أن تدفع التنويريين لإلغاء الكتاب والسنة، فهم يعتبرون أنفسهم ملتزمين بها، لكن قطعا ستدفعهم للبحث عن مخارج يبقون فيها – في ظنهم – داخل هذه الدائرة، ويحافظون على طرحهم المصادم لها.

 

 المشكلة مع القرآن لا يمكن تفاديها بإنكار آيات القرآن (12)، لكن يمكن بحيل أخرى منها التلاعب بالتفسير، وذلك بادعاء أن القرآن حمال أوجه (13)، ومنها المبالغة في الحديث عن السياق المكاني والزماني والظروف التي تنزل فيها القرآن، وادعاء أن قواعد الشرع فيها ما يجيز تعطيل العمل ببعض الآيات، حين تتغير الظروف والسياقات، ومنها التوسع في استخدام حيل الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والخاص والعام… إلخ.

 

 المشكلة مع الحديث أهون من القرآن، لأن التشكيك في بعض الأحاديث ممكن، وقد سبقهم في ذلك طوائف كثيرة هونت عليهم الطريق. أول الحيل، رفض حجية خبر الآحاد، التي يقوم عليها الجزء الأكبر من المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الإسلام (14). ثاني الحيل، التشكيك بأصح كتابين في الحديث، وهما البخاري ومسلم، وإيراد الأدلة المزعومة على ضعف أحاديثهما، مما يعني أن التشكيك بغيرهما أولى (15). ثالث الحيل، رفض مبدأ عدالة الصحابة كذريعة للتشكيك بالحديث، لأن كل الأحاديث الصحيحة نقلت لنا عن طريق الصحابة (16). رابع الحيل، وأجرأها جميعا، هي اعتبار الجهود التي بذلها العلماء، في جمع الحديث وتدوينه وترتيبه وتصحيحه، ليس إلا تجربة عابرة لا تختلف عن تدوين التاريخ (17).

 

 الخطوة الأخيرة: تشكل ظواهر مشتركة لأصحاب هذا التيار

 

 المواجهة مع الكتاب والسنة تتسبب في مجموعة من الظواهر، يشترك فيها معظم المحسوبين على هذا التيار، ويمكن رصدها بشيء من الجهد بعد استحضار تسلسل تطور المواجهة. ولا يقصد بسرد هذه الظواهر الرد عليها، بل القصد هو بيان اشتراك من ينتمي لهذا التيار في تبنيها.

 

 الأحكام الصغيرة للعلماء والكبيرة لنا

 

 الأفكار التي يطرحها أصحاب هذا الرأي، قد لا تبدو فتوى في ظاهرها، لكنها في الحقيقة أخطر من فتوى عادية، فهي رسم لمنهج كامل في التعامل مع الدين. تعطيل النصوص والاعتماد على نصوص مبتورة، أو خارج سياقها، أو استخدام التاريخ، مسلك أخطر شرعيا من فتوى محدودة لعمل محدد. وعلى الأرجح أنهم لا يدركون ضخامة الجرأة على الفتيا، لأن القليل منهم فقط يتجرأون على الفتاوى الصغيرة. ولذلك يلاحظ عليهم الاسترخاء الكامل، والثقة بالنفس وهم يتحدثون أو يكتبون في هذه القضايا، التي تعتبر أمهات الفتاوى وأصول التشريع (18).

 

 الأسلوب المقاصدي هو الحق

 

 من بين المظاهر التي يشترك في ترديدها كثير من هؤلاء، اللجوء لما يسمى “الفقه المقاصدي”، ويقصد به الطريقة التي سلكها الشاطبي في كتابه “الموافقات”، وكانت من أعظم المدارس في تناول أصول الفقه. وحيلة الفقه المقاصدي جذابة ومريحة، لأن السعي لتحقيق المقاصد (الغايات) في السياسة والاقتصاد والاجتماع، يريحهم من اعتبار النصوص التفصيلية، التي تصادم تركيبتهم الفكرية المبنية على النموذج الغربي (19).

