عناصر الخطبة
1/ أهمية المال في حياة الإنسان 2/ وجوب المحافظة على نعمة المال 3/ موقف الإسلام من جمع المال وإنفاقه 4/ مضارّ الإسراف وعواقبه الوخيمة 5/ التحذير من حمى التسوق والسفر 6/ لا إسراف في الطاعات.اهداف الخطبة
اقتباس
الإسراف يُفضي إلى الفقرِ والفاقَة، المُسرِفُ يُطلقُ يدَهُ في الإنفاق إرضاءً لشهواته، واتباعًا لنَزَوَاته، وكم من بيوتٍ أسَّسها آباءُ مُقتدِرُون، وفي إنفاقهم راشِدُون، فورِثَهم أبناءُ مُسرِفون، أطلَقُوا لشهواتهم العَنان، فتَهَدَّمَت بيوُتُهم، وتبدَّدَت ثرواتُهم، وتلك عاقبةُ المسرفين، ومآلاتُ المُترَفين. التعلُّقُ بلذائذ العيش، ومُشتَهَياتِ النفوس يُقَوِّي الحرصَ على الحياة، ويُقصِي عن مواقِع الفداءِ والعَطاءِ، والعزَّةِ وعُلوِّ الهِمَّة. النفوسُ المُسرِفة يضعُفُ طمُوحُها، تصرفُها لذَّاتُها عن الاهتماماتِ الجادَّة، وتصُدُّها عن طرُقِ الإبداعِ والابتكار.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي خلقَ الخلقَ وبرأَ، وأحسنَ كلَّ شيءٍ خلقَه وذرَا، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) [طه: 6]، أحمدُه - سبحانه - وأشكُره، وأتوبُ إليهِ وأستغفِرُه، على نعمٍ تتكاثَر، وآلاءٍ تترَى.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ الحقِّ واليقينِ والإخلاص، بلا شكٍّ ولا امتِراء، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، المبعوثُ من أمِّ القُرىَ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه الطيبين الطاهرين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين، وأزواجِهِ أُمَّهَاتِ المؤمنين، خيرِ القُرون وسادةِ الوَرَى، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما صبحٌ أقبلَ، وليلٌ سرى.
أما بعد: فأُوصِيكم - أيُّها الناس - ونفسي بتقوَى الله، فاتَّقوا الله - رحمكم الله -، فالميزانُ عند الله التقوَى، وليس الأغنَى وليس الأقوى.
فانظُر - يا عبدَ الله - مقامَك عند ربِّك لا عند البشر؛ فكم من مشهورٍ في الأرض، مجهولٍ في السماء، وكم من مجهولٍ في الأرضِ، معروفٍ في السماءِ!
أخفىَ اللهُ القبول، لِتَبقَى القلوبُ على وجَل، وأبقى بابَ التوبةِ مفتوحًا، لِيبقَى العبدُ على أمَل، وجعَلَ العِبرةَ بالخواتيم، لئلا يغترَّ أحدٌ بالعمل، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 53- 55].
معاشرَ المسلمين:
لقد جعلَ اللهُ حياةَ ابن آدم قائمةً على المال، في بقائها، وكمالها، وعِزِّها، وسعادتها، وعِلمِها، وصحَّتِها وقوَّتِها، واتِّساعِ عُمرانِها، وسُلطانها، لقد جعَلَه - سبحانه - قِوامَ الناسِ والحياة، فقال - عزَّ شأنُه -: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء: 5]، أي: يستقيمُ بها المعاش، وتقومُ عليها المصالحُ العامَّةُ والخاصَّة.
ووصفَه - سبحانه - بأنه زينةُ الحياةِ الدُّنيا، فقال - جل وعلا -: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: 46].
وحِفظُ المال في الإسلام هو أحد الضروريات الخمس، التي يقومُ عليها الدِّين، وتقومُ عليها الدنيا.
يقولُ الحافظ بن القيِّم - رحمهُ الله -: "واعلَم أنَّ اللهَ جعلَ المالَ قِوامًا للأنفُس، وأمرَ بحفظِه، ونهَى أن يُؤتىَ السفهاء من الرجال والنساءِ والأولاد وغيرِهم".
يقولُ بعضُ السلف: "لا مَجدَ إلا بفِعال، ولا فِعالَ إلا بمال".
