عناصر الخطبة
1/من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- وفضائله 2/صور رائعة من الحب السامي للنبي -صلى الله عليه وسلم- 3/دور الشعوب الإسلامية في الدفاع عن دينها ونبيها 4/أهمية المقاطعة الاقتصادية للأعداء وآثارها.اقتباس
شَرحَ اللهُ له صَدرَه، ووَضعَ عنه وزرَه، ورَفعَ له ذِكرَه، ما وَدَّعَه ربُه وما قَلاه، وجعلَ آخرتَه خيراً له من أُولاهُ، وَجدَه ضَالاً فهَداهُ، وفَقيرًا فأَغناه، ويَتيمًا فآواه، ولما خيَّرَه بين الدُّنيا وبينَ لقاءِ مولاهُ، قال والشوقُ يملأُ فاهُ: "بل الرفيقُ الأعلى".
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ المحمودِ بجميعِ المحامدِ تَعظيماً وتَشريفًا وثَناءً، المتصِّفِ بصفاتِ الكمالِ عزةً وقوةً وكبرياءً، وبه نؤملُ دَفْعَ الكروبِ شِدَّةً وبلاءً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن نبيَّنا مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورسولُه، أَفضلُ هذه الأمةِ جِهادًا وفِداءً، وأعظمُها قدوةً واصطفاءً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه الذين ضَربوا أَروعَ الأمثلةِ صَفاءً ووفاءً، وطُهراً ونَقاءً، والتَّابعينَ ومن تبعَهم وسارَ على نهجِهم اهتداءً واقتفاءً، وسَلِّمْ تَسليمًا يَزيدُه بَهجةً وبهاءً، ونُوراً وضِياءً وبَركةً وسَناءً.
أما بعد: فبأي مُقدمةٍ؟، وكيفَ يَبدأُ الحديثَ من أرادَ الكلامَ عمَّن لا تُحصَى فَضائُله، ولا تُعدُّ شمائلُه، الذي وصفَهُ الله -تَعالى- بالرِّسالةِ فقالَ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)[الفتح:29]، ونَاداهُ بالنُّبوةِ فقالَ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)[الأنفال:64]، وشَرفَهُ بالعبوديةِ فقالَ: (سُبحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبدِهِ)[الإسراء:1]، وشَهدَ له بالقيامِ بالدَّعوةِ فقالَ: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبدُ اللَّهِ يَدعُوهُ)[الجن:19].
زَكَّى اللهُ عقلَه فقَالَ: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى)[النجم:2]، وزَكَّى لسانَه فقَالَ: (وَمَا يَنطِقُ عَن الهَوَى)[النجم:3]، وزَكَّى كلامَه فقَالَ: (إِن هُوَ إِلاَّ وَحيٌ يُوحَى)[النجم:4]، وزكَّى مُعلِّمَه فقَالَ: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاستَوَى)[النجم:5-6]، وزَكَّى قَلبَه فقَالَ: (مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى)[النجم:11]، وزَكَّى بصرَه فقَالَ: (مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى)[النجم:17]، وزَكَّى أخلاقَه فقَالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4]، وزَكَّى أصحابَه فقَالَ: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم)[الفتح:29].
شَرحَ اللهُ له صَدرَه، ووَضعَ عنه وزرَه، ورَفعَ له ذِكرَه، ما وَدَّعَه ربُه وما قَلاه، وجعلَ آخرتَه خيراً له من أُولاهُ، وَجدَه ضَالاً فهَداهُ، وفَقيرًا فأَغناه، ويَتيمًا فآواه، ولما خيَّرَه بين الدُّنيا وبينَ لقاءِ مولاهُ، قال والشوقُ يملأُ فاهُ: "بل الرفيقُ الأعلى".
