عناصر الخطبة
1/ ضرورة استلهام الدروس والعبر من الحج 2/ خطب النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحج 3/ المبادئ التي رُسخت في خطبة الوداع 4/ سبب ضعف المسلمين 5/ تغيظ الكفار من مظهر الحجاهداف الخطبة
اقتباس
ما أحوج الأمة في أيام محنِها وشدائدها، وأيام ضعفها وضياعها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأمّلها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها تستلهم منها العبر ويتجدّد فيها العزم على الجهاد الحقّ، ويصحُ فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد، ما أحوجها إلى دروسٍ تستعيد فيها كرامتها وترد من يريد القضاء على كيانها، وإن في حجة نبيّكم محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- الوداعية التوديعيّة لعبرًا ومواعظ...
أما بعد:
أيها المسلمون: ها هم حجاج بيت الله يخطون خطواتهم على هذه الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله ثم بيقظة مسؤوليها، هذه الأرض التي تحكي تاريخ الإسلام المجيد، تاريخ نشأة هذا الدين في هذه البطاح، قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلد وتاريخ قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، دينًا ودنيا، علمًا وعملاً، فقهًا وخُلُقًا، أرض طيبة وجوّ روحاني، تزدحم فيه هذه المناظر والمشاهد حيةً نابضة، تختلط فيه مشاعر العبودية وأصوات التلبية والإقبالُ على الرب الرحيم.
ما أحوج الأمة في أيام محنِها وشدائدها، وأيام ضعفها وضياعها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأمّلها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها تستلهم منها العبر ويتجدّد فيها العزم على الجهاد الحقّ، ويصحُ فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد، ما أحوجها إلى دروسٍ تستعيد فيها كرامتها وترد من يريد القضاء على كيانها، وإن في حجة نبيّكم محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- الوداعية التوديعيّة لعبرًا ومواعظ، وإن في خطبها لدروسًا جوامع.
فلقد خطب -عليه الصلاة والسلام- خطبةً في موقف عرفة ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق، أرسى فيها قواعد الإسلام وهدم مبادئ الجاهلية، وعَظّمَ حُرمات المسلمين، خطب الناس وودعهم بعد أن استقر التشريع وكمل الدين وتمت النعمة ورضي الله هذا الإسلام دينًا للناس كلهم، لا يقبل من أحدٍ دينًا سوى عبادتِه، يقول -سبحانه وتعالى- في هذا اليوم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا) [المائدة: 3]، وقال -جلّ من قائل-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85].
ألقى نبيكم محمد –صلى الله عليه وسلم- في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعةً موجزة، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين، وأنبياء الله حين يبلغون رسالات الله ليسوا تجار كلام، وإنما كلامهم حقٌ وشفاءٌ لما في الصدور ودواءٌ لما في القلوب.
في حجة الوداع ثبّت النبي –صلى الله عليه وسلم- في نفوس المسلمين أصول الديانة الإسلامية وقواعد الشريعة، ونبّه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى، ولقد كانت عبارات توديعية بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها، استشهد الناس فيها على البلاغ، كان من خلال تبليغه كلمات يمتلئ حبًّا ونصحًا وإخلاصًا ورأفة بالناس، يقول الله -جلّ في علاه-: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 3].
لقد عانى وكابد من أجلِ إخراج الناس من الظلماتِ إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، حتى صنع منهم -بإذن ربه- أمةً جديدة ذات أهدافٍ واضحة ومبادئ سامية، هداهم من ضلال، وجمعهم بعد فرقة، وعلمهم بعد جهل. وهذه وقفاتٌ مع بعض هذه الأسس الإسلامية، والقواعد النبوية، والأصول المحمدية.
إن أول شيء أكد عليه في النهي عن أمر الجاهلية هو الشرك بالله؛ فلقد جاء بكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" شعار الإسلام وعَلَم الملة، كلمةٌ تخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ويثبت بها استحقاق الله وحده للعبادة، فالله هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق، وهو القاهر وما سواه مقهور، هذا هو دليل التوحيد وطريقه، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم: 40]، الأموات قد أفضوا إلى ما قدموا، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، يقول سبحانه: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر: 14].