ومن هنا قال عمرُ - رضي الله عنه -: "الخَرَقُ فِي الْمَعِيشَةِ أَخْوَفُ عِنْدِي عَلَيْكُم مِنَ العَوَزِ، وَلا يَقِلُّ شَيْءٌ مَعَ الصْلاحِ، ولا يَبْقَى شَيْءٌ مَعَ الْفَسَادِ".
والشريعةُ لم تُحَرِّم اكتسابَ المال، وتنمِيَتَه وحِفظَه؛ بل حثَّت على ذلك، وحضَّت عليه، ولكنَّها حرَّمت الطرقَ الممنوعة في كسبه وإنفاقِه.
معاشر الإخوة:
تعظُمُ الأمةُ وترقَى في سماء العزَّة والمَنَعَة بخِصالٍ، من أكبرها وأظهرها: حفظُها لمالِها، واقتصادُها في معاشها، وترشيدُها في إنفاقها، لا فضلَ لأمةٍ أن تضعَ على موائِدِها ألوانَ الأطعمة، وصنوفَ المآكل، إنما فضلُها أن يكون لها رجالٌ سليمةٌ أبدانُهُم، قويَّةٌ عزائِمُهم، نيِّرةٌ بصائِرُهم، عالِيةٌ طُمُوحاتهُم، عظيمةٌ قِمَمُهم.
إنَّ الإغراقَ في ملذَّاتِ المطاعِمِ، والتَّكالُبَ على حُطامِ الدُّنيا، أنزَلُ قَدرًا من أن يُتهافَت عليه على نحو ما يظهرُ على بعضِ أبناءِ هذا الزمان.
معاشرَ الأحبة:
الإسراف يُفضي إلى الفقرِ والفاقَة، المُسرِفُ يُطلقُ يدَهُ في الإنفاق إرضاءً لشهواته، واتباعًا لنَزَوَاته، وكم من بيوتٍ أسَّسها آباءُ مُقتدِرُون، وفي إنفاقهم راشِدُون، فورِثَهم أبناءُ مُسرِفون، أطلَقُوا لشهواتهم العَنان، فتَهَدَّمَت بيوُتُهم، وتبدَّدَت ثرواتُهم، وتلك عاقبةُ المسرفين، ومآلاتُ المُترَفين.
التعلُّقُ بلذائذ العيش، ومُشتَهَياتِ النفوس يُقَوِّي الحرصَ على الحياة، ويُقصِي عن مواقِع الفداءِ والعَطاءِ، والعزَّةِ وعُلوِّ الهِمَّة. النفوسُ المُسرِفة يضعُفُ طمُوحُها، تصرفُها لذَّاتُها عن الاهتماماتِ الجادَّة، وتصُدُّها عن طرُقِ الإبداعِ والابتكار.
إن من البيِّن المعلُوم أن النُّبُوغةَ والعبقريَّة، والتطلّعَ إلى المعالي لا تُدرَكُ إلا باحتمالِ المكارِه، وركوب المصاعِب، واقتِحامِ الأخطار، والمُسرِفُ ضعيفُ العزيمة، هزيلُ التطلُّع، ومن ربطَ همَّتَهُ بطمُوحٍ كبيرٍ واشتغلَ لتحصيلِه، انصرفَ عن فنون اللهو، وألوان الملذَّات، ولا يَنالُ المُنَى إلا من هَجَرَ اللذائذ.
إن الذين يُبالِغُون في التّشبُّع والامْتِلاء، وابتكار أفانِين الطهيِ وضُروبِ التلذُّذ، لا يصلُحُون للأعمال الجليلة، ولا تُرشِّحُهم هِمَمُهُم القاعدة لعزَّةٍ وتَضحِيَة.
أيُّها الإخوة في الله:
الإسرافُ يُجَرِّئُ النفوسَ على ارتِكابِ الجَور والمظالم؛ لأن همَّ المُسرِف إشباعُ شهوته، فلا يُبالي أن يأخُذَ ما يأخُذ، من طُرقٍ مشروعةٍ أو غير مشروعة، فيمُدُّ يدَه إلى ما في يدِ غيرِه بطرقٍ مُلتوِية، ووسائل مُرِيبة. الغارِقُ في ملذَّاته تضعُفُ أمانتُه، فاتباعُ الشهواتَ عنده طاغٍ، والميولُ للملذَّاتِ لديه غالِب.
