عناصر الخطبة
1/ غلو قوم نوح في صالحيهم 2/ الغلو مدعاة للشرك 3/ نصوص في التحذير من الغلو 4/ من صور الغلو المعاصرة 5/ ضوابط المدح والثناءاهداف الخطبة
اقتباس
من تأمل النصوص عرف أن الغلو في الأولياء والصالحين ليس من الدين في شيء، بل دين الله منه براء، ومحبة الصالحين إنما تكون بالاقتداء بهم في الخير لا بجعلهم أنداداً لله -تعالى-، ولا بأن يفعل بهم ما يكون وسيلة إلى الشرك الأكبر، والعياذ بالله كما هو الحاصل اليوم في كثير من بلاد العالم الإسلامي، يرفعون الصالحين فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، فيعظمون قبورهم بدعائها، والذبح لها، والطواف حولها، بل...
الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال، المتعالي عن الأشباه والأمثال، أحمده سبحانه وأشكره، منَّ علينا بواسع الفضل وجزيل النوال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه، كتب الفلاح لمن اتبعه وسار على شرعه، ففاز في الحال والمآل، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإيمان والعقيدة: أوصيكم بتقوى الله، فبتقوى الله تَزْكُو الأعمال، وتنال الدرجات، وارغبوا فيما عنده، فبيده الخير وهو على كل شيء قدير: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء) [الأعراف: 3].
عباد الله: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين".
ومعنى هذا: أن هذه القرون التي تفصل بين آدم ونوح كان أهلها على توحيد الله -تعالى- وتطبيق شريعته، فلما انتشروا وكثروا وطال بهم العهد بدأ الشرك يدب إليهم الغلو وتعظيم الصالحين، فقد ذكر المفسرون في قصة نوح - عليه السلام - وتفسير قول الله- تبارك وتعالى -: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) [نوح: 23].
ذكروا أن هذه أسماء رجال صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا حزن عليهم قومهم حزناً شديداً، فجاءهم الشيطان وزين لهم أن يصنعوا تماثيل على صورهم ليتذكروهم بها، ولم يعبدوهم في تلك الفترة، فلما انقضى ذلك الجيل وجاء أحفادهم أوحى إليهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم من دون الله-تعالى-.
فبعث الله إليهم نوحًا -عليه السلام-: (أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [نوح: 1].
لقد وقع الشرك في قوم نوح بسبب الغلو في تعظيم الصالحين، وقد ورثت العرب تلك الأصنام وبقيت فيهم حتى بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - فأهلكها الله على يديه صلوات الله وسلامه عليه.
ولخطورة الغلو في الصالحين وشدة الفتنة بهم جاء التحذير منه في الكتاب والسنة وفي كلام السلف، فقد نهى الله -سبحانه- اليهود والنصارى عن مجاوزة الحد مع الصالحين، وعن رفع المخلوق فوق منزلته التي أنزلها الله إياها، فإن النصارى غلوا كثيرًا في عيسى -عليه السلام- فرفعوه من مرتبة النبوَّة إلى أن اتخذوه إلهًا من دون الله، واليهود انتقصوا منه، فالنصارى أفرطوا واليهود فرَّطوا، قال تعالى في محكم التنزيل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) [المائدة: 77].
والخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فهو تحذير لهذه الأمة منْ أن يفعلوا مع نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كما فعلت النصارى مع المسيح - عليه السلام -، واليهود مع عزير.
ومن تشبَّه بهم من هذه الأمة وغلا في الدين بإفراط أو تفريط فهو منهم، قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله".
"لا تُطروني" والإطراء المدح بالباطل.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلا قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس عليكم بتقواكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - عز وجل –".
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن أم حبيبة وأم سلمة - رضي الله عنهما - ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: "قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وعن عائشة وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قالا: لما نُزِلَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا".
وعن علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه -أي علي بن الحسين- رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فدعاه، فقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم".
