عناصر الخطبة
1/أعظم نعيم الآخرة 2/إمكانية رؤية الله في الآخرة واستحالتها في الدنيا 3/رؤية الله تكون في المحشر وفي الجنة 4/المحرومون من النظر إلى وجه الله 5/كيف نظفر بهذه الكرامة؟

اقتباس

إن رؤية الله -تعالى- بالأبصار، وتجليه -سبحانه- لعباده ضاحكاً لهم، هو الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون؛ إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله: أكثر الله -تعالى- في كتابة الكريم من ذكر الجنة وأوصافها وما فيها من النعيم المقيم، إذ هي وعد الله وبشارته لعباده المؤمنين جزاء إيمانهم وطاعتهم لربهم في الدنيا، قال -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة:72]، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -تعالى-: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة:17]"(متفق عليه).

 

ألا وإن أعظم اللذائذ وأكبر السرور في الجنة ما أخبر عنه ربنا -سبحانه- بقوله: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[ق:34-35]، وبقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس:26]، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الزيادة بأنها رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- في الجنة.

 

أيها الناس: هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد ورد في القرآن الكريم أن كليم الله موسى -عليه السلام- سأل ربه -تعالى- النظر إليه، فقال له ربه: (لنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)[الأعراف:143]؛ فرؤية الله في الدنيا مستحيلة، أما في الآخرة فإنها ممكنة؛ كما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: "هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ" قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ" قَالُوا: لاَ، قَالَ: "فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ"(متفق عليه)، وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنَظَرَ إلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَقَالَ: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَاناً كما تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ"(متفق عليه).

 

أيها المسلمون: وهل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة الإسراء والمعراج؟

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس في الأدلة ما يقتضي بأنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة صريحاً، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل؛ كما في صحيح مسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه"... وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه "(مجموع الفتاوى).

 

وأما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه ليلة المعراج، أي: رآه بقلبه لا بعيني رأسه، ويبين ذلك قول عائشة -رضي الله عنها- أنه لم يره بعيني رأسه، وأيضا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نور أنى أراه".

 

أيها المسلمون: إن الله -سبحانه- خلق الخلق لعبادته؛ فبذكره تطمئن قلوبهم في الدنيا وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئا خيراً لهم ولا أحب، ولا أنعم لقلوبهم من النظر إليه وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يعطهم في الدنيا شيئاً خيراً لهم ولا أقر لعيونهم من الإيمان به ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه والتنعم بذكره، ولذلك جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين هذين الأمرين في دعائه فقال: "أسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مُضِرَّة، ولا فتنة مضلة"(رواه النسائي)، فجمع -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدعاء العظيم بين أطيب شيء في الدنيا وهو الشوق إلى لقاء الله -تعالى-، وأطيب شيء في الآخرة وهو النظر إلى وجهه -سبحانه-.

 

إن رؤية الله -تعالى- بالأبصار، وتجليه -سبحانه- لعباده ضاحكاً لهم، هو الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم.

 

أيها الإخوة: اعلموا أن المؤمنين والمنافقين يرون ربهم في المحشر وفي عرصات القيامة، لكن المؤمنين يرونه رؤية نعيم وتكريم، والمنافقين يرونه -سبحانه- رؤية عذاب وإذلال، وأما الكافرون فإنهم محجوبون عن رؤيته -سبحانه-.

 

وأما في الجنة فرؤيته -تعالى- من أعظيم نعيم أهل الجنة؛ فعن صُهيب -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُريدُونَ شَيئاً أَزيدُكُمْ؟ فَيقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلَى رَبِّهِمْ"(رواه مسلم)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نُودُوا: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ مَوْعِدًا عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا لَمْ تَرَوْهُ، فَقَالُوا: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَتُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ، وَتُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟ " قَالَ: "فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ"(رواه أحمد).

 

فإذا رأوه -سبحانه- فإنه يصيبهم من النور والضياء، ويجدون من اللذة ما يصغر معه كل نعيم الجنة على ما فيها من أنواع اللذائذ والنعيم، ويرجعون إلى بيوتهم وقد ازدادوا نوراً وضياء، وقد صرح الحق -تبارك وتعالى- بما يلحق المؤمنين من الحسن والبهاء والنضارة برؤيتهم لربهم في جنات النعيم فقال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[القيامة:22-23].

 

وبرؤية الرحمنِ نؤمنُ أننا *** سنراه في دار الجزا والمشهدِ

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

 

أيها المؤمنون: علينا الحذر أن نكون من المحجوبين عن رؤية ربهم والنظر إليه في الجنة، فهذا هو الشقاء المقيم، هؤلاء هم أهل الحرمان الكبير، فأشد الحرمان حرمانهم، وأقسى العذاب عذابهم، فهم المحرمون من النظر إلى ربهم ورؤية وجهه الكريم، وهم المطرودون عن هذا النعيم العظيم، فيا لخسارتهم وذلهم وخزيهم ونكالهم، ألا بعداً وسحقاً لهم؛ فهل تعلمون من هم هؤلاء الذين سبق عليهم القول من ربهم بهذا الحرمان الأليم:

 

أولهم: الكافرون المكذبون بيوم الدين، الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، وأعرضوا عن عبادة الرحمن، فأعرض الله عنهم، وحرمهم لذة النظر إلى وجهه الكريم، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ)[المطففين:15-16]، قال الشافعي -رحمه الله-: "لما حجب الكافرين حال السخط؛ رآه المؤمنون في الرضا".

 

ثانياً: المنافقون الذين يعذبون في الدرك الأسفل من النار؛ فأشد العذاب عذابهم، ومن العذاب أن يحجبوا عن رؤية الله، ويمنعوا من النظر إلى وجه الله ورؤية وجهه الكريم.

 

ثالثاً: أهل البدعة المنكرين للرؤية، الذين يرون أن الله لا يرى في الجنة، ويردون كل هذه الأدلة الواضحة، من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، بشبهات باطلة، وتأويلات فاسدة، يقول الإمام أحمد في كتابه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا استقر أهل الجنة في الجنة ونادى منادٍ: يا أهل الجنة إن الله قد أذن لكم في الزيادة، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله لا إله إلا هو"، ثم قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "وإنا لنرجو أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله تعالى"(الرد على الجهمية).

 

لقد وصف الله الجنة لعباده المؤمنين؛ ليزدادوا لها شوقاً ومسابقةً وعملاً، فوصف لهم ما فيها من الأنهار والأشجار، وما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من النعيم الأبدي، ووصف لهم ما فيها من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة، وما لهم من الزوجات الحسان، وما يحصلون عليه من ألذ النعيم وأعظم اللذة برؤية وجهه الكريم.

 

فمن أحب أن يُكرمه الله بهذه النعمة العظيمة؛ فليحرص على ما يعنيه على دخول الجنة من الأعمال الصالحة عموماً، وعلى ما يأتي على وجه الخصوص؛ فمنها:

 

أولاً: الإيمان بالله وتوحيده، لقوله -تعالى-: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس:26]، والإحسان أعلى مراتب الإيمان.

 

ثانياً: المحافظة على صلاتي الفجر والعصر في جماعة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)[ق:39] (متفق عليه)، فقد ذكر في الحديث السبب الذي يعين على حصول هذه النعمة، والمعنى: لا تُغلبوا بالنوم والشغل وغيره فتفوِّتوا هاتين الصلاتين؛ فيفوتكم هذا الفوز الكبير، وتُحرَمُون من النظر إلى وجه الله الكريم.

 

ثالثاً: الدعاء: قال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة:186]، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه بأن يبلغه هذه النعمة العظيمة فيقول في دعائه: "... وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة"(رواه النسائي).

 

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...

 

المرفقات
رؤية-الله.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life