اقتباس
واختلف أهل العلم-رحمهم الله-ما المراد بذكر الله في الآية على قولين: فمنهم من قال: الخطبة، ومنهم من قال: الصلاة، ورجح ابن العربي: انها تشمل الجميع، وقال (أحكام القرآن4/218): "والدليل على وجوبها أنها تُحرم البيع، ولولا وجوبها ما حرم؛ لأن المستحب لا يحرم المباح".
حكم خطبة الجمعة:
سبق في العدد الأول في هذه السلسلة ذكر مكانة الخطبة، وما مُيزت به من الفضائل وأعطيته من المزايا، وفيما سيأتي نتطرق لحكم خطبة الجمعة، وأراء الفقهاء في ذلك؛ حتى يتسنى لطالب العلم والداعية؛ التعرف على كلامهم وأدلتهم فيما ذهبوا إليه وعولوا عليه.
فأقول-مستعيناً بالله-تعالى-:
حكم خطبة الجمعة:
اختلف الفقهاء في حكم الخطبة لصلاة الجمعة هل هي شرط لها فلا تصح بدونها، أو سنة فتصح الصلاة بدون خطبة؟ وذلك على قولين:
القول الأول: أن الخطبة شرط للجمعة:
وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد انظر: بدائع الصنائع (2/195)، عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة (1/ 227)، المجموع (4/ 383)، المغني (3/ 15)، مصنف عبد الرزاق (3/ 222). وبه قال عطاء، والنخعي، وقتادة، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور انظر: المغني (3/ 15). قال القاضي عياض: "وهو قول كافة العلماء" انظر: إكمال المعلم (3/256).
قال في الحاوي(3/44): " فهو مذهب الفقهاء كافة إلا الحسن البصري فإنه شذ عن الإجماع وقال: إنها ليست واجبة".
وقال في المغني (3/15): "وجملة ذلك أن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها كذلك قال عطاء، والنخعي، وقتادة، والثوري وإسحاق وأبو ثور، وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفا إلا الحسن".
وقال العلامة ابن باز-رحمه الله-:"خطبة الجمعة شرط من شروط الصلاة" (من الموقع الرسمي لفضيلته).
قال العلامة ابن عثيمين-رحمه الله-(الشرح الممتع :5/51): "يشترط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، وهذا هو الشرط الرابع، فإن لم يتقدمها خطبتان لم تصح، ولو تأخرت الخطبتان بعد الصلاة لم تصح "اهـ.
أدلة القائلين بالوجوب:
لقد استدل أهل هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة وادعى بعضهم الإجماع.
الدليل الأول: استدلوا من الكتاب العزيز بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9]
قال ابن قدامه في المغني (3/5): "فأمر بالسعي ويقتضي الأمر بالوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى الواجب، ونهى عن البيع لئلا يُشتغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهي الله عن البيع من أجلها" اهـ.
واختلف أهل العلم-رحمهم الله-ما المراد بذكر الله في الآية على قولين: فمنهم من قال: الخطبة، ومنهم من قال: الصلاة، ورجح ابن العربي: انها تشمل الجميع، وقال (أحكام القرآن4/218): "والدليل على وجوبها أنها تُحرم البيع، ولولا وجوبها ما حرم؛ لأن المستحب لا يحرم المباح".
الدليل الثاني:
قول الله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً...) [الجمعة:11]، وسبب نزول الآية ما جاء في البخاري (354)، ومسلم (863) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-أن النبي – صلى الله عليه وسلم: "كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً فنزلت الآية ".
قال ابن العربي (أحكام القرآن 4/244): "قال كثير من علمائنا: إن هذا القول يوجب الخطبة؛ لأن الله-تعالى-ذمهم على تركها، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعاً حسبما بيناه في أصول الفقه" اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره (10/21): "والدليل على وجوبها قوله تعالي: (وَتَرَكُوكَ قَائِماً)، وهذا ذم، والواجب هو الذي يذم تاركة شرعاً ثم إن النبي-صلى الله عليه وسلم-لم يصلها إلا بخطبة" اهـ.
ومن أدلتهم:
ما جاء في حديث مالك بن الحويرث أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري(631).
وقال النووي (المجموع 4/ 268): وقال القاضي عياض: وروي عن مالك: دليلنا قوله-صلى الله عليه سلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وثبت صلاته-صلى الله عليه وسلم-بعد خطبتين، وقال بن قدامه في المغني(3/15): (ولأن النبي-صلى الله عليه وسلم-ما ترك الخطبة للجمعة في حال، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
ومن ذلك ما ذكره الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-في الشرح الممتع (5/51): "أن النبي-صلّى الله عليه وسلّم-قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب فقد لغوت" أخرجه البخاري (934)، ومسلم (851) عن أبي هريرة-رضي الله عنه-، وهذا يدل على وجوب الاستماع إليهما، ووجوب الاستماع إليهما يدل على وجوبهما.
