اقتباس
ذلك ما نراه مصوراً أبدع تصوير في القرآن الكريم الذي نتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وهو بعينه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شخصية كريمة كاملة ودعوة واضحة نيرة وأسلوب مناسب حكيم. اتجهت هذه المجموعة الطيبة في سبيلها المرسومة نحو هدفها المرموق فبلغت الغاية في أقرب زمان. ثم جاء أصحابه -صلى الله عليه وسلم- من بعده فترسموا طريقه واقتدوا بهديه...
من مُعاد الكلام أن نتحدث عما لاقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الدعوة الإسلامية من ضروب العناد والمعارضة التي لم تزده إلا تمسكاً بالحق؛ وحرصاً على تبليغ الرسالة، فذلك أمر لا يجهله مسلم له إلمام بتاريخ دينه. ولا يمكن لمخلوق أن يجحد تلك النتيجة الباهرة من بسط سلطان الإسلام على جزيرة العرب أولاً ثم على مشارق الأرض ومغاربها ثانياً، فقد سلم التاريخ بذلك في غير تردد أو محاباة.
وليس يعنيني في هذه الكلمة التوسع في كلا الأمرين خوف الإطالة وفوت المقصود وإنما الذي يهمني هو لفت الأنظار إلى أن ذلك النجاح العظيم الذي لا زم الدعوة الإسلامية في عهدها الأول ولم يكن وليد راحة أو عوامل غير معقولة، بل كانت له أسباب وأسرار سايرت الدعوة حتى بلغت بها الغاية المنشودة كسنة من سنن الكون التي لا تغيير لها ولا تحويل. وبذلك يمكن أن نضع أيدينا على كثير من العلل التي أصابت الدعوة الإسلامية في عصرها الحاضر حتى كادت تؤدي بها إلى الفشل على كثرة الدعاة وتهيؤ الوسائل، واستعداد الجماهير.
كل دعوة تقوم على ثلاثة أركان:
• حقيقة الفكرة.
• شخصية الداعي.
• أسلوب الدعوة.
والدين كنظام إصلاحي لم يخرج عن أنه فكرة تعرض على الجماهير على لسان إنسان، له صفته وتاريخه بين قومه بأسلوب مناسب لا يتعارض مع الغاية المطلوبة. وإنك إذا استعرضت تواريخ الرسل عليهم السلام مع أممهم لم تجد غير هذا. فقد استخلص الله تعالى من الأمم هداة بلغوا الذروة من الأخلاق دعوا إليه وإلى الإصلاح العام بكل الطرق الممكنة التي تحول بين الناس وبين الشر، وهي في الوقت نفسه جذابة للقلوب في غير خداع أو تلبيس؛ بعيدة عن الجمود والتنفير وقطع السبيل على طلاب الهداية من بني الإنسان.
ذلك ما نراه مصوراً أبدع تصوير في القرآن الكريم الذي نتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وهو بعينه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شخصية كريمة كاملة ودعوة واضحة نيرة وأسلوب مناسب حكيم. اتجهت هذه المجموعة الطيبة في سبيلها المرسومة نحو هدفها المرموق فبلغت الغاية في أقرب زمان. ثم جاء أصحابه -صلى الله عليه وسلم- من بعده فترسموا طريقه واقتدوا بهديه وبعدوا بأنفسهم عن المطاعن، فزادوا في البناء وأوسعوا في الدائرة، فكان ما بهر العالم وأنطق التاريخ. إلى أن جاء دورنا فانظر ماذا فعلنا؟
لم نهتم بإصلاح أشخاصنا كدعاة أولاً، ولم نحرر فكرتنا حتى اختلفنا في مظهر عقيدتنا ثانياً، ولم نستعمل الحكمة في أساليب دعوتنا ثالثاً. ولبيان ذلك أقول في إيجاز: إن كثيراً من دعاتناً لا يهتمون بغير التأثير اللفظي على أسماع الناس وهم بذلك يعتقدون أن في هذا الكفاية؛ مع أن للجماهير أعيناً تكشف ما ينحسر عن جوانب أولئك الدعاة، فترتد صارفة للقلوب عن العمل بما يقولون.
ثم إننا جميعاً ندعو إلى الإخلاص والتحابب والعمل بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهذه أمور أقول في صراحة وفي أسف أنها تكاد تكون مفقودة بين كثير من دعاتنا. وآية ذلك ما يكون في المجالس والمجلات الدينية والمؤلفات العلمية حتى أن العقيدة - على بساطتها - تثير بيننا حرباً عواناً نلبس الأمور على العامة فلا يكادون يستبينون الحق أو يهتدون إليه سبيلاً. فكيف نتقدم إلى الغاية والناس لا يفهمون منا المراد؟! على أننا أيضاً في حاجة إلى حكمة في عرض مسائل الإسلام على الجماهير بحيث نكون أطباء نعالج كل أمر بما يناسبه، ولا نغفل عن الوسط والزمان وحاجة الأمة في تطورها مع حسن الخلق وقوة الحجة وسهولة الإقناع.
لا شك أننا لو راعينا ذلك وعملنا به لتحاشينا كل تلك العلل وبعدنا عن كل العقبات، وبذلك ننجح ونتقدم وبني على ما أسس الألوان فيعود للإسلام بحده الغابر وعصره الزاهر.
مجلة الهدي النبوي - المجلد السادس - العدد (3-4) - صفر سنة 1361
التعليقات