 

 التاريخ والمنطق من مصادر التشريع

 

 من ضمن ما يتشابه به أتباع هذا التيار، الاستعاضة عن المنهجية الشرعية المنضبطة، بأسلوب يتلبس لبوس الأكاديمية، يختلط فيه القرآن والحديث مع التاريخ، والمنطق وأطروحات أخرى بزعم الأكاديمية. بعض المنتمين لهذا التيار، يظنون أن وزن الأحداث التاريخية، والممارسات في الحكم الإسلامي، لها نفس ثقل الآيات والأحاديث، ويشبهون عملهم بعمل الإمام مالك حين اعتبر عمل أهل المدينة حجة (20). وحتى يضفوا مزيدا من الأكاديمية (المحكّمة) على الطرح، فإنهم يسردون الأقوال بطريقة تبدو شاملة، مستقصية على طريقة البحوث الإنسانية الغربية.

 

استخدام الأقوال “غير المعتبرة”

 

تاريخ الفقه الإسلامي القديم والحديث، مليء بالأقوال الشاذة والغريبة والضعيفة التي يتجاهلها العلماء تلقائيا، أو يشيرون إليها من باب التنبيه؛ لأنها طرحت خارج إطار المنهج الشرعي المنضبط. في هذه الأقوال كثير مما يحبه هؤلاء، خاصة ما صدر في بدايات ما يسمى بعصر النهصة، من أمثال الافغاني ومحمد عبده، وحديثا بعض الأقوال لابن بيه والريسوني. وإحالة الرأي لشخصيات مشهورة مثل هذه، يبرئ الباحث التنويري من مسؤولية التساهل في الدين، لأنه أحال الرأي إلى شخصية دينية مشهورة وليس لذاته شخصيا (21).

 

أنتم أعلم بأمور دنياكم

 

يكاد يجمع أصحاب هذا التيار، على الاعتماد على ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في شواهد صحيح مسلم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم” (22)، التي جاءت في سياق رأيه -صلى الله عليه وسلم- عن تلقيح النخل. وتعتبر هذه الرواية مشروعا كاملا عند التنويريين، لأنها فتحت لهم مساحة لا حدود لها يمكن تنزيلها عليها. فعلم السياسة وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، كلها من أمور الدنيا التي نحن أعلم فيها، إلا ما جاء النهي عنه تحديدا. بل حتى ما جاء النهي عنه تحديدا، مثل الربا يمكن الالتفاف عليه بأننا أعرف بأمور دنيانا، وإثبات أن الممارسة الفلانية ليست ربا، والممارسة الفلانية ليست غررا… إلخ.

 

 التناغم مع الشيعة

 

يفترض بأصحاب هذا التيار أن يتضايقوا من الشيعة أكثر من السنة، بسبب غياب البرنامج السياسي في الفكر الشيعي، والتعلق بخروج المهدي، وكثرة الروايات الخرافية في التراث الشيعي. لكن المفارقة أن بينهم تناغما واضحا، وانسجاما فكريا يلاحظ في كتاباتهم وصداقاتهم. والسبب ليس مرتبطا بالنصوص الشيعية، لكنه مرتبط بتشابه المنهجية عند الفريقين في التعامل مع القضايا ذات العلاقة. يتفق الشيعة مع التنويريين في التشكيك بالبخاري ومسلم، و في عدم الاعتراف بعدالة الصحابة، وعدم الاعتراف بالحكم الأموي والعباسي، والعداء الخاص لمعاوية تحديدا. لكن الأهم من ذلك كله، هو الاتفاق على البراجماتية، حيث إن الشيعة -خاصة بعد الخميني- وسعوا دائرة التقية، فجعلوا السياسة ميكافيلية مفتوحة، وهو ذات التوجه التنويري المبني على “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.

 

 التناغم مع الصوفية

 

من المفارقات كذلك أن المنهج التنويري القائم على التجربة والإثبات والحقائق، طبقا لطريقة التفكير الغربية، يتناغم مع التصوف، رغم أن الصوفية قائمة على الخيال والكرامات، فما هو التفسير؟

 

أول تفسير هو أن التوجه الصوفي لا يحبذ الخلط بين الدين والسياسة، فيما يمكن أن يعتبر علمنة للإسلام، وهو توجه مريح جدا لأصحاب التوجه التنويري لما ذكرنا آنفا. التفسير الثاني، أن الصوفية توفر وسائل بديلة للإشباع الروحي بالطرق المخترعة، وبذلك تعوض عن جفاف الروح عند التنويريين، لأن ضعف التعلق بالكتاب والسنة وتعظيمها، يؤدي إلى ضعف الإيمان وضعف التلذذ بالعبادة.

 

 الفشل قدر المسلمين

 

 يكثر التنويريون من تكرار أن الفشل هو قدر المسلمين زمانا ومكانا، فنحن -كما يقولون- منذ انطلاق العهد الأموي إلى الآن، نعيش الاستبداد والتخلف، كما أن العالم الإسلامي حاليا من مشرقه إلى مغربه، محكوم بالاستبداد والتخلف. انطلقت الثورة الفرنسية والأمريكية، واستفاد العالم كله منها، ولم يستفد منها المسلمون.

 

ويصر معظم التنويريين أن المسألة مرتبطة بالدين نفسه، والدليل: هذه الهند وباكستان تحررتا من الاستعمار البريطاني في وقت واحد، واستطاعت الهند أن تعيش استقرارا ديمقراطيا رغم تعدد الأديان والمذاهب، أما باكستان فلم تبرحها الفوضى والفساد والاستبداد. ولذلك، فحجتهم أن لا خلاص من المشكلة إلا بثورة دينية حقيقية، تشبه تجديد مارتن لوثر للمسيحية.

 

 السلفية هي المشكلة

 

 يتفق معظم التنويريين على تحميل “السلفية” مسؤولية هذا التخلف السياسي والاستبداد. وهم لا يقصدون بالسلفية الجماعات المتذرعة زعما وكذبا بالسلفية من أجل تمجيد الاستبداد، بل يقصدون السلفية الحقيقية، بمعنى منهج تقديم النص الشرعي الثابت قبل الرأي بفهم الصحابة.

 

ويتعمد معظمهم نسبة السلفية للجماعات المنظّرة للاستبداد، رغم علمهم بأنها مخالفة للسلف في طرحها السياسي. وتبعا لذلك، يكثر هذا التيار من استخدام مصطلح التغلب، والخروج، والبيعة، والطاعة، في السياق الذي يخدم هذا التضليل. ولذلك فهم يزعمون إن الطيف السلفي كله، من السلفية الجهادية، إلى السلفية الجامية، مرورا بالسلفية العلمية، مؤصل للاستبداد والطغيان (23).

 

الحكم الإسلامي انتهى بعد الخلفاء الراشدين

معظم المحسوبين على هذا التيار يعتبرون الإسلام لم يطبق سياسيا إلا في العهد النبوي، وعهد الخلفاء الراشدين، فالإسلام لم يحكم حقيقة إلا 30 سنة من 1400 سنة. وتراث المسلمين في العهد الأموي والعباسي والعثماني والمماليك لا يعتبر تراثا سياسيا، لا من حيث التطبيق، ولا من حيث التنظير، بل هو تراث علمي مبعثر مثل تراكمات علماء أوروبا في قرونهم المظلمة. ولهذا السبب، يكثر الهجوم على معاوية -رضي الله عنه- عند التنويريين، باعتباره هو -طبقا لزعمهم- سبب ما حل بالإسلام من تبديل النظام السياسي من الانتخاب إلى الوراثة (24).