فمن تأمل هذه النصوص عرف أن الغلو في الأولياء والصالحين ليس من الدين في شيء، بل دين الله منه براء، ومحبة الصالحين إنما تكون بالاقتداء بهم في الخير لا بجعلهم أنداداً لله -تعالى-، ولا بأن يفعل بهم ما يكون وسيلة إلى الشرك الأكبر، والعياذ بالله كما هو الحاصل اليوم في كثير من بلاد العالم الإسلامي، يرفعون الصالحين فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، فيعظمون قبورهم بدعائها، والذبح لها، والطواف حولها، بل وصل الأمر إلى اعتقاد بعضهم أن هؤلاء يعلمون الغيب، وهذا هو الشرك الأكبر في ربوبية الله -تعالى-.
وللأسف ظهر هذا الأمر قبل أيام في إحدى الجرائد المحلية حين قام كاتب بالمدح والثناء لخادم الحرمين الشريفين، فرفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياه، فقال بالخط العريض "الملك عبد الله عمق بالرؤية، ووضوح بالمواقف، وإبصار ما كان، وما هو كائن، وما سيكون".
نعوذ بالله من هذا الغلو.
فالملك منه براء وهو لا يعرف الكاتب ولا يتشرف بمعرفته ولا يرضى بهذا الكلام، ولسان حاله يقول: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف: 5].
جاء رجل يحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمور، وقال له: ما شاء الله وشئت، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم– وقال: "أجعلتني لله ندًّا، قل ما شاء الله وحده".
فاتقوا الله -عباد الله- واحذروا الغلو، فإنه باب شر، عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا.
أي المتكلفون المتعمقون المتأنقون، الغالون في الكلام، بحيث يخرج عن حدود الشريعة.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
معاشر المؤمنين: المدح هو الثناء باللسان على الصفات الجميلة، خلقية كانت أو اختيارية، فقد ثبتَ في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُدِح في الشعر والخطابة والمخاطبة ولم يمنع المادح، كمدحِ عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - له قائلاً:
إني تفرست فيك الخير أعرفه *** والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النبي ومن يحرم شفاعته *** يوم الحساب فقد أزرى به القدر
فثبتَ اللهُ ما آتاك من حسن تثبيت *** موسى ونصراً كالذي نصروا
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة.
ومدحه كعب بن زهير - رضي الله عنه - في قصيدته المشهورة عندما جاء تائباً مسلماً:
إن الرسول لنور يُستضاء به *** مهندٌ من سيوف الله مسلول
في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلهم *** ببطنِ مكةَ لما أسلموا زولوا
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمدح بعض الأقوام ويمدح بعض الأصحاب، وذلك لشحذ الهمم والدعوة إلى فعل الخيرات، قال عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً ".
هذا مدح من معلّم الناس الخير - صلى الله عليه وسلم - كانت ثمرته عظيمة للممدوح حيث أخذ ابن عمر على نفسه عهداً بقيامِ الليل حتى أنه كان لا ينام منه إلا قليلاً.
فالمدح له ضوابط وحدود لا يجوز تجاوزها، فإذا كان المدح انعدم فيه الصدق، أو صاحبه النفاق، أو اتُخِذَ من المدح مهنةً للتكسب، وزادَ الممدوحَ بطراً وتكبراً وظلماً ورئاءً، فإن هذا النوع من المدح المحرم، عن أبي معمر قال: "قام رجلٌ يثني على أميرٍ من الأمراء، فجعل المقداد يحثي عليه التراب. وقال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نحثي في وجوه المداحين التراب".
ولا يجوز المجازفة والزيادة في المدح خشية أن يفتتن الممدوح، جاء في الحديث: أن رجلاً ذُكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويحك قطعت عُنُق صاحبك، يقوله مراراً، إن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل: احسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، والله حسيبه. ولا يزكي على الله أحدًا.
وكان السلف الصالح إذا مُدِح أحدهم قال: "اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون".
كانوا - رحمهم الله - يخافون ويتحرزون من آفة العجب والغرور، ويظهرون كراهيتهم للمدح، وما زال علماؤنا الربانيون كذلك.
فنسأل الله أن يجعلنا من عباده المخلصين المتقين.
اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله...
التعليقات