الإسرافُ يدفعُ بصاحبِه إلى الإمساك عن بَذلِ المعروف، وفعلِ الخير، فملذَّاتُه أخذَت عليه مجامِعَ قلبِه، فهمُّه وهمَّتُه، إعطاءُ نفسِهِ مُشتَهَاها، في مطعومِه وملبوسِه ومركوبِه وأثاثِه. المُسرِفُون يقبِضُون أيديَهم، والكرامُ يبسُطُونَها لذوي الحاجاتِ، من الفقراء والمنكوبين والمُشَرَّدين، ابتغاءَ رضوانِ الله، وشعورًا بالمسئولية، واعترافًا بفضلِ الله ونعمائِه، مع ما يستبطِنُونه من بواعث المروءة، وحقوق الأخوَّة، ونُبل المشاعر.
أيها المسلمون:
والسَّرَفُ - حفظكم الله ورعاكم - يعارضُ حفظَ المال، وقد قِيل: "مَن حفِظَ المالَ حفِظَ الأكرَمَين: الدِّينَ والعِرض".
ولما بلغَ بِشرَ بنَ الحارث أن أسرةً أسرَفَت في الإنفاق من تركةٍ ورِثَتَها، قال لهم: "عليكم بالرِّفقِ والاقتِصادِ في النفقة؛ فلأَن تبيتُوا جِياعًا ولكم مالٌ، أحبُّ إليَّ من أن تبيتُوا شِباعًا لا مالَ لكم".
ويقول أبو الدرداء - رضي الله عنه –: "إن من فِقهِ الرجل: رِفقَه في معيشته".
والإنسانُ يطغَى إذا استغنَى، (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27]، (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7].
معاشر المسلمين:
لقد ظهرَ السَّرَفُ في العصور المتأخرة بشكلٍ مُزرِي، فالواجِدُ يُسرِف، والذي لا يجِد يقترِضُ من أجل أن يُسرِف، ويلبِّي كمالياتٍ هو في غِنىً عنها، وهذا من ماديات هذا العصر، وثقافته في غرائزه وشهواته، وغفلَته.
معاشر الإخوة:
للإسرافِ آثارٌ في الصحةِ وانحرافها، وفي حديث المقداد بن معدِ يكرِب - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شرًّا من بطنِه، بحسْبُ ابنِ آدمَ لقيماتٌ يُقِمْنَ صلبَه، فإن كان لا محالةَ، فثُلثٌ لطعامِه، وثلثٌ لشرابِه، وثلثٌ لنفسِه» (رواه أحمد، والترمذي، والنّسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "حديثٌ حسَنٌ").
الإفراطُ في المآكل والشِّبَع، وإدخالُ الطعامِ على الطعام، والخضوعُ لمُشتهَيات النفوس، كلُّ ذلك إيذاءٌ للنفس، وانحرافٌ في الصحَّة، وإضاعةٌ للمال، وقعودٌ في الهِمّة، والمؤمنُ يأكلُ بأدبِ الشرع، فيأكُلُ في معِيٍّ واحدٍ، وغيرُ المُؤمن يأكُلُ بمُقتَضَى الشهوةِ والشَّرَهِ والنّهَم، فيأكلُ في سبعةِ أمْعاء. بالحفاظِ على اللُّقمةِ، يكونُ الحِفاظُ على الصحَّة، والحِفاظُ على الثروة.
ومن توجيهاتِ علماءِ الإسلام: ما قاله ابنُ هُبَيرَة - رحمه الله -، يقول: "لا يَنبغي للمُسلم أن يتناوَل فوق حاجتِه؛ لأنه قُوتُه وقوتُ غيره، فالقسمةُ بينَه وبين غيرِه لم يُمكن تقديرُها إلا بالإشارة بحسب الاحتِياج، فإذا أخذَ شيئًا هو مُشاعٌ بينَه وبين غيره أكثرَ من حاجته فقد ظلمَ غيرَه بمقدار التفاوُت".
وقالوا: إن من السَّرَف أن يُلقَى على مائدةٍ من الخبز أضعافُ ما يحتاجُ إليه الآكِلُون، ومن السَّرَف أن يضعَ لنفسِه ألوانَ الطعام.
ويقول الإمام أحمد: "المرءُ يأكلُ بالسُّرورِ مع الإخوان، وبالإيثارِ مع الفقراء، وبالمروءَة مع أبناء الدُّنيا، وبالتعلُّمِ والاتّباعِ والأدبِ مع العلماء".