 

حكم الخلفاء الراشدين ممارسة غير مؤصلة

 يذهب بعض التنويريين إلى أن العدل والشورى والاستقرار في الخلافة الراشدة، ضربة حظ مرتبطة بتولي الخلفاء الأربعة لحكم المسلمين. ولتأكيد ذلك، يحبون الاستشهاد بكلمة عمر -رضي الله عنه-، عن بيعة أبي بكر (فلتة وقى الله شرها) على اعتبار أن الخلافة الراشدة، ممارسات غير مدعومة بتأصيل ثابت، كما هو الحال في الفكر السياسي الغربي (25). ويستخدمون هذه الحجة في ضرورة إنشاء منظومة فكرية سياسية، مبنية على مبدأ “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.

 

 عداوة الحركات الجهادية العالمية

تُجمع هذه التيارات على التضايق من الحركات الجهادية العالمية، مثل القاعدة وداعش، وتتعاطف بقوة مع الحركات الجهادية التي تحارب المحتل، مثل حماس وفصائل من المقاومة العراقية. والسبب هو أن الحركات المقاومة للمحتل لا تربك مفهوم الدولة القطرية، بينما حركات الجهاد العالمي تجسد الصدام في كل النقاط الثلاث مع التيار التنويري. ولذلك فموقف هذا التيار من الحركات الجهادية ليس عمالة لأمريكا ولا تناغما مع الحكومات المحاربة للقاعدة وداعش، بل هو دافع ذاتي بقناعات ذاتية (26).

 

ــــــــــــــ

 

(1) من أوائل من كتب في الموضوع الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: “حصوننا مهددة من داخلها”، ومن أواخر من كتب عبد الوهاب آل غظيف: “التنوير الإسلامي في المشهد السعودي”، ومحمد إبراهيم: مبروك “الإسلام الليبرالي”.

(2) هذا المقال ليس ردا عليهم، ولا تفنيدا لأقوالهم، بل هو مقال وصفي للتطور النفسي الذي أدى بهم لهذه الحالة الفكرية، وأنتج هذه المواقف المشتركة بينهم.

(3) من الأمانة التنبيه أن هذا التيار يختلف تماما عن الليبراللين العرب المتربصين بالدين، والذين يكاد يكون معظمهم من المتصهينين الخادمين لأجندة غربية أو استبدادية.

(4) الحصار العلماني في تونس وتركيا وبيئة الجهل، يدفعنا لأن نقبل من التونسي والتركي ما لا نقبله من شخص في الخليج.

(5) نفي المؤامرة لا ينطبق على الكتاب المأجورين الموجهين من قبل الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، فهؤلاء يخضعون قطعا لمؤامرة، ويمارسون مهمتهم بطريقة مخابراتية يسهل كشفها.

(6) يخطئ من يقلب التسلسل الفكري والنفسي، ويعتقد أن مواقف فكرية وشرعية أدت إلى الإعجاب بالنماذج الغربية، فلا تكاد توجد حالة واحدة لشخص انطلق التشكيك عنده من النصوص، ثم بحث عن بديل فوجده في المشروع الغربي.

(7) الأكثر إبهارا أن نماذج الحكم الغربي توفر ملاذا للمستضعفين من كل مناطق العالم، بما في ذلك المضطهدون من الدعاة المسلمين الذين يمارسون عباداتهم ونشاطاتهم الدعوية تحت حماية تلك الأنظمة، بل يوجهون رسالتهم من خلال وسائل التقنية الحديثة ضد الطغيان والظلم والفساد في بلادهم المسلمة.

(8) الجانب الفكري في الطرح الغربي مذهل في تنظيم الأفكار، وتوصيف الحالات الاجتماعية والسياسية، واختراع آليات الحكم والإدارة، والإعجاب بذلك لا غبار عليه، لكن المشكلة تقع في الخلط بين الإعجاب به، والإعجاب بمنطلقات التنظير المادية العلمانية، فهنا نقطة الانحراف.

