عناصر الخطبة
1/ حقيقة خلق التغافل2/ التغاضي في الحياة الزوجية يديمها 3/ بين الغفلة والتغافل 4/ نماذج من تغافل أهل الصلاح 5/ من أقوال الحكماءاهداف الخطبة
اقتباس
أدب التغافل هو من أدب السادة، أما السُّوقة العوام فلا يعرفون مثل هذه الآداب، ولذلك تراهم لدنوِّ همتهم وخسة أطباعهم يحصون الصغيرة، ويجعلون من الحبة قبة، ومن القبة مزاراً، وهؤلاء وإن أظهروا في الإحصاء على الآخرين فنون متنوعة من ضروب الذكاء والخداع، ولكنه ذكاءٌ أشبه بإمارات أهل الحُمُق الذين تستفزهم الصغائر عند غيرهم، وأمثال هؤلاء لا يكونون...
الخطبة الأولى :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أما بعد:
عبادَ الله: خلقُ التغافل من أحسن الأخلاق, وبهذا الخلق الكريم النبيل تبقى العلاقات وتنمو المحبات وتزدهر، والتغافل هو: "تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور"، فالمتغافل يعلم عن هذا الخطأ ويستطيع معاقبة المخطئ ولكنه يتغافل عن ذلك ليبقيَ حبل المودة.
قال الإمام أحمد بن حنبل عن هذا الخلق العظيم: "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل". وقال عنه سيد التابعين الحسن البصري: "ما زال التغافل من فعل الكرام". وقال ابن المبارك: المؤمن يطلبُ المعاذير، والمنافق يطلب الزلات.
عباد الله: التغافل الذي نقصده أن يتغافل ألا يدقق الإنسان في الحقوق الشخصية، وليس أن نتغافل عن التقصير في حقوق الله، من صلوات أو صيام أو حجاب، فهذا لا يجوز فيه التغافل، ويجب الأمر بالمعروف برفق والنهي عن المنكر برفق، ونتذكر: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". ومع الأسف إن الكثيرين يتغافلون في حقوق الله ولا يتغافلون عن حقوقهم.
يا عبدالله: التغافل عن بعض الأخطاء في حقك الشخصي يديم الألفة ويبقي المحبة, التغافل يجب أن يكون بين المسلمين عموما، بل حتى بين المسلم وجاره أو قريبه الكافر، ولكننا سنتحدث عن التغافل بين الزوجين، وبين الآباء والأبناء.
أدب التغافل هو من أدب السادة، أما السُّوقة العوام فلا يعرفون مثل هذه الآداب، ولذلك تراهم لدنوِّ همتهم وخسة أطباعهم يحصون الصغيرة، ويجعلون من الحبة قبة، ومن القبة مزاراً، وهؤلاء وإن أظهروا في الإحصاء على الآخرين فنون متنوعة من ضروب الذكاء والخداع، ولكنه ذكاءٌ أشبه بإمارات أهل الحُمُق الذين تستفزهم الصغائر عند غيرهم، و أمثال هؤلاء لا يكونون من السادة في أقوامهم.
وقد قيل:
لَيْسَ الغَبِيُّ بِسَيد في قَوْمِه ِ*** لكنَّ سيِّد قومهِ المُتغابي
عباد الله: لا يخلو شخصٌ من نقص، ومن المستحيل على أي زوجين أن يجد أحدُهما كل ما يريده في الطرف الآخر كاملاً, كما أنه لا يكاد يمر أسبوع دون أن يشعر أحدها بالضيق من تصرف عمله الآخر، وليس من المعقول أن تندلع حربُ شتائم وسباب وربما ضربٌ كل يوم أوكل أسبوع, على شيء تافه كملوحة الطعام أو نسيان طلب أو الانشغال عن وعد - غير ضروري- أو زلة لسان، فهذه حياةُ جحيم لا تطاق!
ولهذا على كل واحد من الزوجين تقبل الطرف الآخر والتغاضي عما لا يعجبُه فيه من صفات أو طبائع أو أخطاء، وبعض الرجال يدقق في كل شيء وينقِّبُ في كل شيء, فيفتح الثلاجة يومياً ويصرخ لماذا لم ترتبي الخضار أو تضعي الفاكهة هنا أو هناك؟! لماذا الطاولة علاها الغبار؟! كم مرةٍ قلت لك: الطعامُ حارٌ جداً؟! أعطيتكم عشرين ريالا أين هي؟ الخ.. وينكد عيشَها وعيشَه!!
وكما قيل: ما استقصى كريمٌ قط، كما أن بعض النساء كذلك تدقق في أمور زوجها ماذا يقصد بكذا؟ ومن هذا المتصل بك، ولماذا تأخرت إلى هذه الساعة؟ وتجعلها مصيبةَ المصائب وأعظمَ الكبائر.. فكأنهم يبحثون عن المشاكل بأنفسهم!!
