اقتباس
إنّ الانتقال إلى مكان جديد يخلّف مربعًا جديدًا من الذّكرى، ويمكن أن يكون المكان صديقًا طيّبًا يضاهي فقده غياب صاحب طيّب كما يقول كاتبنا الذي أبتلي بكثرة الارتحال دون أن يعلم هل ألقى عصا التّسيار أم في العمر متسع...
يتبع أعمال الحفر اكتشاف كنز، أو تشييد بناء، أو إنجاز معلَم خالد، أو تظلّ الحفر كما هي بلا ردم ولا منتج لسوء تخطيط، أو خلل تنفيذ، أو فساد متابعة، فتهلِك المارّة، أو تشوّه الطّريق، وإذا كان هذا الوصف يصدق على المشاريع المادّية فهو كذلك حين يكون الحفْر عميقًا داخل تلافيف النّفس، وفي خبايا العقل.
وضمن مسيرة تأمّل، أجاد الأستاذ الكاتب حسن مدن في الغوص داخل ذاته، وأودع جواهره في كتاب أسماه: ترميم الذّاكرة: ما يشبهُ سيرة، صدرت طبعته الثّانية عام (2017م) عن مسعى للنّشر والتّوزيع، ويقع في (139) صفحة من القطع المتوسط تملأ غلافه صورة المؤلّف قبل نصف قرن تقريبًا، ويخلو الكتاب من تقسيمات لأنّه ترميم، ولا يشمل الحياة كلّها لأنّه شبه سيرة، وفي منتصفه تواجه القارئ ورقة تؤكد العنوان كي لا ينشغل المطلّع في متاهات لوم أو نقد.
لماذا تلّح بعض الحكايات على أذهاننا لدرجة الّلجج بينما تتوارى آلاف غيرها؟ سؤال يبحث عن إجابة تجمع بين العلم والخيال، وبين الجسد والنّفس، هكذا تساءل المؤلّف الذي يرى أن سيرة المكان لا تكـتب إلّا خارجه؛ لأنّ الذّاكرة تتولّى حينها عمليّة الوصف، وإعادة صياغة الأشياء بعد أن تصبح على مسافة كافية لإشعال الحنين إليها.
والكاتب مدن شغوف بالذّكرى وأسئلتها، ولا عجب فالذّكريات مورد لا ينضب للكتابة، وهي لا تستعاد لأنّ ما نظنّه استعادة ليس إلّا حالًا ثانية غير لحظة الحدث الأصلي، ولأجل هذه الحقيقة يلتقط الكاتب الحاذق قلمه لتسجيل الّلحظة المثيرة في وقتها؛ لأنّها إذا فاتت فلن يكتبها بحرارتها وانفعالها، وإن كان لصداها وقع يستجلب الإبداع.
كما تنشأ ألفة حميمة بين الإنسان وبعض الأمكنة التي استقر بها، بينما تنعدم العلاقة مع أمكنة أخرى، وأوّل ما يتبادر لذهن المرء صورة الوجوه التي يحبّها ولها ارتباط بالمكان، فللأشخاص حضور معنوي وترابط وثيق مع الأحداث، ولذا تسابقت صور الوجوه لذاكرة الكاتب إثر عودته بعد ربع قرن من المنفى القسري، وآهٍ من ذكرى تحضر مع غيبة أبطالها!
وحين يخلو المرء بنفسه يجابهها ببواعث الحيرة والقلق، وينجم عن وحدته بؤرة من التّوتر والأسئلة، في بادرة تنم عن وعي عالٍ بالمسؤوليّة إزاء النّفس والحياة التي يراد لها أن تغدو ذات جدوى متوهّجة بالجديد، متحرّرة من قيود التّكرار، فأداة التّفكير في ذواتنا يجب ألّا تهدأ؛ لأنّ غياب الوازع على السّؤال يقود للموات الدّاخلي مع الغربة، والغربة الدّاخليّة أعظم من الغربة الخارجيّة، فقد يتصالح المرء مع منفاه الخارجي، ويبقى على خصام مع منفى الدّاخل!