(9) لا يدرك كثير من التنويريين عندما يصل لمرحلة مرجعية الغرب، أنه يفكر داخل وعاء غربي بمنهجية غربية، تماما مثل الذي يتعلم صنعة باللغة الإنجليزية، فحين يفكر بمشكلة في هذه الصنعة، يفكر داخل دماغه باللغة الإنجليزية، وهكذا التنويريون يفكرون بقالب غربي، ويحاولون ترجمة التفكير لصياغة إسلامية.

(10) لفهم هذه النقطة جيدا، وتصور سبب الصدام فيها، يمكن العودة لمقالنا: “متى يستقيم النقاش حول الإسلام الديمقراطي”:

(11) النصوص الشرعية فضلا عن مرجعيتها، فإن لها قدسية وهيبة، ولها قوة لغوية، ومعان عميقة، وبلاغة وحلاوة، لا يمكن أن يخطر في بال التنويريين رفضها مباشرة. وحين توفرت الفرصة مع التقنية الحديثة لانتشار النصوص الشرعية، وتوفرت المنصات لمن ينافح عنها، تبين أنها أقوى بكثير من أن يشكك فيها من انبهر بالمشاريع الغربية.

(12) لا شك أن آيات القرآن تشكل تحديا لكثير من التنويرين، فهي تنص على القتال والإثخان في الكفار، وفتح الفتوح ورفض مبدأ الحدود. كما تنص على قوامة الرجل على المرأة، ونصيبه المضاعف في الميراث، وضرب الزوج لزوجته. كما تنص على جلد الزاني، والقاذف، وقطع يد السارق، وأحكام القصاص، والردة، والعقوبة المغلطة للمفسد في الأرض. وكذلك تنص على تحكيم شرع الله في كل شيء، بتسليم كامل ودون أي حرج.

(13) أولا الرواية المنسوبة لعلي -رضي الله عنه- ضعيفة، ثانيا حتى لو صحت، فلا يراد بها ترك معاني القرآن بحجة تعدد المعاني، وهذا الرابط فيه رد جيد على هذه الحجة.

(14) أول تشكيك في حجية خبر الآحاد، كان مع انطلاق الفكر المعتزلي، وفي هذا البحث القصير تقصٍ جيد لتاريخ التشكيك بخبر الآحاد.

(15) أهل السنة يقرون بإمكانية مراجعة بعض الأحاديث في البخاري ومسلم، مع الإقرار أن الأصل صحة الكتابين، وقد حصلت المراجعة، وانتهت من كبار المحدثين، لكن لم يقل أحد من أهل السنة بأن الأصل في البخاري ومسلم هو الشك، وأن كل أحاديثها قابلة للمراجعة. وكل من يشكك في البخاري ومسلم في الجملة، غير محسوب من أهل السنة.

(16) اتفق أهل السنة على عدالة الصحابة، ولم يشكك بذلك عالم محسوب على أهل السنة، ويمكن الجزم بأن من يشكك بعدالة الصحابة ليس من أهل السنة. والعدالة لا يقصد بها العصمة، بل يقصد بها عدة أمور أهمها استحالة كذبهم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا بيت القصيد؛ لأن عليه الاعتماد في صحة الأحاديث. وقد كُتب في هذا الموضوع من الكتب والمقالات كثير، وهذا الكتاب أحد الاختيارات الجيدة في الموضوع:

(17) لم يسبق التنويريون لهذا الزعم، ولم يتجرأ عليه إلا المستشرقون، وقد راج هذا الطرح أيام الاستشراق بسبب انتشار الجهل، وبسبب قلة المنصات المتوفرة للعلماء المدافعين عن السنة، ثم تلاشت تماما بعد أن توفر العلم، وتكاثرت هذه المنصات. وكان الشيخ محمود شاكر ورشيد رضا ومصطفى السباعي رحمهم الله، من كبار من تصدوا بنجاح لهذه المزاعم.