معاشر الإخوة:
يسير عالَمُ اليوم بالإسراف، في استهلاكه في طريق هلاكه. قُطعانٌ من البشر لا يمتدُّ بصرُها ولا بصيرَتُها أبعَدَ من التراب وما يُشبِهُ الترابَ، تلتَهِمُ كل ما يُتاحُ لها من خلال ما عُرِف بـ "حُمَّى الاستهلاك"؛ بل هو: سَفَهُ الاستهلاك.
إسرافٌ في الملابس والأزياء، وجريٌ وراء أدوات الزينة، ومُحدَثات الأزياء ومُبتكَرَاتها، في نفقاتٍ مُرهِقة، ومسالِك مُهلِكة، وتصرُّفاتِ سيئة. إسرافٌ في المناسبات الاجتماعية، في الأفراح وفي الأتراح، مُغالاةٌ في المُهُورِ والنفقات، والاحتفالاتِ والمأكولات، وأغلَبُ ما يُنفَقُ يذهب إلى صناديق القمامة، ومُوقَ النفايات. فنعوذُ بالله من كُفران النِّعَم.
إسرافٌ في السفرِ ونفقاته، ناهِيكُم إذا كان السفرُ مُحرَّمًا - عياذًا بالله -، فيجتمِعُ بلاءٌ إلى بلاء. إسرافٌ في استخدام المرافق من الماء والكهرباء، في الإنارة والتكييف وغيرها، والماءُ أرخصُ موجود وأعزُّ مفقود، ويُهدرُ بلا حسابٍ. فاتَّقُوا الله في نِعَم الله - حفِظَكم الله -.
وكما يُنكَرُ سَرفُ الأفراد، فيُنكرُ سَرفُ الجماعات، والهيئات والمؤسسات، والشركات والدُّوَل، وهو يحمِلُ آثارًا وخيمةً، وأبعادًا خطيرةً على اقتصاد الدول وثرواتها، مما يؤدِّي إلى خسائِرِها، وإعلان إفلاسها - عياذًا بالله -، وهل غايةُ الإسراف إلا الحسرةُ والندامة؟! (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29].
وبعدُ .. عباد الله:
فدينُكم يُربِّي على الاستِغناءِ عن الأشياء، وليس الاستغناءَ بها، حتى لا يكونَ الناسُ عبيدَ الدِّرهَمِ والدِّينار، والاستهانة بالقليل تجُرُّ إلى الاستهانةِ بالكثير، ومن ضيَّعَ القليلَ أضاعَ الكثيرَ، يكسَبُ في الدُّنيا ذمًّا، وفي الآخرة إثمًا.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 116، 117].
نفعَني الله وإياكم بكتابِه، وبسنةِ نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم، ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخَطيئةٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله طاعتُه أفضلُ مُكتَسَب، وتقوَاه أعلَى نَسَب، أحمدُه - سبحانَه - وأشكرُه، لا مانِعَ لما أعطَى، ولا مُعطيَ لما سَلَب، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجُو بها النَّجاةَ، يوم الشدائد والكُرَب.
وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، النبيُّ المُنتَجَب، والرسولُ المُنتَخَب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أصحابه حازُوا أعلى المقامات وعالِيَ الرُتَب، والتّابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا، ما أضاء شِهاب ونجمٌ غرَب.
أما بعد .. معاشر المسلمين:
إن للبدن مطالِبُ اتفَقَ العُقَلاءُ على أن انتِقاصَها إضرارٌ به، والمذمومُ الممقُوت هو مسلكُ المُسرِفين، فالإسرافُ المذمومُ غيرُ قصد الزينة، والملاذّ في حدودِ الاعْتِدَال، المدلولِ عليه في قوله - سبحانه -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]، وفي قوله - عزَّ شأنُه -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 32].
وسلوكُ الوسَط هو مَسْلكُ عبادِ الرحمن، المدلولُ عليه في قوله - عزَّ شأنه -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].
والمذمومُ ما أُخِذَ من غيرِ حِلِّهِ، ووُضِعَ في غيرِ محلِّه، واستعبَدَ صاحبَه، وملَكَ عليه قلبَه، وشغَلَه عن اللهِ والدار الآخرة، وعن حقوقِ أهلِهِ وإخوانه.
وحينما قالوا: "لا خيرَ في الإسراف"، قالوا: "لا إسرافَ في الخير".
