عناصر الخطبة
1/ طلب المعاش والتكسب 2/ التحذير من خيانة الأمانة في الوظيفة 3/ صور من خيانة الأمانة في الوظيفة 4/ كارثة جدة ومحاسبة المفسديناهداف الخطبة
اقتباس
ألَا فلْيَتَّقِ الله تعالى ذلك الموظف أيَّاً كان مكانه، ليتق الله تعالى في عمله الذي اؤتمن عليه، وليتذكر ذلك المــُخِلّ بأداء الأمانة من إهمال لعمله أن ذلك الإخلال والتهاون قد يؤثر في طِيب مصدر رزقه... وليعلم أن مصدر رزقه إذا تلوث بحصول شبهة، أو مطاوعة شهوة، فإن ذلك يؤثر في طيب مطعمه ومشربه ولباسه، كما يؤثر في قَبول دعائه، ونزع البركة أو قلتها في وقته وذريته ..
معاشر المسلمين: لما كان طلب المعاش والتكسب مما فطر الله الناس عليه، بل وحثهم عليه، وهيأ لهم أسباب ذلك، كما قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة:10]، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك:15]، (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى) [طه:54]، (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة:275]، (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء:39].
معاشر المسلمين: لما كان الأمر كذلك؛ قرر أهل العلم أن طلب العيش، والاستغناء عن أيدي الناس، بنيَّةٍ صالحة، نوع من التعبد لله تعالى؛ لأن العمل يكون عبادة بنيَّة صاحبه؛ فطلب الرزق من مصادره الشرعية يؤجر عليه صاحبه في الآخرة إذا سلم من المحاذير الشرعية، إلا أن المحذور منه أن يتلوث طريق التكسب بما لا يرضي الله تعالى من غش في معاملة، أو ما يتبع ذلك من الدخن والخلل الحسي والمعنوي.
معاشر المسلمين: ويزيد الإثم والحرج إذا كان في ذلك مضرة متعدية، كمن خان من ائتمنه، أو استغل نفوذه فعطل مصلحة مسلم أو مسلمين؛ لتحقيق مصلحة شخصية له، أو أخر مصالح مسلمين من باب الإهمال والفوضى؛ فهذا وأمثاله من الأمور التي نهى عنها الشرع، وحذر منها، كما قال: "لا ضرر ولا ضرار"، وقال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره.
معاشر المسلمين، ومن ضمن طرق التكسب التي تهاون بها بعض الناس ما يتعلق بالدوام الوظيفي الحكومي، ويلحق به ويقاس عليه من وكل إليه عمل يتقاضى عليه أجرا.
معاشر المسلمين: وعودا على بدء يقال: وأما فيما يتعلق بمسألة الدوام الوظيفي فالملاحظ أن بعض الناس يتهاون بأمر الدوام حضورا أو انصرافا وأداء، فلا يحضر إلا متأخرا، أو ينصرف مبكرا، أو يتأخر في إنجاز العمل الموكول إليه، وقد يترتب على تأخره في إنجاز معاملات الناس مضرة تلحق بهم من تعطيل مصالح، أو إضاعة أوقات، وهذا من الجناية والحرج العظيم.
معاشر المسلمين: ولعل مما جرأه على التهاون في الأداء الوظيفي، لعل مما جرأه على ذلك قلة الرقيب، أو ضعف الرقابة، أو محاكاة بعض الموظفين العاملين معه؛ أولئك الموظفون الذين لا يرقبون أمانة، ولا يبالون بإهمال.
معاشر المسلمين: إن التهاون بأمر الدوام الوظيفي وتأخير العمل من ضعف الديانة، وقلة الورع، وإلا فكيف يرضى لنفسه ذلك الإهمال والتفريط؟ أين هو من قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا؟!) [النساء:58]، وأين هو من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ؟!) [النساء:59]، وأين هو من قول النبي: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"؟.
وتأملوا -معاشر المسلمين- في هذا الحديث الشريف الذي يأمر فيه النبي بأداء الأمانة إلى صاحبها، وعدم خيانة من خانك، وهذا يشمل أداء الأمانة إلى صاحبها ولو كان كافرا، فكيف إذا كان صاحبها مسلما، وتلك الأمانة تتعلق بمصالح المسلمين؟!.
ألا فليتق الله تعالى ذلك الموظف أيا كان مكانه، ليتق الله تعالى في عمله الذي اؤتمن عليه، وليتذكر ذلك المخل بأداء الأمانة من إهمال لعمله أن ذلك الإخلال والتهاون قد يؤثر في طيب مصدر رزقه، فذلك المرتب الذي يتقاضاه على وظيفته منه يأكل ومنه يشرب ومنه يلبس، فليتق الله تعالى في نفسه، وليعلم أن مصدر رزقه إذا تلوث بحصول شبهة، أو مطاوعة شهوة، فإن ذلك يؤثر في طيب مطعمه ومشربه ولباسه، كما يؤثر في قبول دعائه ونزع البركة أو قلتها في وقته وذريته، كما صح في الحديث عنه في ذلك الرجل الذي "يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام. فأنَّى يُستجاب له؟!".