وقع المنفى أليم على نفوس الأحرار، وللأستاذ حسن محاولات رجوع جريئة إلى البحرين، لكنّ حظّه منها لم يتجاوز رؤية بلاده من السّماء، أو جلسة على كرسي انتظار في المطار، أو نظرة من خلف زجاج! وحين بلغه نبأ إمكان العودة لدياره أربكه الخبر، وبعد وصوله لمطار المنامة لم يعرف بعض الوجوه، وتاه في المكان حتى غدا كالغريب عنه باختلاف مكوّناته، وتقاصر مسافاته، واقتراب البعيد، وصغر ما كان يراه كبيرًا، وكم في العودة للأماكن القديمة من بوح وأشواق ودموع!
بعد أوّل عيد أعقب عودته زار المقبرة، ووقف بخشوع أمام خمسة أضرحة فاتته المشاركة في هيبة رحيلها، وموكب جنائزها؛ فلم يشأ تفويت واجب الزّيارة والسّلام والدّعاء، والوقوف على أجداث لو علم ساكنوها عن الزّائر لقاموا إليه مبتهجين، بيد أنّ الموت لا رجعة منه في الدّنيا.
ففي منفاه تلقى خبر وفاة والديه في يوم واحد مع أنّ موت أمّه سبق وفاة أبيه بأيّام، وبعد سنوات صعق بفاجعة رحيل أخيه الأكبر إثر مرض كبدي، وهذا الأخ بالنّسبة للمؤلّف يقع في مرتبة الأب بحدبه ونصحه وحرصه، ولم تكد جروحه تندمل من الخارج حتى أتاه نعي مفاجئ لأخيه الأوسط بحادث سيّارة، فأصبح بعد سلسلة الفقد الوحيد الباقي من أهل بيته وجيله، وما أصعب العودة إلى مكان أهله قد ترحلّوا بلا أوبة!
عاش الرّجل متنقلًا بعد البحرين بين القاهرة، وبغداد، وبيروت، ودمشق، وموسكو، والشّارقة، واكتسب من هذا التّرحال لذّة الدّهشة المتلاصقة مع مرحلة الطّفولة سريعة الانقضاء، والمتصاحبة مع كثرة الانتقال، ويمكن تحصيلها مع كلّ نفاذ إلى ما وراء القشرة الخارجيّة للأشياء وقليل من يفعل. وأضعف طول الزّمن من محفّزات الرّجاء بالعودة، ونشاط الأمل، وأفقد الانتظار بعض طعمه، وما أقسى أن تضيق الأوطان ببنيها؛ فيكون مصيرهم البُعد.
وفيما يشبه السّيرة عرّج كاتبنا على خبره مع الكتب التي خشيت والدته عليه من لوثتها، وحذّرته من أن تصيبه بالجنون، مما حدا بأخيه الشّفيق أن يداهم غرفة شقيقه الأصغر في حملات تفتيش وفحص تنتهي بحرق بعض كتبه أو إتلافها خوفًا من الرّقيب، ومع ذلك كان للكتب فضل إثارة حرقة الأسئلة بين جوانحه، وأيّ فائدة من كتاب لا يترك خلفه أكثر من سؤال؟!
كما أشار المؤلّف إلى ذكريات الاعتقال الأوّل في البحرين، وكان المصحف الشّريف خلاله أعظم هديّة من جاره المعتقل، وفي السّجن نزعوا ساعته كالمعتاد إمعانًا في حرمان السّجين من الاحساس بالزّمن؛ فلا يعرف غير وقت الأكل والخلاء، وفي مواقيت الصّلاة إذا ضبطت بديل مفيد.
وأبان دواعي الفصل من المدرسة، ثمّ الالتحاق بجامعة القاهرة ضمن بعثة إماراتيّة لم تطل بسبب الايقاف ثمّ المغادرة الإجباريّة إلى بغداد فبيروت التي تشابه حيويّة القاهرة لولا عواقب الاقتتال الدّاخلي الكئيب والعدوان اليهودي الفظيع، حتى اضطر إلى دمشق التي عانى فيها من القبضة الأمنيّة؛ لتكون محطّته الجديدة في موسكو.
من بين ركام الذّاكرة المنبوشة وقفات فيها دراسة، وثقافة، وزمالة وأصدقاء، ونشاط وعمل منّظم، وتربية حزبيّة، ومؤتمرات عالميّة، وقراءة ونقاش، وزواج حكم عليه بالبعد حتى أنّه لم ينل من الوقت بقرب عائلته خلال ربع قرن إلّا خمسه فقط، ويا لعذابات القلوب التي تجبر على فراق أحبابها!
