عناصر الخطبة
1/مولد النبي عليه الصلاة والسلام ونشأته 2/نبوة النبي عليه الصلاة والسلام ودعوته 3/هجرة النبي عليه الصلاة والسلام وغزواته 4/موت النبي عليه الصلاة والسلام وتولي خلفاؤه الدعوة والجهاد من بعدهاقتباس
وكانت هذه الغزوة شاقة وعسيرة على الصحابة بسبب قلة الإبل والزاد، وبُعد المسافة، وشدة الحرّ، وقذف الله في قلوب الروم الرعب، فتفرقوا، وبقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تبوك 20 يوما يُرهِب العدو، ويستقبل الوفود، وصالح بعض الكفار على دفع...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي وسِع كل شيء رحمة وعلما، وتبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى أهل بيته وأزواجه وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليما كثيرا، أما بعد:
فيقول الله -سبحانه- عن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107]، ويقول: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]، ويقول: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى: 5]، ويقول: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[النساء: 80]، ويقول تبارك وتعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[النور: 54]، وقال عز وجل: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا)[الفتح: 13].
ولا يؤمن أحدٌ حتى يكونَ الرسولُ أحبَّ إليه من نفسه وأهله ووالده وولده وماله والناس أجمعين، والواجب على كل مسلم أن يؤمن بالرسول الأعظم، ويعرف قدره، ويعظمه، ويقتدي به، ويتبع سنته، قال الله مخاطبا رسوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشرح: 4]، وقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7]، وقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
أيها المسلمون، على كل مسلم أن يعرف سيرة النبي الكريم، سيد الأولين والآخرين؛ هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وُلِد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة عام حادثة الفيل، ونشأ يتيما، مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو ابن ست سنين، وكان يرعى الغنم في صغره، ولما شب ذهب للتجارة إلى الشام، وعُرِف في معاملاته بالصدق والأمانة، وأحاطه الله بالحفظ والرعاية، وبغّض إليه ما كان عليه قومه من شرك وفساد وخرافة.
لما اكتملت سنُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين، أتاه الملَك جبريل بالقرآن في شهر رمضان، وهو معتكف في غار حراء، وأول ما أنزل الله عليه قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق: 1 - 5]؛ فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى توحيد الله، فعاداه المشركون أشد العداوة، وقاموا بشتى الوسائل للقضاء على دعوته، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه المستضعفين أن يهاجروا إلى الحبشة؛ ليفروا بدينهم من كفار قريش الذين آذوهم أشد الإيذاء، وأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بين كفار قريش يدعوهم إلى الله، ويتلو عليهم كتابه، فما زادهم ذلك إلا نفورا واستكبارا، وكانوا يؤذون النبي -عليه الصلاة والسلام- بأنواع الأذى، وهو صابر لربه صبرا جميلا.
وكان -عليه الصلاة والسلام- قبل الهجرة يحج كل عام، ويدعو القبائل الوافدة للحج إلى الإسلام، حتى التقى ببعض أهل المدينة من الأوس والخزرج فأسلموا، وأرسل معهم من يعلمهم القرآن، فانتشر الإسلام في المدينة النبوية التي كانت تسمى يثرب، وفي موسم الحج سنة 13 من البعثة اجتمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من سبعين مسلما من أهل المدينة من قبيلتي الأوس والخزرج، وبايعوه على أن ينصروه إذا قدم إليهم، وبعد هذه البيعة هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة، ورجع إليها عامة من كان بأرض الحبشة، واستمر النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو كفار قريش إلى الله، حتى قرروا قتله، فأمره الله بالهجرة إلى المدينة، ونجاه الله من كيدهم.
أيها المسلمون، بعد أن استقر النبي -عليه الصلاة والسلام- في المدينة بدأ في بناء المسجد النبوي، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعقد معاهدات بين المسلمين وبين اليهود الساكنين في المدينة، وأصبحت المدينة وضواحيها دولة إسلامية ذات استقلال وسيادة، وأحاط الخطر بالمسلمين في المدينة من داخلها وخارجها، بسبب مكائد الكفار للقضاء على المسلمين، فأذن الله للمسلمين في الجهاد، وغزا النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه 19 غزوة، وهذه أهم غزواته:
- غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، وكانت أول معركة فاصلة بين المسلمين وكفار قريش، وكان عدد المسلمين فيها 313 رجلا، وعدد المشركين ألف رجل، ونصر الله فيها المسلمين نصرا مؤزرا، فقتلوا (70) من المشركين، وأسروا (70).
- غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، جهز كفار قريش (3000) مقاتل للانتقام من المسلمين، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لقتالهم ومعه (700) من المسلمين، وعيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- (50) رجلا من الرماة على جبل صغير ليحموا ظهور المسلمين، وأكّد عليهم أن لا يتركوا مكانهم حتى يأتيهم أمرُه، ووقعت الهزيمة أولا بالمشركين ففروا، وأخطأ الرماة فنزل أكثرهم ليجمعوا الغنائم، فانقض فرسان المشركين على المسلمين من خلف الجبل؛ فانهزم المسلمون، وشُج رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكُسِرت رَباعيته، واستُشهد (70) من أصحابه، وصعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بقي معه إلى مكان مرتفع في جبل أحد، قال الله -سبحانه-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 165، 166]، وقال تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)[آل عمران: 140].
وعفا الله عن المسلمين المنهزمين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[آل عمران: 155].
وفي صباح اليوم الثاني من المعركة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين أن يلحقوا المشركين خوفا من رجوعهم لغزو المدينة، وكان المسلمون منهكين من الجراح والتعب، ومن الحزن والألم، فلما سمع المشركون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد لحقهم عجَّلوا الارتحال إلى مكة، وقد كانوا يريدون غزو المدينة، قال الله -سبحانه- مثنيا على الصحابة: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران: 172- 173].
- غزوة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة، وفيها حفر المسلمون خندقا في شمال المدينة ليلا ونهارا ومعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتعبوا في حفره أشد التعب، مع شدة الجوع والبرد والخوف، وحاصر المشركون المدينة نحو شهر، وكانوا (10000) مقاتل، وكان عدد المسلمين (3000) مقاتل يرشقونهم بالنبل والحجارة حتى لا يقتربوا من الخندق، ونقض يهود بني قريظة العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأصاب المسلمين بلاء كبير، وكرب عظيم، وظهر نفاق المنافقين، وثبَّطوا المسلمين عن القتال، ثم أرسل الله على المشركين ريحا شديدة؛ فانصرفوا خائبين، قال الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)[الأحزاب: 9 - 11]، وقال سبحانه: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)[الأحزاب: 25].
ثم غزا النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد، وتآمروا مع المشركين على إبادة المسلمين، وحاصرهم المسلمون خمسة وعشرين يوما حتى استسلموا ونزلوا من حصونهم، وطلبوا أن يكون الحُكمَ فيهم إلى سعد بن معاذ الأنصاري، وكان حليفا ليهود بني قريظة قبل الإسلام، فلم يجاملهم، وحكم بقتل رجالِهم الخونة، وقسمِ أموالهم، وسبيِ ذراريهم الذين أسلموا بعد ذلك.
- في السنة السابعة من الهجرة غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهود خيبر ومعه (1400) من الصحابة الذين وعدهم الله بعد صلح الحديبية بمغانم كثيرة يأخذونها، وطلب اليهود الأمان على أن يخرجوا من خيبر بنسائهم وذراريهم، فأجابهم نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-، ثم اقترح اليهود على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتركهم في خيبر على أن يقوموا على النخل والزرع، ولهم نصف ما يخرج منها من الثمر، فقبل نبي الرحمة اقتراحهم على أن يجليهم من خيبر متى شاء.
- أيها المسلمون، وفي السنة الثامنة من الهجرة فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة ومعه عشرة آلاف من الصحابة المجاهدين، وأمر نبي الرحمة مناديا ينادي: من أغلق عليه بابه فهو آمِن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمِن، وكان حول الكعبة 360 صنما، فجعل النبي يسقطها بعصا في يده ويقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 81]، (جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)[سبأ: 49]، وعفا النبي -عليه الصلاة والسلام- عن كفار قريش، فأسلم أكثر أهل مكة رجالا ونساء.
وبعد فتح مكة اجتمعت قبائل هوازن وثقيف على قتال المسلمين، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة لقتالهم ومعه اثنا عشر ألفا، وكمن العدو للمسلمين في وادي حنين، ثم باغتوا المسلمين بالرمي، فانهزم المسلمون، وثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قليل من المهاجرين والأنصار، ونزل عن بغلته ودعا ربه، وأمر من ينادي أصحابه المنهزمين بالرجوع، فرجعوا، ونصرهم الله على المشركين، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)[التوبة: 25، 26].
