عناصر الخطبة
1/ غيرة الله على عباده المؤمنين 2/ الغيرة أسمى سمات الرجل الحر والمرأة الكريمة 3/ ابتلاء العصر بانحرافات مقيتة 4/ الفواحش تستعبد النفوس المريضة 5/ أثر الابتلاءات على نفسية الإنسان 6/ المجاهرة بالفواحش وأثرها في المجتمع 7/ أسباب الوقوع في الفواحِش 8/ أسباب الوقاية والسلامة من الفواحِشاهداف الخطبة
اقتباس
حينما يكون المُجتمع صارِمًا في نظام أخلاقِه، وضوابِط سُلُوكِه، غَيورًا على كرامته وكرامة أمَّته، مُؤثِرًا رِضا الله على نوازِع شهواتِه، حينئذٍ تستقيمُ في طريق الصلاح مساراتُه، وترتفعُ في منهج الإصلاح مناراتُه. بصيانة العِرض يتجلَّى صفاءُ الدين، وجمالُ الإنسانية، وبتدنيسِه وهوانِه ينزلُ الإنسانُ إلى أحطِّ الحيوانات بهيميَّة، ومن حُرِم الغَيرة حُرِم طُهر الحياة، ولا يُمتدَحُ بالغيرة إلا كرامُ الرجال وكرائمُ النساء.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله ليس لفضلِه مُنتهى، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [طه: 5- 8]، أحمده -سبحانه- وأشكرُه، نعمُه لا تُحصَى، وجودُه لا يُستقصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المبعوثُ بالرحمة والهُدى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، سلَّم عليه الشجر، وسبَّح بين يدَيه الحصَى، وعلى آله السادة الطيبين النُّجبَاء، وأصحابِه الغُرِّ الميامين الأصفِياء، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسارَ على نهجِهم فاهتدَى.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) [البقرة: 281].
إن في القيامة لحسَرات، وإن في الحشر لزفَرات، وإن عند الصراط لعثَرات، والظلمُ يومئذٍ ظُلُمات، والهولُ كل الهول حين تُعرض الحسناتُ والسيئاتُ، فمن زُحزِح عن النار وأُدخِل الجنة فقد فازَ ونالَ عالِيَ الدرجات.
فاتَّقِ الله -يا عبد الله-؛ فما ثبَّت المواعِظَ إلا العملُ بها، (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 66- 69].
أيها المسلمون: إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرةُ الله أن يأتي المؤمنُ ما حرَّم الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحِش.
الغيرةُ -وربِّكم- أسمَى سِمات الرجل الحُرِّ الكريم والمرأة الحُرَّة الكريمة -فضلاً عن المُسلم الصالح الغَيور، وأنى الغَيور من الديُّوث؟! شقاء البشرية وتعاستُها، وفسادُ المُجتمعات وتفكُّكها في ذهاب الغَيرة، واضمِحلال الكرامة.
نعم -عباد الله- حينما يكون المُجتمع صارِمًا في نظام أخلاقِه، وضوابِط سُلُوكِه، غَيورًا على كرامته وكرامة أمَّته، مُؤثِرًا رِضا الله على نوازِع شهواتِه، حينئذٍ تستقيمُ في طريق الصلاح مساراتُه، وترتفعُ في منهج الإصلاح مناراتُه.
بصيانة العِرض يتجلَّى صفاءُ الدين، وجمالُ الإنسانية، وبتدنيسِه وهوانِه ينزلُ الإنسانُ إلى أحطِّ الحيوانات بهيميَّة، ومن حُرِم الغَيرة حُرِم طُهر الحياة، ولا يُمتدَحُ بالغيرة إلا كرامُ الرجال وكرائمُ النساء.
معاشر المسلمين: لقد ابتُلِي أهلُ هذا العصر بانحرافٍ مقيتٍ، يُريد تجريد الإنسان من إنسانيَّته، ومن أعلى خصائصِه التي أكرمَه الله بها، وفضَّله فيها على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً.
وإن مما يُخيفُ ويُرعِب: مُستوى المُجاهَرة في هذا الانحِراف الذي أصبحَت تتبنَّاه مُنظَّماتٌ وقوانين وتشريعات -نسأل الله السلامة والعافية- ليُضفُوا الشرعيَّةَ والإباحيَّةَ على ما حرَّمه الله، وحرَّمته جميعُ الديانات، وأبَتْه الفِطَرُ السليمة، والنفوسُ السويَّة.
