عناصر الخطبة
1/فضائل نبي الله يونس عليه السلام 2/وقفات مع قصة يونس عليه السلام 3/توبة قوم يونس 4/ دعاء يونس عليه السلام 5/دروس وعبر من قصة يونس عليه السلام.اقتباس
وليعلم المسلم أن الكربة مهما طالت فإن فرج الله قريب، وأن المؤمن يؤمن بأقدار الله خيرها وشرِّها، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيَبه، فعليه أن يتمسك بحبل الله المتين، وبنوره المبين.
الخطبة الأولى:
ذكَر الله -سبحانه وتعالى- جملةً من قصص رسله -عليهم السلام- مع أقوامهم، وكان منهم نبيُّ الله يونسُ -عليه السلام-، ذكره الله في سورتي النساءِ والأنعامِ مع جملة من رسله -عليهم السلام-، وذكر قصته مفصلة في غيرها من السور، وأفرد في القرآن الكريم سورة باسمه -عليه السلام-.
وكان من فضله -عليه السلام- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن مَتَّى"(متفق عليه)، وخصَّ يونس -عليه السلام- بالذكر لئلا يقع تنقُّص له في نفس من سمع قصته، فبالغ في ذِكْر فَضْله لسَدّ هذه الذريعة.
وقد ذكر الله حاله مع قومه، حين بعثه إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله -عز وجل- فكذَّبوه، وتمردوا، وبقوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال عليه أمرُهم، خرج من بين أظهرهم، ووعدهم حلولَ العذابِ بهم بعد ثالث، ولنا في سيرته وقفات:
أولاً: أن الله -عز وجل- أرسل يونس -عليه السلام- إلى قومه، وكان عددهم كما قال -عز وجل-: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)[الصَّافات: 147]. وهذا درس للدعاة والمصلحين، بأن الدعوة إلى الله يبارك الله -عز وجل- فيها في الجهد، والوقت، والمال، كما هو الحال مع رسل الله -عليهم السلام- وبالأخص نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين أرسله إلى الناس كافة، وبضده من يدعو إلى أديانٍ باطلة، فإن ثمرتها تذبل سريعًا، قال -سبحانه-: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)[الأنفَال: 36]، فيذهب المال ولا يحصل المقصود.
ثانيًا: أن يونس -عليه السلام- لمَّا لم يؤمن قومه به، ضاق صدره بهم ذرعًا، وخرج مغاضبًا من أجل ذلك، لا لأجل منافعَ دنيويةٍ لم يتحصل عليها، ولكن رأفة بهم من عذاب الله؛ لأن الرسل -عليهم السلام- بُعِثُوا لإخراج الناس من عبودية غير الله إلى عبادة الله وحده.
ولم يكن لهم -عليهم السلام- طمع في دنيا، أو استكثارًا في مال، فقد قال نوحٌ وهودٌ وصالحٌ ولوطٌ وشعيبٌ -عليه السلام- لأقوامهم: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الشُّعَرَاء: 127].
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- قال: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[سَبَإ: 47]. وهكذا بقية الرسل -عليهم السلام-، فهم أزهد الناس، وأعلم الناس بقدر الحياة الدنيا.
ثالثًا: لما خرج يونس -عليه السلام- أدرك قومُه قربَ نزولِ العذاب بعد ثلاث، كما وعدهم به -فهم يعلمون أن وعد الله حق، وأن عذابه إذا حل لن ينجو منه أحد- فقذف الله في قلوبهم التوبةَ والإنابة، وندموا على ما كان منهم، فلبسوا المسوح -وهو نسيج الشعر إظهارًا للتوبة-.
وفرَّقوا بين كلِّ بهيمةٍ وولدها، ثم أقبلوا على الله، وتضرعوا، وتمسكنوا، وبكى الرجال والنساء، وجأرت الدواب، وكانت ساعة عظيمة وعصيبة، فلما علم الله حالهم، وصِدْقَ أحوالهم، كشف الله عنهم ما كان سيحل بهم، كما قال -عز وجل-: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يُونس: 98]، وهذا من لطف الله ورأفته بهم، فهو الرحمن بعباده.
رابعًا: مما يدل على صدق نياتهم في إيمانهم بالله -عز وجل-، أنه لم يأت قوم آمنوا بأكملهم عبر دعوات الرسل -عليهم السلام- كقوم يونس -عليه السلام-، وقد جاء الحديث في الأنبياء -عليهم السلام- وأممهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "عُرضت علي الأمم، فأجد النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة والنبي يمر وحده"(رواه البخاري).
رابعًا: إن أقدار الله نافذة على خلقه، فيونس -عليه السلام- ومن معه لما ركب السفينة، ولجَّجتْ بهم واضطربت، وكادوا يغرقون، تشاوروا، واقترعوا، فوقعت القُرعة على يونسَ ثلاثَ مرات، قال -عز وجل-: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)[الصَّافات: 141]، فرمى يونسُ نفسَه في عرض البحر، فأرسل الله حوتًا يشق البحار، والتقم يونس -عليه السلام-.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "فأوحى الله إليه ألّا يكسر عظمًا، ولا ينهش لحمًا، فليس له برزق"، فبقي يونس -عليه السلام- في بطن الحوت لأجلٍ مقدر، ثم لفظه بعد شدةٍ أعقبها فرجٌ ليونس -عليه السلام-.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
دعا يونس -عليه السلام- ربَّه تفريجَ همِّه، وتنفيسَ كربِه، مع أن حالَه عصيب، وكربَه عظيم، فهو في ظلماتٍ بعضُها فوقَ بعض، (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ)[الأنبيَاء: 87]، وهي ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وكل ظلمة منها شديدة، وهو في حال كما وصفه الله (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)[القَلَم: 48]، أي: مملوءٌ غمًّا، إلا أن ذكر الله -عز وجل- هو المُنْجِى بإذن الله.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)؛ لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له"(رواه الترمذي).
ومعنى قوله -تعالى-: (فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)[الصَّافات: 143]، أي: قبل خروجه من قومه، وقيل: وهو في بطن الحوت -وكلا المعنيين صحيح-.
وكان من لطف الله -عز وجل- بيونسَ -عليه السلام- أنْ نبذه الحوتُ بالعراء، وأنبت عليه شجرة من يقطين، وهو شجرُ الدُّبَّاءِ، وكان -عليه السلام- ضعيفَ البدنِ كهيئة الفرخ الذي ليس عليه ريش، وقيل: كهيئة الصبي حين يولد، وفي إنبات الشجر هذا حكمة، وهو أن ورقه في غاية النعومة، وكثير، وظليل، ولا يقربه ذباب، ويُؤكَل ثمرُه من أول طلوعه إلى آخره نَيِّئًا ومطبوخًا، وبقشره، وبذوره.
وليعلم المسلم أن الكربة مهما طالت فإن فرج الله قريب، وأن المؤمن يؤمن بأقدار الله خيرها وشرِّها، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيَبه، فعليه أن يتمسك بحبل الله المتين، وبنوره المبين.
اللهم فرِّج هم المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات