اقتباس
أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها ويجدوا في العبادة طعماً في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا في الدعاء في اليوم كله وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات ليجتهدوا في جمعها وأخفى الأجل وقيام الساعة ليجد الناس في العمل حذراً منها.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فإنَّ الله سبحانه يخلق خلقه ويختار منهم ويصطفي ما يشاء، فهو المتفرد بالخلق والاختيار كما قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص من الآية:68].
وإذا تأملت الخلق وجدت هذه السنة الربانية ظاهرة فيه، فهو سبحانه قد اختار من الملائكة الروح وهو جبريل، كما فضّل الأنبياء على البشر وفضَّل المرسلين على الأنبياء وفضَّل أولي العزم على المرسلين واصطفى من أولي العزم الخليلين، وفضل من الأماكن مهبط الوحي، وهكذا فهي سنة جارية له سبحانه وتعالى يجتبي فيها من مخلوقاته ما يشاء.
وكان ممَّا فضَّله سبحانه من الأزمان أزماناً اختارها، فمن الأيام يوم النحر وعرفة وغيرها، وفضَّل عز وجل من الليالي ليلة عظيمة هي ليلة القدر اختصها الله عز وجل بفضائل وخصائص عن سائر الليالي من ليالي العشر وليالي رمضان وليالي السنة، فبليلة القدر فُضلت ليالي العشر الأواخر من رمضان على ليالي عشر ذي الحجة، كما فضلت أيام عشر ذي الحجة على أيام العشر الأواخر من رمضان بيوم الحج الأكبر ويوم عرفة ويوم التروية. (زاد المعاد: 1/ 43-59).
وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن أيهما أفضل ليلة القدر أم ليلة الإسراء، فكان فحوى جوابه رحمه الله:
"أنه إن كان المراد بليلة الإسراء الليلة التي أسري فيها بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ونظائرها من كل عام وقيام تلك الليلة، فهذا فاسد بالاطراد من دين الإسلام، إذا لم يكن الصحابة والتابعون يقصدون تلك الليلة بالتخصيص بالعبادة، هذا وكيف إذا قيل إنَّها لا تعرف عينها، ولم يقم دليل معلوم على شهرها ولا على عينها، بل النقول في ذلك مختلفة منقطعة ليس فيها ما يقطع به، بخلاف ليلة القدر التي ورد تحديد الوقت الذي تكون فيه. أمَّا إن أريد الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يحصل له في غيرها من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة" (زاد المعاد: 1/57).
فالجواب هنا: أنَّ ليلة الإسراء أفضل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة، فحظ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حظه من ليلة القدر.
وحظّ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم ليلة المعراج، وإن كان لهم فيها أعظم حظ ولكن الفضل والشرف والرتبة العليا إنما حصلت فيها لمن أسري به -صلى الله عليه وسلم-" اهـ. (الفتاوى: 25/286).
وقال ابن قاسم -رحمه الله- في حاشيته على الروض عند قول البهوتي -رحمه الله-: "وهي أفضل الليالي" قال: "إجماعاً ذكره الخطابي وغيره لقوله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 3]. (حاشية ابن قاسم: 3/468).
وبهذا نعلم أنَّ كلامنا في هذا المقام هو كلام عن أفضل ليالي السنة لما اختص الله ليلة القدر من الفضائل ممَّا سيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.
سبب تسميتها:
سميت ليلة القدر بذلك لأمور منها: أنّ الله يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة المقبلة، فهي بمعنى التقدير، إذ إنَّ تقدير الله لما يجري على الخلائق التقدير السنوي يكون في ليلة القدر، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان:3-4].
ويسبقها من كتابة الله لأقدار الخلق كتابتان، الأولى: قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة في اللوح المحفوظ، وهذه الكتابة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، قال تعالى: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39]؛ أي: أصله الذي هو مرجع كلّ ما يكتب.
الكتابة الثانية: عمرية فيكتب على الجنين ما يعمله ومآله وما رزقه وهو في بطن أمه كما ثبت في الحديث الصحيح حديث ابن مسعود المتفق عليه: «إنّ أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة.... ثمَّ يرسل إليه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي هو أم سعيد» (الشرح الممتع: 6/495).
وسميت ليلة القدر بذلك؛ لعظمتها وقدرها وشرفها من قولهم: لفلان قَدْر، أي منزلة.
قال الزهري وغيره: "وسُميت بذلك لأنَّ الطاعات تكون فيها ذات قدر وثواب جزيل". وقال أبوبكر الوراق: "سُميت ليلة القدر بذلك لأنّ من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة إذا أحياها ذا قدر".
وسميت بذلك؛ لأنّه أنزل فيها كتاب ذا قدر على رسول ذي قدر على أمة ذات قدر.
وسميت بذلك؛ لأنَّه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر وخطر، وسميت بذلك لأنّ الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة.