ومن القضايا المثارة في كلام الرسول التأكيد بأن الناس متساوون في التكاليف حقوقًا وواجبات، لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسبٍ ولا تمايزَ في لونٍ، فالنزاعات العنصرية والنعَرات الوطنية ضرب من الإفك والدجل، ومن الواقع الرديء في عصرنا أن توصَف حضارة اليوم بحضارة العنصريات والقوميات، والشعوب الموصوفة بالتقدم تضمر في نفسها احتقارًا لأبناء القارات الأخرى، ولم تلفح المواثيق النظرية ولا التصريحات اللفظية، فإنك ترى هذا التمييز يتنفّس بقوةٍ من خلال المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويأتي نبينا محمدٌ لينبّه منذ مئات السنين على ضلال هذا المسلك، ويُعْلِنَ في ذلك المشهد العظيم بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضلٌ على عجمي إلا بالتقوى". وفي روايةٍ عند الطبراني عن العداء بن خالد قال: قعدت تحت منبر الرسول يوم حجة الوداع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إن الله يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، فليس لعربيٍ على عجميٍ فضل، ولا لعجميٍّ على عربي فضل، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، فضل إلا بالتقوى. يا معشر قريش: لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم، وتجيء الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئًا. أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم عبيّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناسُ رجلان: رجل تقي كريم على الله، وفاجرٌ شقيّ هيّنٌ على الله، والناس بنو آدم، وخلق اللهُ آدم من تراب". رواه الترمذي واللفظ له، وأبو داود وغيرهما.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها الناس: حِفْظُ النفوس وصيانةُ الدماء قضيةٌ خطيرة يُثيرها خطاب الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلى الأمة في كلماته التوديعية، ذلكم حكم القصاص في النفس والجِراحات، كان من حِكَمِه التشريعية زجر المجرمين عن العدوان. وقد عجزت الأمم المعاصرة بتقدّمها وتقنية وسائلها أن توقف سيل الجرائم وإزهاق النفوس، وزاد سوؤها وانكشفت سوأتها حين ألغت عقوبة الاقتصاص من المجرمين واكتفت بعقوباتٍ هزيلة؛ بزعم استصلاح المجرمين، وما زاد المجرمين إلا عتوًا واستكبارًا في الأرض، ولكنه في شرع محمد محسومٌ بالقصاصِ العادل، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).
إن في القصاص حياةً حين يكفّ من يهمّ بالجريمة عن الإجرام، وفي القصاص حياة حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لا يقف عند حدٍ، لا في القديم ولا في الحديث، ثأرٌ مثيرٌ للأحقاد العائلية والعصبيات القبلية، يتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل، لا تكفّ معه الدماء عن المسيل، وتأتي شريعة محمد في هذا الموقف العظيم وفي إلغاء حكم جاهلي هو مسألة الثأر، فاستمع إليه وهو يقول: "ألا كلّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماءُ الجاهليةِ موضوعة". الحديث.
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الخير والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
سبحان من أوجد الكائنات بقدرته فأتقن ما صنع، وسبحان من شرع الشرائع فأحكم ما شرع، وسبحان من إذا أعطى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، والحمد لله أهل الحمد ومستحقه، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد مصطفاه من رسله ومجتباه من خلقه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن ضعفَ حال المسلمينَ واضطراب أمورهم لم يكن إلا من عند أنفسهم، تسلُّط الأعداء لا يكونُ إلا بسبب الأعمال والإهمال، فيا حكام الإسلام، ويا ولاة أمور المسلمين: اتقوا الله فيما وُلّيتم، وأقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، ارفعوا راية الكتاب والسنّة، اتقوا الله في توجيه الرعية، وجِّهوهم إلى ما فيه ترسيخ الإيمان وحب الإسلام.
عباد الله: يقفُ الرسول في خطبة الوداع، ويُوقف أمته على أمرٍ حاسم وموقفٍ جازم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنتي، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبُدَهُ المصلون، ولكن في التحريشِ بينهم".
إنّه تحذيرٌ مبكّر من الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، من فناءٍ ذريع، إذا هي استسلمت للخلاف واسترسلت في الغفلةِ عن سنن الله والجهل بما يحيكه الشيطان وإخوان الشيطان من مؤامرات، إنها وصايا أودعها النبي ضمائر الناس.
وإذا كان الإسلام في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- قد دفن النعرات الجاهلية والعصبيات الدموية، والشيطانُ قد يئس أن يُعْبَد في ذلك العهد، لكننا نخشى تجدّد آماله في هذه العصور المتأخرة، تتجدّد آماله في الفرقة والتمزيق، فالعالم الإسلامي اليوم تتوزّعه عشرات القوميات، وتمشي جماهيره تحت عشرات الرايات، وهي قومياتٌ ذات توجهاتٍ هدامة، ما جلبت لأهلها إلا الذل والصغار والفرقة والتمزق.
عباد الله: ما أحوج الأمة إلى مثل هذه الدروس التي يعرضها لنا رسوله –صلى الله عليه وسلم-، أما تتكرر الروح التي سادت حجة الوداع لكي تتشبع هذه الكثرة العددية بين المسلمين اليوم بكثافةٍ نوعية وطاقاتٍ روحية؟! أما يحج المسلمون ليشهدوا منافع لهم تمحو فرقتهم، وتسوي صفوفهم، وتردُّ مهابتهم؟!
عباد الله: إن الحج العظيم في معناه الكبير يكون فيه الشيطان وأعوانه أصغر وأحقر، فيغيظ أعداء الله، ويرجعون خاسئين ناكصين على أعقابهم مذمومين مدحورين، يغيظ الكفار حين يرون جموع هذه الأمة وقد استسلمت لربها وأطاعت نبيها واجتمعت كلمتها. فيا أيها الناس: اعبدوا ربكم كما أوصى نبيكم، وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنّة ربكم.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
التعليقات