عباد الله: هذه دعوة للتغافل -لا الغفلة- عن بعض ما يصدر من الزوجات والأولاد من عبث أو طيش: فذلك نمط من أنماط التربية الإسلامية، وهو مبدأ يأخذ به العقلاءُ في تعاملهم مع أولادهم ومع الناس عموما؛ فالعاقل لا يستقصي، ولا يشعر من تحت يده أو من يتعامل معهم بأنه يعلم عنهم كل صغيرة وكبيرة؛ لأنه إذا استقصى، وأشعرهم بأنه يعلم عنهم كل شيء ذهبت هيبته من قلوبهم. ثم إن تغافله يعينه على تقديم النصح بقالب غير مباشر، من باب: إياك أعني واسمعي يا جاره، ومن باب: ما بال أقوام. وربما كان ذلك أبلغ وأوقع.
كما يجدر بالوالدين ألا يضخموا الأخطاء، ويحطوها أكبر من حجمها، بل عليهم أن ينزِّلوها منازلها، وأن يدركوا أنه لا يخلو أحدٌ من الأخطاء، فجميع البيوت تقع فيها الأخطاء فمُقِلٌّ ومستكثِر؛ فكسر الزجاج أو بعض الأواني، أو العَبَثُ ببعض مرافق المنزل ونحو ذلك لا يترتب عليه كبير فساد؛ فكل الناس يعانون من ذلك.
فتغافل عن هفوات زوجك وولدك وأخيك طلبًا لدوام الألفة، وهذا من الفطنة ووفُور العقل، قال بعض الحكماء: "وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل"، وقال أكثم بن صيفي: "من شدَّد نفَّر، ومن تراخَ تألف، والشرف في التغافل". وقال شبيب بن شيبة: "الأريب العاقل هو الفطن المتغافل".
فعلي كل من الزوجين أن يعلما أنه ليس يشين أحدَهما الهزيمةُ والتنازلُ عن بعض حقوقه للطرف الآخر، بل ما يشين حقا الحرصُ علي كسب موقف علي حساب مستقبل كامل؛ فنكونُ كمن أراد أن يبني قصرا فهدم مصراً.
وختاماً:- من أراد زوجةً كفاطمة رضي الله عنها فليكن هو كعلي رضي الله عنه، ومن أرادت زوجاً كعلي رضي الله عنه فلتكن هي كفاطمة رضي الله عنها: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [النور : 26].
عباد الله: هاكم نماذج يسيرة من تغافل أهل الصلاح والديانة، فهذا حاتمُ الأصم وهو الشيخُ القدوة الرباني أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان البلخي الواعظ، كان يُقال له "لقمان هذه الأمة" لماذا سمي بالأصم؟ قال أبو علي الدقاق: "جاءت امرأةٌ فسألت حاتماً عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوتٌ في تلك الحالة فخجلت، فقال حاتم: "ارفعي صوتَك" فأوهمها أنه أصمّ فسرّت المرأة بذلك، وقالت: "إنه لم يسمع الصوت" فلقّب بحاتم الأصم.
ومن هذه المواقف الجلية في أدب التغافل، ما ذكره ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال: "إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصتُ له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبل أن يولد".
الخطبة الثانية
الحمد لله... أما بعد:
فإن قيل: خُلُقٌ بهذه الأهمية وله هذه المنزلة العالية كيف لا يذكر في كتاب الله؟
فالجواب: بل ذكر قال الله تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم : 3], ففي هذه الآية الكريمة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى حفصة رضي الله عنها سراً, وطلب منها ألا تذكره لأحدٍ فذكرته لعائشة؛ فأطلعَ اللهُ رسولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأمر. فعاد عليها في هذا وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها دون استقصاء لجميعه, تمشياً مع أدبه الكريم. فقد لمس الموضوع لمساً مختصراً لتعرف أنه يعرف وكفى. ومضمون هذا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم كل ما دار، لا الطرف الذي حدثها به وحده، ولكنه تغافل عنه كرما وحياءً بأبي هو وأمي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد قيل:
من كان يرجو أن يسود عشيرة *** فعليه بالتقوى ولين الجانب
وقيل أيضا:
ويغض طرفا عن إساءة من أساء *** ويحلم عند جهل الصاحب
ليكن شعارُك يا عبدالله: أنا أعرفُ كل ما يدور حولي لكني أتغافل عنه!! وتذكر دائما: أن ولدك أو زوجتك إن أخفوا عنك ما تكره فهذا من تقديرهم لك.
لقد أطاعك من يرضيك ظاهره *** وقد أجلك من يعصيك مستترا
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن أمور التعايش في مكيال ثلثه الفطنة وثلثاه التغابي". وقال بعض الحكماء: "وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل". وقال شبيب بن شيبة: "الأريب العاقل هو الفطن المتغافل".
التعليقات