قال سهل: "سميت بذلك؛ لأن الله تعالى قدَّر فيها الرحمة على المؤمنين، وقال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة كقوله تعالى (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق: 7] أي: ضُيّق" (القرطبي:20/121).
1- أنها ليلة أنزل فيها القرآن، فقد قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة من الآية:185]، وقال سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1].
2- فيها يفرق كل أمر حكيم، كما جاء بذلك التنزيل، أي: أنه يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها.
3- أنَّ من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه» (متفق عليه).
قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: قوله: «إيماناً» أي: تصديقاً بوعد الله بالثواب، «واحتساباً» أي طلباً للأجر لقصد آخر من رياء أو نحوه" اهـ. (فتح الباري: 4/251).
4- أنه أنزل في فضل سورة ألا وهي سورة القدر، وقد رُوي في سبب نزولها عدَّة روايات، منها ما رواه مالك أنَّه بلغه أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُرِي أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنَّه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر.
ومنها ما رواه ابن جرير بسنده عن مجاهد قال: "كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي. ففعل ذلك ألف شهر فأنزل الله هذه الآية ليلة القدر خير من ألف شهر قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل". اهـ. (الطبري: 15/260).
ومنها ما نسبه ابن كثير إلى ابن أبي حاتم بسنده إلى علي بن عروة قال: "ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاماً لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، قال: فعجب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فأتاه جبريل فقال: "يا محمَّد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فقد أنزل الله خيراً من ذلك، فقرأ عليه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 1- 3]، هذا أفضل ممَّا عجبت أنت وأمتك. قال: فسَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس معه". اهـ. (تفسير ابن كثير : 5/254).
وممَّا ينبغي التنبيه عليه أنَّه قد ورد عند تفسير هذه السورة ما قيل: إنَّ رجلاً قام للحسن بن علي -رضي الله عنه- بعد ما بايع معاوية فقال: "سوَّدت وجوه المؤمنين -أو يا مسوِّد وجود المؤمنين-، فقال: لا تؤنبني رحمك الله؛ فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أُرِي بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر:1]، يا محمَّد، يعني نهر في الجنة، ونزلت (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 1- 3] يملكها بعدك بنو أمية يا محمَّد". قال القاسم -أحد رواة الحديث-: "فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص".
هذه الرواية رواية منكرة كما ذكر ابن كثير، ونقل عن شيخه الإمام الحجَّة الحافظ أبو الحجاج المزي قوله: "هو حديث منكر" وذكر له طرقاً كلها معلولة وفيها اضطراب، كما ذكر -رحمه الله- أنَّ ملك بني أمية أزيد من ألف شهر وليس كما قال القاسم. وذكر غير ذلك في تضعيف الحديث، والله أعلم" (تفسير ابن كثير).
وأيّاً كان سبب النزول فلا شكَّ في أنَّ نزول القرآن بذكر شيء على سبيل تعظيم أمره دليل على ما تميّز به عن غيره ممَّا هو من جنسه. كما أنَّه ورد في هذه السورة فضائل لهذه الليلة وفي تعظيم شأنها. فقد ذكر سبحانه إنزال القرآن في هذه الليلة العظيمة ثم استفهم على طريقة التفخيم والتعظيم لهذه الليلة، فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي: وما أشعرك وما أعلمك ما ليلة القدر هذه؟! وهذا أسلوب قرآني فريد في إيصال عظمة المقصود، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة، منها قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) [المدثر:27]، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ) [الانفطار:17-18]، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) [التكاثر:10-11].
ثمَّ ذكر الله سبحانه جملة من الفضائل لهذه السورة:
5- أنّها خير من ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر، وهو اختيار ابن جرير وابن كثير، قال الطبري -رحمه الله-: "وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزيل قول من قال: "عمل في ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر"، وأمَّا الأقوال الأخر فدعاوى باطلة لا أدلة عليها من خبر ولا عقل ولا هي موجودة في التنزيل". (الطبري: 15/260).
6- تنزيل الملائكة والروح فيها. قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة؛ لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزيل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم تعظيماً له، وأمَّا الروح فقد قيل المراد به ههنا جبريل عليه السلام، فيكون من باب عطف الخاص على العام، وقيل: هم ضرب من الملائكة" (ابن كثير: 8/255).
7- أنها سلام، قال تعالى: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 5] قال مجاهد: "هي ساعة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل أذى" (ابن كثير).
وقال الشعبي: "تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد حتى يطلع الفجر " (ابن كثير).
هذا ممَّا ورد في فضائل هذه الليلة في هذه السورة، ومن فضائلها:
8- أنَّها ليلة مباركة، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) [الدخان:3] قال القاسمي -رحمه الله-: "والبركة واليمن لا ريب أنها كانت أبرك ليلة وأيمنها على العالمين بتنزيل ما فيه الحكمة والهدى، والهداية من الضلال والردى، قال القاشاني: ووصفها بالمباركة لظهور الرحمة والبركة والهداية والعدالة في العالم بسببها وازدياد رتبته -صلى الله عليه وسلم- وكماله بها" (محاسن التأويل: 3/361).