ربَّاكَ ربُّكَ، جلَّ من ربَّاكا *** ورعاكَ في كنفِ الهُدى وحَماكا
سبحانَه أَعطاكَ فيضَ فَضائلٍ *** لم يُعْطِها في العالمينَ سِواكا
عَاداهُ مشركو قريشٍ وطردوهُ فأخزاهم اللهُ، ومزَّقَ كِسرى رِسالتَه فمزَّقَ مُلكَه اللهُ، وفي الحديثِ القُدسيِّ: "يَقولُ اللهُ -تَعالى-: من عَادى لي وَليَّاً فقد آذنتُه بالحربِ"، فكيفَ بمن عَادى إمامَ الأولياءِ، وسَيدَ الأنبياءِ؟، وصدقَ اللهُ -تعالى-: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبتَرُ)[الكوثر:3]، فكلُّ من أبغضَ النَّبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أو عاداه، فإن اللهَ -تعالى- يَقطعُ دَابرَه وذِكراه، وتبقى الصَّلاةُ والسلامُ عليه تملأُ الأفواهِ، وتطيبُ بذكرِه الحياةُ.
فداهُ الصَّحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم- بأرواحِهم وأموالِهم وأعراضِهم، ولا عجبَ في ذلكَ فقد أحبُّوه أكثرَ من أنفسِهم وأولادِهم وأزواجِهم وآبائهم وأمهاتِهم، بل ومن النَّاسِ جميعاً، ذَكرَ ابنُ القَيمِ -رحمَه اللهُ- في كِتابِه "زادِ المَعادِ"، عن زَيدِ بنِ ثَابتٍ -رَضيَ اللهُ عَنه- أَنَّه قَالَ: بعثني رسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يوم أُحُدٍ أطلُب سعدَ بنَ الرَّبيعِ، وَقَالَ لي: "إنْ رَأَيْتَهُ فأقرئه منِّي السَّلامَ، وقُلْ لهُ: يقولُ لَكَ رسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: كَيْفَ تَجِدُكَ؟".
قالَ: فجعلتُ أطوفُ بَيْنَ القَتْلَى، فأتيتُه، وهو بآخِرِ رَمَقٍ، وفيه سَبعونَ ضَربةً، ما بين طَعنةٍ برُمحٍ، وضَربةٍ بسَيفٍ، ورَميةٍ بسَهمٍ، فقلتُ: يا سَعدُ؛ إنَّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَقرأُ عَليكَ السَّلامَ، ويَقولُ لكَ: أَخبرني كَيفَ تَجِدُكَ؟، فقال: وعلى رسولِ الله -صلى اللهُ عليه وسلمَ- السَّلامُ، قُلْ لَهُ: يا رسُولَ اللهِ؛ أَجِدُ ريحَ الجَنةِ، وقُلْ لقَومي الأنصارِ: لا عُذْرَ لكم عِندَ اللهِ إن خُلِصَ إلى رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وفيكم عَيْنٌ تَطْرِفُ، ثُمَّ فاضَتْ نفسُهُ من وَقتِه".
ولسانُ حاله يقول:
عِرضي فِدا عِرضَ الحبيبِ محمدٍ *** وفِداهُ مُهجةُ خَافقي وجَنانيِ
وفِداه كلُّ صغيرِنا وكَبيرِنا *** وفِداهُ ما نَظرتْ له العَينانِ
وها هو طلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يَومَ أُحدٍ، يَحَملُ رَسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- على ظَهرِه حَتى استقلَّ على الصَّخرةِ، ويَقيهِ عن النَّبلِ بيدِه حتى شُلتْ يَدُه، وضُربَ الضَّربةَ في رَأسِه، حتى قَالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "اليومَ أَوجبَ طَلحةُ".
ولما دَخلتْ في وجنته الشَّريفةِ حَلَقَتانِ من المِغْفَرِ، يقولُ أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ عنه-: أَقبلتُ أَسعى إلى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وإنسانٌ قد أَقبلَ من قِبَلِ المشرقِ يَطيرُ طَيرانًا، فقلتُ: اللهمَّ اجعله طَاعةً، فإذا هو أبو عبيدةَ بنِ الجرَّاحِ قد سَبقني، فقالَ: "أَسألُك باللهِ يا أبا بكرٍ أن تَتركني فأنزعُها من وجهِ رَسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-"، فتركتُه، فأخذَ أبو عُبيدةَ بأسنانِه إحدى حَلَقَتَيِ المِغْفَرِ، فنزعَها، وسَقطَ على الأرضِ وسَقطتْ أَسنانُه الأماميَّةُ مَعه، ثُمَّ أخذَ الحَلَقةَ الأخرى بسِنِّهِ الأُخرى فسَقطتْ، ولسانُ حالِه:
ولو سُفكتْ دِمَانا ما قَضينا *** وَفاءَك والحقوقَ الواجباتِ
أستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كُلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، وسلمَ تَسليماً كَثيراً.