أتدرون ما المقصودُ -يا عباد الله-؟! إنه اللواطُ والسِّحاقُ، إنه الجنسُ الثالث والمِثليُّون، في أسماءٍ ونعوتٍ يستحِيي الكريمُ أن يلفِظَها، ويأنَفُ ذو المروءةِ أن يتفوَّه بها، فضلاً عن أن يُؤذِي بها الأسماع.
فتنةٌ وبلاءٌ وفواحِش تستعبِدُ النفوسَ المريضة، يعيشُون عيشَةَ الهوان، أسرى أهوائِهم، انحرَفوا عن مسالِك الرُّشد وسبيل القصد، شُذوذٌ يُخرِج الإنسان عن طبعِه إلى طبعٍ لم يطبَعه الله عليه، حتى الحيوان البَهيم لا يسلُك هذا المسلَك.
بل هو ذو طبعٍ منكوس، وإذا انتكَسَ الطبعُ انتكَسَ القلبُ والعملُ والهُدى، فيستطيبُ الخبيثَ، ويفسُدُ حالُه وكلامُه وعملُه.
اللواطُ -عياذًا بالله- يجلِبُ الهمَّ والغمَّ، والنُّفرةَ من الفاعِلِ والمفعولِ به، ويُظلِمُ الصدرَ، ويكسُو النفسَ وحشةً، يظهرُ على صاحبِهِ كالعلامةِ، يعرِفُها من له أدنَى فِراسَة.
بل لقد قال ابن القيم -رحمه الله-: "إنه يُفسِدُ حالَ الفاعِلِ والمفعولِ فسادًا لا يكادُ يُرجَى بعده صلاحٌ، إلا أن يشاءَ الله بالتوبة النَّصُوح".
يذهبُ بالحياء، والحياءُ هو حياتُه وحياةُ القلوبِ، ومن فقدَ الحياءَ استحسنَ القبيحَ، واستقبحَ الحسنَ، وذهبَ ماءُ وجهِه، وحينئذٍ يستحكِمُ فيه الفسادُ والانحِراف، عياذًا بالله من مقتِ الله.
معاشر المسلمين: لم يبتلِ الله -سبحانه- بهذه الكَبيرة قبل قومِ لُوطٍ أحدًا من العالمين، وعاقبَهم عقوبةً لم يُعاقِبها أحدًا غيرَهم، وجمعَ عليهم أنواعَ العقوبات، منها: الهلاك، وقلب الديار، والخسف، والرَّجم بالحجارة من السماء، فنكَّلَ بهم نَكالاً لم يُنكِّله بأمةٍ سِواهم، وذلك لعظيم فسادِهم، وفظاعَة جُرمهم.
يقول الحافظُ ابن القيِّم -رحمه الله-: "لما كانت مفسدةُ اللُّوطيَّة من أعظم المفاسِد، كانت عقوبتُه في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات".
وقد لعنَ نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- مُرتكِبَ هذه الفاحِشة، فقال: "لعنَ الله من عمِلَ عملَ قومِ لُوطٍ، لعنَ الله من عمِلَ عملَ قومِ لُوطٍ، لعنَ الله من عمِلَ عملَ قومِ لُوطٍ". قالها ثلاثًا. رواه أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، والحاكمُ في مُستدركِه، وقال: "صحيحُ الإسناد ولم يُخرِّجاه".
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "من وجدتُموه يعملُ عملَ قومِ لُوطٍ فاقتُلُوا الفاعِلَ والمفعولَ به". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصحَّحه.
وعند الترمذي: "ملعونٌ من عمِلَ عملَ قوم لُوطٍ". رواه ابن حبان وغيره، وإسنادُه على شرط البخاري.
معاشر الأحِبَّة: ثم تأمَّلُوا هذا الحديث عن نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبلَ علينا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا معشر المُهاجِرين: خمسُ خِصال إذا ابتُلِيتُم بهنَّ -وأعوذُ بالله أن تُدرِكُوهنَّ-: لم تظهَر الفاحِشةُ في قومٍ حتى يُعلِنُوا بها، إلا فشا فيهم الطاعُون والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافِهم...". الحديث.
ثم انظُروا ما تقولُه الإحصاءات العالميَّة، تقول: "إن مُعدَّلات انتشار مرض نقص المناعَة "الإيدز" تظهرُ في المُخنَّثين من الرِّجال والمُسترجِلات من النساء بنسبةٍ تزيدُ على عشرين مرَّة عن غيرِهم".
كما ذكرَت المُنظَّمة ظهورَ أوبِئةٍ جديدةٍ من هؤلاء الشواذِّ اللوطيِّين والسِّحاقيَّات في مناطِق عديدةٍ من العالَم، كما تتراوَحُ الإصابةُ فيما بين هؤلاء المُخنَّثين والمُسترجِلات إلى نسَبٍ تصِلُ إلى ثمانية وستين بالمائة.