9- أنها خاصة بالأمة كما نقل ذلك جمع من أهل المذاهب (حاشية ابن قاسم: 3/469)؛ إذ هو قول الجمهور؛ لما روي مالك أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى ليلة القدر لمَّا تقاصر أعمار أمته، ومن العلماء من يرى أنَّها كانت في الأمم الماضية كذلك، والله أعلم.
10- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف التماساً لهذه الليلة؛ لما في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري قال: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول في رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها ناحية القبة ثم أطلع رأسه فكلَّم الناس فدنوا منه فقال: «إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم أعتكف العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر فمن أحبَّ منكم أن يعتكف فليعتكف».
لقد أخفى الله سبحانه وقت هذه الليلة لحكمة عظيمة، قال ابن قدامة -رحمه الله-:
"قال بعض أهل العلم: أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها، ويجدّوا في العبادة طعماً في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا في الدعاء في اليوم كله، وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات ليجتهدوا في جمعها وأخفى الأجل وقيام الساعة ليجد الناس في العمل حذراً منها".
فهذه الليلة باقية لم ترفع، قال ابن عثيمين: "الصحيح بلا شك أنَّها باقية وما ورد في الحديث: «أنَّها رُفعت»، فالمراد: رفع علم عينها في تلك السنة؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رآها ثم خرج ليخبر بها أصحابه فتلاحى رجلان فرفعت هكذا جاء الحديث" (الشرح الممتع: 6/491).
وهي في رمضان؛ لقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] فالقرآن أنزل في شهر رمضان، وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، فإذا ضممت هذه الآية إلى تلك تعين أن تكون ليلة القدر في رمضان؛ لأنَّها لو كانت في غير رمضان ما صحَّ أن يُقال "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" (الشرح الممتع).
وأمَّا وقتها فنقل ما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله-، قال: "ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، هكذا صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «هي في العشر الأواخر من رمضان» وتكون في الوتر منها، لكن الوتر باعتبار الماضي، فتطلب ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين وليلة تسع وعشرين، ويكون باعتبار ما بقي، كما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: «التاسعة تبقى، السابعة تبقى، الخامسة تبقى، الثالثة تبقى»، فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الأشفاع، وتكون الاثنتين وعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسَّره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح. وهكذا أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشهر.
وإذا كان الشهر تسعاً وعشرين، كان التاريخ بالباقي كالتاريخ الماضي، وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحرَّاها المؤمن في العشر الأواخر جميعه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تحروها في العشر الأواخر»، وتكون في السبع الأواخر أكثر، وأكثر ما تكون في ليلة سبع وعشرين، كما كان أبي بن كعب يحلف أنَّها ليلة سبع وعشرين". اهـ. (الفتاوى: 25/284).
وهذه الليلة العظيمة لها علامات تُعرف بها:
منها: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-: أخبر «أنَّ من علاماتها أنَّ الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها».
ومنها: ما ثبت من حديث ابن عباس بسند صحيح عند ابن خزيمة والطيالسي أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة».
ومنها ما ثبت عند الطبراني بسند حسن من حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليلة القدر بلجة لا حارة ولا باردة ولا يرمى فيها بنجم».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فهذه العلامة التي رواها أبو بكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشهر العلامات في الحديث، وقد روي في علاماتها "أنّها ليلة بلجة منيرة"، وهي ساكنة لا قوية البرد ولا قوية الحر، وقد يكشفها الله لبعض النّاس في المنام أو اليقظة فيرى أنوارها أو يرى من يقول له: هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبيّن به الأمر، والله تعالى أعلم" (الفتاوى).
ويحصل للإنسان أجرها إذا قامها، وإن لم يعلم بها على أصح قولي أهل العلم، قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "وأما قول بعض العلماء: أنّه لا ينال أجرها إلا من شعر بها، فقول ضعيف جداً؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً»، ولم يقل: عالماً بها، ولو كان العلم بها شرطاً في حصول الثواب لبيَّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-" (الشرح الممتع : 6/498).
ويُسنّ أن يكثر فيها من الدعاء، وأن يدعو فيها بقوله «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» لما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيّ ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟" قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحبّ العفو فاعف عني» (قال الترمذي: "هذا حديث صحيح").
وهنا مسألة نبه إليها الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- وهو تخصيص ليلة القدر بعمرة، فقال: "ونقول تخصيص تلك الليلة بدعة؛ لأنّه تخصيص لعبادة في زمن لم يخصصه الشارع، والذي يخصص في ليلة القدر القيام الذي قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه»، ولم يقل: من اعتمر، بينما قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة». فتخصيص العمرة بليلة القدر أو تخصيص ليلة القدر بعمرة هذا من البدع، وانظر كيف يزين الشيطان للإنسان العمل حتى يستحسن البدعة!" (الشرح الممتع).
التعليقات