رب زدني وقارا

د عبدالعزيز التويجري

2024-10-27 - 1446/04/24
عناصر الخطبة
1/فضل الشيب في الإسلام 2/توقير كبار السن ورعايتهم 3/احترام الكبار 4/أولى الكبار بالإكرام والرعاية والإحسان.

اقتباس

وأحق مَن يُجَلُّ ويُقَدَّر، ويُكْرم ويُوقَّر، هو ذاك الشيخ الذي شابت لحيته في تربيتك وتغذيتك، ورقَّ عظمه نصباً في الحياة من أجلك... وتلك الأم التي وهن جسمها من حملك وخدمتك، وضعفت قواها في رعايتك وسهرها عليك.

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله الولي الحميد، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.

 

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].

 

   إذا طَلَعَ الشَّيبُ المُلِمُّ، فحيّهِ *** ولا تَرضَ للعَينِ الشّبابَ المزَوَّرَا

   لقد غابَ عن فَوديك خمسينَ حجّةً  *** فأهْلاً بهِ لمّا دَنا، وتسوّرا

 

الشيبٌ نورٌ غصن رطيب، إذا بدا في الرأس طلائع المشيب.

 الشيبُ بهاءُ طوى مراحل الشباب، وأنفق من عمره بغير حساب، وفي الحديث: "مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ"(أخرجه الترمذي والنسائي).

 

في الشيب استحكام الوقار وتناهى الجلال؛ رَأَى إِبْرَاهِيمُ الشَّيْبَ بعارضيه، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟ فَقَالَ اللَّهُ: وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: "رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا".

 

   أهلاً وسهلاً بالمشيب فإنّه *** سمة العفيف وهيئة المتحرجِ

   وكأنّ شيبي نظم در زاهر  *** في تاج ذي ملك أغرّ متوّجِ

 

الشيبُ نور يورثه تعاقب الليالي والأيام، وحلمٌ يفيده مرّ الشهور والأعوام، ووقار تلبسه مدةُ العمرِ ومُضيُ الدهرِ

 

        الشّيبُ أزهارُ الشّبابِ، فما لَهُ *** يُخفَى، وحسنُ الرّوضِ بالأزهارِ؟

 

الشيب زبدةٌ مخضتها الأيام، وفضةٌ سبكتها الأعوام، وما خيرُ ليلٍ ليس فيه نجوم.

المشيب ميسم التجربة، وشاهد الحنكة فللشيخِ الرأي، وللشاب الكيس، فالشيخ يقول عن عيانٍ، والشاب يقولُ عن سماعٍ. 

 

والشيبُ إن يحلل فإنّ وراءه *** عمرًا يكون خلاله متنفَّس

لم ينتقص مني المشيب قلامة *** ولنحن حين بدا أجلُّ وأكيس

 

الشيبُ حليةُ العقلِ وشيمةُ الروح، ورداءُ العلمِ والأدب.

لقد جلّ قدرُ الشّيبِ إن كان كلّما *** بدت شيبةٌ يعرى من الّلهو مركبُ

 

الشيبُ زهرة الحنكة ومقدّمة العفة، والمشيب ثمرة الهدى ولباس التقوى.

وللكبارِ وقارٌ إذا جلسوا، وبهاءُ إذا نطقوا، وسكينةُ إذا سكتوا. وهذا أدبٌ يعرفه الشبابُ إذا عقلوا؛ في صحيح البخاري قال ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ المُسْلِمِ لاَ يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا"، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ لاَ يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا.

 

وقام وكيع لسفيان فأنكره، فقال وكيع: ألستَ حدَّثتني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ"؟، ومن إجلال الله إجلال مَن شابّ رأسه ولحيته في التوحيد.

 

وقال أزدشير لابنه: "وقِّر الكبار، فَهُم مواطن الوقار ومعادن الآثار ورواة الأخبار وحفظة الأسرار؛ إن رأوك في قبيح منعوك، أو جميل أيّدوك".

 

وجاء رجلان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- شيخ وشابّ، فتكلم الشاب قبل أن يتكلم الشيخ، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "كَبِّر كَبِّر".

 

وكِبُر السنِّ أحدُ الأسبابِ التي تُعطي حق الأولوية في الإمامة، جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفدٌ فأقاموا عنده عشرين ليلة، فلما أرادوا الانصراف، قال لهم: "وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم"(أخرجه البخاري).

 

وأوصى يزيد بن المهلب ابنه فقال: "ليكن جلساؤك ذوي الأسنان".

ومرّ الحسنُ بفتيان فقال: "شوبوا مجلسكم بشيخ".

 وقيل: "مَن عرف حقّ من فوقه، عرف حقّه من دونه".

 

وكبرُ السنِ ليس نقصًا، بل يزيدُ الإنسانَ كرامةً وإكراماً ومهابةً، قال رجلٌ يفتخر بشيخوخته:

 أصبحتُ شيخاً له سَمْتٌ وأبَّهةٌ *** يدعونني الناسُ عمًّا تارةً وأبا

  وتلك دعوة إجلالٍ وتكرمةٍ *** ودَدْتُ أنِّي معتاض بها لقبا

 قد كنتُ أُدْعَى ابنَ عمٍ مرةً وأخاً *** حتَّى تقلَّب دهرٌ يُعقِبُ العُقَبَا

 عجبت للمرء لا يحمي حقيقتَهُ  *** مسلوبةً كيف يحمي بعدها سلبا

 قالوا المشيبُ نذير قلت لا وأبي ***  لكنْ بشيرٌ يجلِّي وجهُه الكُرَبا

 

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبسنة سيد المرسلين، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إن ربكم لغفور شكور.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد:

 

وأحق مَن يُجَلُّ ويُقَدَّر، ويُكْرم ويُوقَّر، هو ذاك الشيخ الذي شابت لحيته في تربيتك وتغذيتك، ورقَّ عظمه نصباً في الحياة من أجلك.

تَحَمَّلْ عن أبيكَ الثقلَ يوماً *** فإن الشيخَ قد ضَعُفَتْ قواهُ

أتَى بكَ عن قضاءٍ لم تُرِدُه *** وآثَرَ أن تفوزَ بما حَوَاهُ

 

وتلك الأم التي وهن جسمها من حملك وخدمتك، وضعفت قواها في رعايتك وسهرها عليك.

العيشُ ماضٍ، فأكرمْ والديكَ به *** والأُمُّ أولى بإِكرامٍ وإِحسانِ

 وحسبُها الحملُ والإِرضاع تُدمِنه *** أمران بالفضلِ نالا كلَّ إِنسانِ

 

الأبوانِ عينانِ في رأس الأبناء والبنات، الوالدان العظيمان هما أولى من في هذه الحياة في التوقير والاحسانِ، والوفاء والإكرام؛ (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23- 24].

 

ويليهم بالتقدير والإجلال الأقارب والأرحام؛ قالت عَائِشَةٌ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنها-: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ كَانَ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كَلَامًا وَلَا حَدِيثًا وَلَا جِلْسَةً مِنْ ابنته فَاطِمَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى -صلى الله عليه وسلم-إِذَا رَآهَا قَدْ أَقْبَلَتْ رَحَّبَ بِهَا، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا حَتَّى يُجْلِسَهَا فِي مَكَانِهِ، وَكَانَتْ إِذَا أَتَاهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَحَّبَتْ بِهِ ثُمَّ قَامَتْ إِلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ".

 

  اللهم زدنا علمًا وعملاً ورزقًا وتوفيقًا..

 

اللهم بارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأرزاقنا..

اللهم آمنّا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا...

 

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life