ومن ذلك-أيضاً-مواظبة النبي-صلّى الله عليه وسلّم-عليهما مواظبة غير منقطعة، فلم يأتِ يوم من أيام الجمعة لم يخطب فيه النبي-صلّى الله عليه وسلّم-، وهذا الدوام المستمر صيفاً وشتاءً، شدةً ورخاءً؛ يدل على وجوبهما.
ومن ذلك-أيضاً-أنه لو لم تجب لها خطبتان؛ لكانت كغيرها من الصلوات، ولا يستفيد الناس من التجمع لها، ومن أهم أغراض التجمع لهذه الصلاة الموعظة وتذكير الناس) اهـ.
القول الثاني:
وهو القول بالسنية وبه قال الحسن البصري، وهو مروي عن الإمام مالك، وبه-أيضاً-قال بعض أصحابه، وقال به ابن حزام.
قال ابن حزم (3/263): "وليست الخطبة فرضاً، فلو صلاها إمام دون خطبة صلاها ركعتين جهراً ولابد" ا هـ.
وأما ما جاء عن مالك في ذلك فقد أنكره الإمام القرطبي (الجامع لأحكام القرآن 10/14) فقال: "ونقل عن مالك من لم يحقق أنها سنة"، وقال ابن العربي: "وحكى ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة. ثم قال: قلت له تأويلان: أحدهما: أن مالكاً يطلق السنة على الفرض. الثاني: أنه أراد سنة على صفتها لا يشاركه فيه سائر الصلوات حسب ما شرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وفعله المسلمون. وقد روى ابن وهب عن مالك عزيمة الجمعة على كل من سمع النداء" اهـ. من نيل الأوطار (2/280).
وممن قال بالسنية من أصحاب مالك ابن الماجشون قال ابن العربي (أحكام القران 4/224): "وقال ابن الماجشون أنها سنة والصحيح ما قدمناه-أي الوجوب-والله أعلم" اهـ. ونقله عنه كذلك القرطبي في تفسيره (10/ 21)، وقال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد (1/ 198): "وعن مالك رواية شاذة أنها سنة".
وقال الحسن: (هي مستحبة)، ونقل عنه ابن حزم في المحلى: (3/264) قوله: "من لم يخطب يوم الجمعة صلى ركعتين على كل حال" اهـ.
وممن نقله عن الحسن الإمام النووي في المجموع (4/268) قال: "وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري أن يوم الجمعة تصح بلا خطبة، وبه قال داود وعبد الملك-بن حبيب-من أصحاب مالك" اهـ، وابن قدامه في المغني (3/15) نقل عن الحسن البصري أنه قال: "تجزئ جميعهم؛ خطب الإمام أو لم يخطب؛ لأنها صلاة عيد فلم تشترط لها الخطبة كصلاة الأضحى" اهـ.
وقال الشيخ سعود الشريم -حفظه الله -(الشامل في فقه الخطيب والخطبة:1/12): "والذي يظهر لي-والله تعالى أعلم-أن للحسن البصري في هذه المسألة قولين :
الأول منهما: هو ما ذكره أهل العلم سابقاً، وثانيهما: أنه يقول بوجوب الخطبة، لما رواه ابن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الأعلى عن يونس عن الحسن قال: "الإمام إذا لم يخطب صلى أربعاً". مصنف ابن أبي شيبة (2/ 31) فيتضح من هذا: أن للحسن روايتين، ولكن أيَّتُهُما المتأخرة؟ العلم عند الله تعالى" اهـ. ورجَّح الإمام الشوكاني-رحمه الله-هذا القول في نيل الأوطار(2/331) فقال: "فالظاهر ما ذهب إليه الحسن البصري، وداود الظاهري، والجويني من أن الخطبة مندوبة فقط"اهـ.
وقد أجاب الشوكاني عن أدلة الجمهور بما يأتي:
1-أما فعله-صلى الله عليه وسلم-المستمر الذي واظب فيه على الخطبة، فقد قال عنه الشوكاني:" إن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب"اهـ.
2-وأما قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فقد قال عنه الشوكاني: "وهو مع كونه غير صالح للاستدلال به على الوجوب ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليه والخطبة ليست بصلاة". اهـ.
3-وأما استدلالهم بقوله تعالى: (فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ...)، وأن فعله-صلى الله عليه وسلم-للخطبة بيان للمجمل، وبيان المجمل الواجب واجب؛ فقد قال الشوكاني: "هو مردود بأن الواجب بالأمر هو السعي فقط، وقولهم بأن الذكر هو الخطبة فهو متعقب بأن المراد به الصلاة، وغاية الأمر أنه متردد بين الصلاة وبين الخطبة، وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة، والنزاع في وجوب الخطبة، فلا ينتهض هذا الدليل للوجوب".