ويقولُ سفيانُ بن عُيينة - رضي الله عنه -: "ما أنفَقتَ في غير ِطاعةِ اللهِ إسرافٌ، وإن كان قليلاً".
ويقول شيخُ الإسلام ابنُ تيميّة - رحمه الله -: "الإسرافُ في المُباحَات هو مُجاوزةُ الحدِّ، وهو من العُدوان المُحرَّم، وتركُ فُضُولها من الزُّهد المباح".
بل قالوا: "إن ما صُرِف فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي، فهو إسرافٌ مذمُوم".
وويلٌ لمن أبطَرَته النعمةُ وسَعَةُ العيش، فطغَى واستغرقَ عُمرَه في الشهوات.
ألا فاتَّقُوا الله - رحمكم الله -، واعلَمُوا أنَّ على الإعلام بأنواعه ودِعاياتِه كِفلاً كبيرًا، ومسئوليةً عُظمى، بالتوجيه والتوعية، والترغيب والترهيب. والإعلاناتُ التجارية، والاستهلاكية غيرُ الراشِدة تتولَّى في ذلك كذلك كِبرًا عظيما، فيجِبُ ترشيدُها وتهذيبُها، ومُساعدةُ الناس على حفظِ أبدانِهم وأموالهِم.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنِّعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسولِ الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم، فقال - عزّ قائلاً عليمًا -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ، النبيِّ الأميِّ الحبيبِ المُصطفى، والنبيِّ المُجتَبَى، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وعلى أزواجِهِ أمَّهاتِ المؤمنين، كما صلَّيتَ على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعةِ الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودك وكرمِك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعَل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرِنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعَله نُصرةً للإسلام والمسلمين، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمرِ المسلمين للعمل بكتابك، وبسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعَلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحقِّ والهدى يارب العالمين.
اللهم أصلِح أحوال المُسلمين، اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمَع على الحقِّ والهُدى والسنَّة كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتن ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم من أرادَنا وأرادَ دينَنا وديارَنا وأمَّتنا وأمنَنا وولاةَ أمْرنا وعلماءَنا وأهلَ الفضل والصلاح والاحتِساب منَّا ورجالَ أمننا وقواتنا ووحدتَنا واجتماعَ كلمتنا بسوء، اللهم فأشغِله بنفسِه، اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا قويُّ يا عزيز.
اللهم انصُر جنودنا، اللهم انصُر جنودنا المرابطين على الحدود، اللهم انصُرهم، وسدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، واشدُد أزرَهم، وقوِّ عزائِمَهم، وثبِّت أقدامَهم، واربِط على قلوبِهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم أيِّدهم بتأييدك، وانصُرهم بنصرك، اللهم واحفَظهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ومن فوقهم، ونعوذُ بك اللهم أن يُغتالوا من تحتهم، اللهم ارحَم شُهداءَهم، واشفِ جرحَاهم، واحفَظهم في أهلهم وذريَّاتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم يا وليَّ المؤمنين، ويا ناصر المستضعفين، ويا غِياث المُستغيثين، يا عظيمَ الرجاء، ويا مُجيرَ الضعفاء، اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين في فلسطين، وفي سُوريا، وفي بُورما، وفي أفريقيا الوُسطى، وفي ليبيا، وفي العِراق، وفي اليمن، اللهم قد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكربُ، واشتدَّ عليهم الأمرُ، تعرّضوا للظلم والطغيان، والتشريد والحصار، سُفِكَت دماؤُهم، وقُتِّلَ أبرياؤُهم، ورُمِّلت نساؤُهم، ويُتّمَ أطفالهُم، وهُدِّمَت مساكنُهم ومرافِقُهم.
اللهم يا ناصر المستضعفين، ويا مُنجِيَ المؤمنين، انتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكْشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قلوبهم، واجمَع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمَدَدِك، وأيِّدهم بجُندِك، وانصُرهم بنصرِك.
اللهم إنا نسألُك لهم نَصرًا مُؤزَّرًا، وفرَجًا ورحمةً وثباتًا، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وقوِّ عزائِمَهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن شايعَهم، ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كلَّ مُمزَّق، اللهم واجعَل تدميرَهم في تدبيرهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم اغفِر ذنوبنا، اللهم اغفِر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفِّس كروبَنا، وعافِ مُبتلانا، واشفِ مرضانا، وارحَم موتانا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
سُبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
التعليقات