(18) يتحدث بعض التنويريين عن مسائل شرعية معقدة مرتبطة بقضايا الهوية والانتماء والتشريع، وكأنه يكتب مقالة صحفية، أو بحثا اجتماعيا أو تاريخيا، ولا يتناول الموضوع من باب الموازنة بين أقوال العلماء، طبقا للنصوص الثابتة، بل يطرح الموضوع بمنهجية تعتبر فيها أدلة الشرع واحدة فقط من روافد المعرفة.

(19) لم يؤلف الشاطبي رحمه الله كتابه حيلة لتعطيل النصوص، إنما لتأكيد تكامل النصوص، وحاجتها لبعضها البعض، كما جاء في كتابه الآخر (الاعتصام). قال الشاطبي: “فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما تثبت به كلياتها وأجزاءها المترتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بمبينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها …. وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنسانا، وكذلك الشريعة، لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، من أي دليل كان، وإن ظهر لبادئ الرأي نطق ذلك الدليل، فإنما هو توهمي لا حقيقي، فشأن الراسخين في العلم، تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضا، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة” (الاعتصام : 1/312). فأين هذا الكلام من تعطيل النصوص بحجة المقاصد؟

(20) أولا لم يجعل الإمام مالك عمل أهل المدينة مصدرا مستقلا، بل أخذ به للترجيح بين الأدلة، ثانيا هذه الحجة مرتبطة بقرب عهد المسلمين في المدينة بالعهد النبوي أيام مالك، ثالثا هو لم يحتج إلا بما يغلب على الظن أنهم توارثوه من تطبيق الصحابة -رضي الله عنهم-، رابعا هذا المنهج مقصور على مالك فقط، ولم يأخذ به أحد من الأئمة. وللتوسع في الموضوع يمكن مراجعة هذا البحث:

(21) كما يكثر هؤلاء من نقل بعض الأقوال الشاذة لعلماء قدامى، مثل الغزالي و ابن حزم، رغم أن منهجيتهما في الأصل، وخاصة ابن حزم الذي تعارض تماما مع الطرح التنويري.

(22) الرواية فيها إشكالان: الأول أنها ليست في أصل صحيح مسلم، بل رويت في شواهد مسلم، والشواهد ليست محسوبة على نفس صحيح مسلم بشروطه، وقد حقق علماء الحديث أنها ضعيفة. الإشكال الثاني، أن معناها لو صحت مرتبط بسياق النص كله، وبقية نصوص الكتاب والسنة، فيفهم منها حدود المقصود بأمور الدنيا الفنية التي لم يرد فيها نص شرعي. أما أن نستغني عن الدين في كل أمور الدنيا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فحاشا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أن يقول ذلك. لمزيد من التوسع:

(23) لا يوجد تعريف متفق عليه للسلفية، لكن يفهم في الجملة من المصطلح كل التيارات التي تلتزم بالدليل الشرعي (النص)، وهذا التعريف يتضمن كل من يدعي ادعاءً الالتزام بالدليل الشرعي، حتى لو ناقضه في منهجية الاستدلال.

(24) راجع هذه النقطة في مقال الدكتور بشير نافع “الإسلام، الإسلاميون والدولة الحديثة”:

وراجع كذلك كلام ابن خلدون الذي تناول القضية تناولا سُننيا شاملا في فصل انقلاب الخلافة إلى الملك وفصل ولاية العهد.

(25) ناقش هذه النقطة الدكتور حاكم المطيري باستفاضة في كتابه “الحرية أو الطوفان”

(26) يشترك مع التنويريين في هذه الإشكالية تيارات أخرى من التيارات السلفية، ليس بسبب عدم قناعتهم بالجهاد لكن مراعاة للظرف الأمني والسياسي، وغياب حرية التفكير، فيجدون أنفسهم في حالة ضعف أمام التيار التنويري. وللأمانة، ربما يكون التنويريون أكثر صدقا في موقفهم من هذه التيارات، لأنه موقف مبدئي، بينما موقف الآخرين مراعاة للواقع بمخالفة المبدأ، فيزيد التنويريين قوة.

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life