معاشر المسلمين: أرأيتم ذلك الموظف المتهاون المهمل لأداء عمله كيف يكون حاله لو نقص من مرتبه ريـال أو ريالان أو أكثر؟ ألا يطالب بها؟! ألا يلح في استرجاعها؟! إذن، فكيف لو تأخر صرف مرتبه ليوم أو يومين؟! ألا يغضب؟! ألا يذم من أخره؟! فيا عجبا من هذا التناقض! بل لو كان لهذا الموظف عمل آخر خاص به كتجارة مثلا، وكان عنده عامل أو عمال وتأخر بعضهم عن أداء عمله أو تكاسل، أترى ذلك الموظف سيتغاضى عنهم؟! كلا، بل سيرفع لسانه عليهم، وربما حسم من مرتباتهم شيئا، أو ضاعف عليهم العمل تنكيلا لتأخرهم وتكاسلهم. فيا عجبا من هذا التناقض أيضا!.
يتأخر هذا الموظف عن أداء عمله الحكومي، ويسخط إذا تأخر مرتبه، ويعاتب عماله الذين تأخروا في أداء عمله المتعلق به، ألا يكون هذا ممن يهتم بمصلحته على حساب مصالح الآخرين؟ لماذا لا يجعل نفسه في وظيفته كأولئك العمال عنده؛ فيحرص على أداء عمله الحكومي كما يحرص على أداء عمله الشخصي؟! لماذا يغضب ويتسخط إذا تأخر مرتبه، أو حسم عليه شيء منه، بينما تراه يسارع إلى معاقبة من تأخر عن عمله الشخصي؟! فاللهَ اللهَ بالحرص على مصالح الآخرين.
الخطبة الثانية:
معاشر المسلمين: وإن من الإخلال بالعمل الوظيفي أن يكون الموظف في موقع مسؤولية بحسب مرتبته وطبيعة عمله؛ فلا يؤدي الذي اؤتمن أمانته على الوجه الذي تبرأ به الذمة؛ فيرى إهمالا من بعض موظفيه فيغض الطرف عنهم وعن إهمالهم؛ بسبب رابطة قبلية أو إقليمية، ويقدم موظفا لا يستحق التقديم على موظف آخر هو أحق بالمرتبة وأهلها، ومع ذلك قدم من يستحق التأخير، وأخر من يستحق التقديم؛ بسبب رابطة قرابة أو جوار.
وليس هذا -معاشر المسلمين- خاصا بالموظف فحسب؛ بل يشمل كل من اؤتمن على عمل من أعمال المسلمين، فمثلا مدير المدرسة يجب أن يكون أمينا في إدارته على المعلمين والطلاب، فلا يضر مدرسا على حساب آخر بحسب علاقة شخصية، وكذا لا يقدم طالبا على آخر بدون حق شرعي، وكذا المدرس لا يحق له الإضرار بطالب أو طلاب على حساب آخرين لمصلحة شخصية.
معاشر المسلمين: وهذه قاعدة مطردة في كل من ولي عملا من الأعمال، حتى ولو كان في إدارته أو تحت مسؤوليته أحد من غير المسلمين، فيحرم مضارته وظلمه إذا كان مؤديا لعمله؛ لأن ذلك من الخيانة لأمانة المسؤولية التي حمل إياها، ولا يشفع له أن يكون الموظف غير مسلم أن يظلمه ويضاره، (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [الأعراف:85]، (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام:152]، (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8]، وقال: "واتق دعوة المظلوم ولو كان مشركا؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين".
معاشر المسلمين، فإذا كان هذا في جزاء من ظلم مشركا، فكيف بمن خان أمانته وظلم مسلما أو مسلمين فحرم قوما من حقوقهم، وأخر حقوق آخرين، وأهمل حفظ أمانة وُكِّل بها بحكم موقعه الوظيفي؟!.
معاشر المسلمين: وإذا خان الموظف أمانته فلا تسأل عن الفساد والإفساد الذي يحصل في المجتمع. قال: "إياكم والخيانة! فإنها بئست البطانة".
معاشر المسلمين: ويزيد ضرر الخيانة وعظيم مصابها إذا كانت متعلقة بمصالح المسلمين وحياتهم ومعاشهم، ومن الشواهد التي هي حدث الساعة اليوم ما كان من شأن كارثة سيول جدة، فكم ترملت من امرأة، وكم تيتم من طفل، وكم فجع من أب، وكم تلف من ممتلكات!.
ألا فليتق الله من ولي أمرا من أمور المسلمين، وليعلم أنه في خيانته عاص لله، ثم عاص لولي أمره، ثم غاش في عمله؛ وكل ضرر يحصل بسببه فإنه يحمل تبعته، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- عن مثل هؤلاء الموظفين الذين ضيعوا الأمانة: "فإن هؤلاء يُفسدون مصالح الأمة، والضرر بهم عام لا يمكن الاحتراز عنه، فعليه -أي: فعلى ولي الأمر- أن لا يهمل أمرهم، وأن ينكل بهم أمثالهم، ولا يدفع عنهم عقوبته، فإن البلية بهم عظيمة والمضرة بهم شاملة" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
اللهم من تولى أمرا من أمور المسلمين وأراد خيانتهم وضررهم على حساب مصلحته نسألك اللهم أن تعين ولي أمر المسلمين على ردعه وردع أمثاله، اللهم اكف المسلمين شره، واكشف أمره ومن أعانه وستر عليه، وأبدل المسلمين بخير منه.
اللهم وفق ولي أمرنا للقضاء على من أراد الإفساد ببلدنا، اللهم ارزقه البطانة الصالحة الناصحة، اللهم جنبه بطانة السوء، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم بارك في ولي عهده، وألبسه لباس الصحة والعافية، اللهم اجعلهم مباركين في أموالهم وأعمالهم وجميع شئونهم...
التعليقات