أما بَعدُ: فها هو خُبيبُ بنُ عَديٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- مَربوطٌ مَصلوبٌ على خَشبةٍ ليُقتلَ، فيُقالُ له: أَتحبُ أنَّ محمداً مَكانَك، وأنتَ سَليمٌ مُعافًى في أهلِكَ، فقالَ دونَ تَردِّدٍ: "واللهِ ما أحبُّ أَني في أهلي ووَلدي، مَعي عَافيةُ الدُّنيا ونعيمُها، ويُصابُ رسولُ اللهِ بشَوكةٍ"؛ فما هذا الحبُّ الذي أحبوه، حتى بكلِّ شيءٍ يفدوه؟
تاللهِ ما حَملتْ أُنثى ولا وَضَعتْ *** مِثلَ الرَّسولِ نَبيِّ الأُمَّةِ الهَادي
هذا هو حبُّ الصَّحابةِ لرسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فهل نحن نُحبُّه؟، هل نحنُ نوقِّرُه؟، هل نَتأدبُ بآدابِه؟، هل نَقتدي بهديهِ؟، هل نَنشرُ سُنتَه؟، (إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً)[الفتح:8-9].
أيُّها الأحبَّةُ: لا شكَّ أنَّ مقامَ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، لا يضرُّه نعيقُ ناعقٍ، ولا صَريخُ زاعقٍ، فهو صاحبُ المقامِ المحمودِ، والحوضِ المورودِ، هو سيِّدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ، ولكن العجب من المنزلةِ التي وصلَ إليها المسلمونَ، حتى أصبحَ لا يُبالي بمشاعرِهم أحدٌ، ولا يخافُ من الطَّعنِ في مُقدساتِهم أحدٌ، وأصبحَ دينُهم ورسولُهم كلأً مُباحاً لكلِّ سفيهٍ وحقيرٍ، فهذا مُستهزئ وهذا ناقدٌ، وهذا يقولُ: دينُكم يحتاجُ إلى تغييرٍ، فما هو دورُنا نحنُ معشرُ الشُّعوبِ الإسلاميةِ؟، في الدِّفاعِ عن المحبوبِ وعن مُقدساتِنا الإسلاميةِ؟
دورُ الشُّعوبِ في تربيةِ أمثالِ هؤلاءِ الذين لا يهمُّهم إلا المالَ، بالمقاطعةِ الاقتصاديةِ كما فعل ثُمامةُ بنُ أُثالٍ، فسلاح الاقتصادِ سلاحٌ خطيرٌ، قوتُه اليوم أكبرُ من قوةِ الصَّواريخِ، نحنُ نعلمُ أنَّهم لا يحبوننا ولن يحبوننا، ولكن ينبغي أن نعلّمَهم درساً في الاحترامِ يحترمونا، وإذا أرادَ أحدُهم أن يفتحَ فمَه بالكلامِ، فلا بُدَّ أن يعرفَ أن هناكَ أمَّةً تغضبُ لمُقدساتِها، وتَهزمُ اقتصادَ الدُّولِ العُظمى هزيمةً نكراءَ، لأنَّ لنا الحريةَ المطلقةَ في البيعِ والشِّراءِ.
اللهمَّ صلِّ وسلم على عبدِك ورسولِك محمدٍ النَّبيِّ الأميِّ البشيرِ النذيرِ، والسراجِ المنيرِ، اللهمَّ صلِّ وسلم عليه عددَ ما صُليَ عليه من أولِ الدنيا إلى آخرِها.
اللهمَّ ارضَ عن أصحابِه الخلفاءِ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الستةِ الباقينَ من العَشرةِ، وعن الذينَ بايعوا نبيَّكَ تحتَ الشجرةِ، وعن زوجاتِه أمهاتِ المؤمنينَ، وعن بقيةِ الصَّحابةِ أَجمعينَ.
اللهمَّ ارضَ عن التابعينَ وتَابعي التابعينَ، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، اللهم ارض عنا معهم بمنك وكرمك وجودك وإحسانِك يا ربَّ العالمينَ.
التعليقات