وممن قال بالسنية من المعاصرين العلامة الألباني-رحمه الله-: حيث قال في (الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة 91 ـ 92): "قد ثبت ثبوتاً يفيد القطع أن النَّبي-صلى الله عليه وسلم-ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة التي شرعها الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إلى ذكر الله-عز وجل-والخطبة من ذكر الله إذا لم تكن هي المرادة بالذكر فالخطبة سنَّة لا فريضة. وأما كونها شرطاً من شروط الصلاة، فلا، فإنَّا لم نجدْ حرفاً من هذا في السُّنة المطهرة، بل لم نجد فيها قولاً يشتمل على الأمر بها الذي يستفاد منه الوجوب فضلاً عن الشرطية، وليس هناك إلا مجرد أفعال محكية عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أنه خطب وقال في خطبته كذا وقرأ كذا، وهذا غاية ما فيه أن تكون الخطبة قبل صلاة الجمعة سنة من السنن المؤكدة لا واجبة فضلاً عن أن تكون شرطاً للصلاة. والفعل الذي وقعت المداومة عليه لا يستفاد منه الوجوب؛ بل يستفاد منه أنَّه سَّنة من السنن المؤكدة، فالخطبة في الجمعة سُّنة من السُّنن المؤكدة، وشعار من شعائر الإسلام، لم تُتركْ منذ شُرِعتْ إلى موته-صلى الله عليه وسلم" اهـ.
ولقائل أن يستدل بقول الشيخ-رحمه الله-والخطبة من ذكر الله ...) فيقول: مادامت من ذكر الله؛ فقد أمر المولى -عز وجل-بالسعي إليها، والأمر يفيد الوجوب، وما كان السعي إليه واجباً فهو واجب؛ لأن السعي وسيلة إلى إدراكه وتحصيله، فإذا وجبت الوسيلة وجبت الغاية.
أدلتهم:
أن الجمعة تصح ممن لم يحضر الخطبة، ولو كانت شرطاً يجب الإتيان به؛ لم يصح إدراك الجمعة إلا بها. انظر الحاوي (3/44).
الترجيح: والراجح في هذه المسألة-والله أعلم-هو ما ذهب إليه الشوكاني في السيل الجرار(182)-والسيل الجرار متأخر عن نيل الأوطار-حيث قال:" أقول: قد ثبت ثبوتاً متواتراً يفيد القطع بأن النَّبي-صلى الله عليه وسلم-ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة قط، فالجمعة التي شرعها الله-سبحانه-هي صلاة الركعتين مع الخطبة قبلها، وقد أمر الله-سبحانه-في كتابه العزيز بالسعي إلى ذكر الله، والخطبة من ذكر الله؛ إذا لم تكن هي المرادة بالذكر، فالخطبة فريضة، وأما كونها شرطاً من شروط الجمعة فلا " اهـ.
فالدلالة على الوجوب صريحة في القرآن الكريم-كما تقدم-ومحافظته-صلى الله عليه وسلم-عليها هو تفسير لذلك الوجوب، وتأكيد له، وهذا القول هو الوسط بين القولين، والحق بين الفريقين، وأما القول بالسُّنية فهو بعيد مخالف لنص الآية، والقول بالشرطية يحتاج إلى دليل، وقد قال ابن الأمير الصنعاني (سبل السلام: 2/120)" ثم الأصل عدم الشرطية حتى يقوم الدليل" اهـ. ولا دليل على ذلك كما تقدم.
والقول بالشرطية قول بأن الصلاة لاتجزىء إلا بالخطبة، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة، ومالك، انظر المحلى (3/263). وقد ثبت ما يرده فعند النسائي (557)، وابن ماجة (1123) عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما -أن النَّبي-صلى الله عليه وسلم-قال: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فقد تمت صلاته". وقال الألباني: (صحيح) انظر صحيح الجامع حديث رقم 5994). قال الصنعاني-معلقاً على هذا الحديث-"وفي الحديث: دلالة على أن الجمعة تصح للاَّحق، وإن لم يدرك من الخطبة شيئاً" اهـ.
وكتبه أبومالك عدنان المقطري10 ربيع الأول 1431هـ
_____
المراجع: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن النسائي، سنن ابن ماجة، المغني لابن قدامة، المحلى لابن حزم، المجموع للنووي، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، نيل الأوطار والسيل الجرار وكلاهما للشوكاني، سبل السلام للصنعاني، الشرح الممتع للعثيمين، الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة الجامعة وصحيح الجامع للألباني، الشامل في فقه الخطيب لسعود الشريم، خطبة الجمعة وأحكامها الفقهية لعبد العزيز الحجيلان.
استدراك على: ما رواه مسلم(862) -المذكور في العدد السابق-عن جابر بن سمرة-رضي الله عنه-قال: " كان النبي-صلى الله عليه وسلم-يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن قال: إنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فلقد والله صليتُ معه أكثر من ألفي صلاة ".
وقال الشوكاني في نيل الأوطار(2/334) " ألفي صلاة " قال النووي: المراد الصلوات الخمس لا الجمعة. ولابد من هذا؛ لأن الجُمع التي صلاها-صلى الله عليه وسلم-من عند افتراض صلاة الجمعة إلى عند موته لا تبلغ ذلك المقدار، ولا نصفه" اهـ.
التعليقات