وكانت قبائل العرب تنتظر نتيجة الصراع القائم بين قريش والنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أكرم الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بفتح مكة أسلمت القبائل العربية، وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجا، حتى اتسعت رقعة الدولة الإسلامية فشملت جميع شبه الجزيرة العربية، وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- ينظم أمور هذه البلاد الشاسعة، فيرسل الدعاة، وينصب الولاة، ويبعث جباة الصدقات، ويحكم بين الناس بشرع الله.
أيها المسلمون، في التاسعة من الهجرة تجمع الروم النصارى في الشام لغزو المدينة، فاستنفر الرسول جميع المسلمين، وحث الموسرين على تجهيز المعسرين، وخرج الرسول -عليه الصلاة والسلام- من المدينة ومعه (30000) من الصحابة متجها إلى تبوك، وكانت هذه الغزوة شاقة وعسيرة على الصحابة بسبب قلة الإبل والزاد، وبُعد المسافة، وشدة الحرّ، وقذف الله في قلوب الروم الرعب، فتفرقوا، وبقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تبوك 20 يوما يُرهِب العدو، ويستقبل الوفود، وصالح بعض الكفار على دفع الجزية، وبعد رجوع الصحابة من هذه الغزوة أنزل الله على رسوله آية تبين فضلهم: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 117]، وأخبر الله أن المتخلفين عن رسول الله لن يخرجوا بعد هذه الغزوة مع رسول الله في أي سفر من أسفاره عقوبة لهم، قال الله -سبحانه-: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ)[التوبة: 83].
ثم بعد غزوة تبوك عزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحج في السنة العاشرة من الهجرة، فحج مع رسول الله عشرات الآلاف من المسلمين، بعد أن أمر الله رسوله أن يخبر المنافقين بعدم تشرفهم بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه من غزوة تبوك في أي سفر من أسفاره أبدا، فكل من سافر مع الرسول للحج فهو بريء من النفاق، وفي الحج أنزل الله على رسوله قوله سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3].
الخطبة الثانية:
الحمدلله ...
عباد الله: وبعد أن تم له -عليه الصلاة والسلام- 63 سنة مرض أياما، ثم مات يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 11 هـجرية، ودينه باق إلى يوم القيامة، واختار الصحابة أبا بكر الصديق رضي الله عنه خليفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال أبو بكر: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وتلا قول الله -سبحانه-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144].
مات النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن علَّم أصحابه الكتاب والسنة، وزكاهم، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وأقام الصحابة -رضي الله عنهم- الدين، ودعوا الناس إلى الله، وفتحوا البلدان، وعلموا المسلمين، وكما جاهد الصحابة الكفار مع الرسول فقد جاهدوهم أيضا بعد موت الرسول، وتحقق لهم ما وعدهم الله في قوله: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)[الفتح: 22]، ونصرهم الله على جميع الكفار الذين قاتلوهم من المرتدين واليهود والنصارى والمشركين، وفتحوا فارس والشام ومصر وشمال أفريقيا، ومكن الله لهم في تلك البلاد كما قال سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النور: 55].
وقد أخبر الله عن الأعراب الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله أنهم سيُدعون إلى قتال قوم كفار أشداء في الحرب، فوقع ذلك حين دعاهم الخلفاء الراشدون إلى حروب الردة، ثم دعوهم إلى قتال فارس والروم، قال الله -سبحانه-: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)[الفتح: 16]، وتوعد الله الأعراب في هذه الآية الكريمة إذا لم يجيبوا الخلفاء الراشدين إلى الجهاد بالعذاب الأليم فقال: (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)؛ فدلت هذه الآية الكريمة على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأن الله أوجب على المسلمين طاعتهم، فكل واحد منهم إمام للمسلمين، وكلهم هداة مهتدين، وكلهم من السابقين.
قال الله -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 100].
أيها المسلمون: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلِّم على نبينا محمد وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته، وارض عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع المهاجرين والأنصار، واجعلنا ممن اتبعهم بإحسان.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم. اللهم ارزقنا طاعتك وطاعة رسولك، والعمل بكتابك وسنة نبيك.
التعليقات