ومهما ذهب حسن مدن أو جاء خلال أعمال التّرميم فإنّه يستصحب معه المكان، فمن مدن عريقة وشوارع نابضة بالحياة لها تراث وتاريخ وتفاصيل، إلى وقائع الحرب في لبنان التي أصر أحد رساميها على إقامة معرض تشكيلي في عمارة هدمتها صواريخ اليهود، مرورًا بشقّة دمشقيّة فيها مكتبة عامرة بيد أنّ مالكها معتقل، وانتهاء بموسكو التي تعلّم فيها الّلغة الرّوسية بفضل معلّمة أوكرانيّة بارعة، وقراءة روايات تشيخوف، ودراسة عليا في معهد استشراقي عريق.
إنّ الانتقال إلى مكان جديد يخلّف مربعًا جديدًا من الذّكرى، ويمكن أن يكون المكان صديقًا طيّبًا يضاهي فقده غياب صاحب طيّب كما يقول كاتبنا الذي أبتلي بكثرة الارتحال دون أن يعلم هل ألقى عصا التّسيار أم في العمر متسع لمواضع جديدة؟ ولأنّ الرّجل مسكون بصناعة الذّكرى ينبعث الشّجن إليه مع انهمار المطر؛ لارتباطه بوفاة صديقين أثيرين عنده.
عاد الكاتب للمنامة من موسكو بجرأة، فلم يدخلها وإن يسّرت له السّفر لدبي فالشّارقة حيث استقر ومارس هوايته المحببّة في عالم الكتابة والثّقافة، واسترجع خلالها لياقته الكتابيّة، وأفاد من ممارسة الكتابة اليوميّة إتقان مهارتي الإيجاز والتّكثيف، وما أحوج الكاتب إليهما.
وفتح عينيه على عوالم جعلته قريبًا من دواخل النّفس الإنسانيّة من خلال المتابعة التّأمليّة، والبعد عن الاحتكاك بالعمل السّياسي اليومي، وأضحى بسبب الكتابة اليوميّة في حال توتر دائم ولا يدري أينضج تنّوره مخرجه الكتابي أم يضطر لعرضه قبل النّضوج؟ ومن ضريبة الكتابة اليوميّة تأخير مشاريع أخرى كالرّواية التي سيبدع لو وضع قلمه فيها.
ومع أهميّة قتل العوائد والخلاص من أسر العادة، إلّا أنّ المؤلّف ينقل عن أديب عالمي ربط السّعادة مع التّكرار، لإنّ التّكرار يحدث ألفة ويوجد صداقة متينة، وبغياب التّكرار يشعر المرء باختلال في حياته، والمسألة بحاجة إلى توازن، وقدرة على إدارة الحياة بتكرار قديم مع تجريب جديد، فما فاز بالّلذة غير الجسور!
يختم مدن ترميمه للذّاكرة بالحديث عن النّسيان الذي يخفّف من ألم الأحداث المحزنة حتى يتناقص تدريجيّاً، مع استحالة النّسيان الكامل، وإنّما تتوارى الذّكريات إلى منطقة خلفيّة دون أن تغادر مكانها نهائيّاً؛ فتستيقظ بمجرّد أن تسمع طرقًا خفيفًا كما فعل الكاتب مع ذاكرته التي طرق أبوابها أولًا، ثمّ حفر في جوانبها ثانيًا، وأشعل المصابيح في أرجائها ثالثًا، وأبدع التّصوير والنّقل الحي منها رابعًا.
وفي صفحات قليلة أخذنا حسن مدن معه عبر الزّمان والمكان، وأشركنا في مشاعره وأفكاره، وشاهدناه وهو يوقظ الذّاكرة وينبشها بحجّة التّرميم، ثمّ يمطرها بالأسئلة دون انتظار الجواب أحيانًا، مكتفيًا بأن يتقاسم معه الآخرون غصص بعض المواجع دون بعض، فحياة كلّ فرد تمثّل عالمًا من الجمال بأفراحه وأحزانه، ولا مناص من ردم جراح الرّوح، وهذا ما صنعه المؤلّف بسلاسة أسلوبه، ولغته التي طاوعت أحاسيسه، فعبّرت عن القلق، والدّهشة، وصنوف الانفعالات، فما أرقّ الذّكرى، وما أقسى الألم!
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
@ahmalassaf
الاثنين 08 من شهرِ جمادى الأولى عام 1440
14 من شهر يناير عام 2019م
https://ahmalassaf.com/4365
التعليقات