ومن الأمراضِ التي يُبتلَى بها هؤلاء الشُّذَّاذ: الوباءُ الكبِديُّ، ومرضُ مُتلازِمة أمعاء الشواذِّ، والحُمَّى المُضخِّمة للخلايا، مع أمراضٍ عصبيَّة، واضطِراباتٍ نفسيَّة، وقلقٍ واكتِئابٍ، وشعورٍ بالنقص، قد يقودُ إلى القتل والانتِحار -عياذًا بالله-.
أما قولُ نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-: "حتى يُعلِنُوا بها". فإن الأمرَ مُخيفٌ.
نعم، إن مما يُخيفُ ويُرعِب: مُستوى المُجاهَرة الذي أصبحَت تتبنَّاه مُنظَّماتٌ وقوانينُ وتشريعات -نسأل الله السلامة والعافية- ليُضفُوا الشرعيَّة والإباحيَّة على ما حرَّم الله، وحرَّمته جميع الديانات، وأبَتْه الفِطرُ السليمة والكرامات العُليا، في خروجٍ صارخٍ على تعاليم الشرع المُطهَّر، والأخلاق الرَّفيعة، والفضائلِ العُليا، والقِيَم السامِيَة.
قال بعضُ أهل العلم: إن الجُرأة على الفواحِش تُجرِّئُ على قطيعة الرَّحِم، وعقوق الوالدَين، وكسب الحرام، وظُلم الخلق، وإضاعة المال والأهل والعِيال.
هل الحريةُ تعني المُجاهَرة والمُفاخَرة والتباهِي -عياذًا بالله- بالأفعال الشاذَّة والمُنحرِفة والمُحرَّمة؟!
ومما يُؤسَفُ له: أن هذه المُنظَّمات الدوليَّة المُؤتمَنة على الصحَّة في العالَم لم تُفكِّر أو تُوصِ بمنعِ هذه الجرائِم، وإنما اشتغلَت بإيجادِ ما أسمَتْه "الطرق الآمِنة التي تُؤمِّنُ احتياجات هؤلاء الشواذِّ واللُّوطيَّة المُخنَّثين"، مع اعتِرافها بقولها: "إنها لم تتمكَّن من كبحِ جِماحِ انتِشار فيروس الإيدز"!!
أيُّ انتِكاسةٍ أعظم ممن يدَّعِي أنه يُحافِظُ على حقوق الإنسان وهو يُحوِّلُه إلى بهيمةٍ أو أحطَّ من البَهيمة؟! فليس في البهائِم من يعلُو فيها الذَّكرُ على الذَّكر، أو الأُنثَى على الأُنثَى.
أيُّ حمايةٍ لهؤلاء الشواذِّ؛ بل أيُّ حقوقٍ لمن ينتهِكُ حُرمات الله، ويقتلُ العِفَّة، وينحَرُ الفضيلة؟! إنها مسالِكُ الجاهليَّة المُظلِمة.
أيها الإخوة في الله: ولتعلَموا أن من أسباب الوقوع في مثلِ هذه القاذُورات والفواحِش: الإعراض عن الله. من عرفَ ربَّه وأقبلَ عليه جمعَ عليه قلبَه، وانتظَمَ أمرُه، وطابَت نفسُه، واستقامَت فِطرتُه، وصلُحَ أمرُه.
ومن أسباب الوقوع والانحِراف: الفراغ، يقولُ ابن عقيلٍ -رحمه الله-: "وما تكونُ هذه الفواحِش إلا لأرعَنَ بطَّال، وقلَّ أن يكون في شُغلٍ من عبادةٍ أو صناعةٍ أو تجارةٍ".
وقال حكيمٌ: "هو سُوء اختيارٍ صادفَ نفسًا فارغة".
وأعظمُ الفراغ: فراغُ القلبِ من محبَّة الله وخشيَته ولذَّة القُربِ منه وحُسن عبادتِه، والنفسُ لا تقعُدُ فارِغة، فمن لم يشغَلها بما ينفَع شغلَتْه بما يضُرُّ.
ومن أسباب الانحِراف: وسائلُ الإعلام المُنحرِفَة، فلها تأثيرُها البالِغ في جرِّ الناس والنفوسِ إلى الهاوِيَة، في صُورِها، وكلِماتِها، وانفِعالاتِها، وقصصها، ومُسلسلاتها، مما يُبعِدُ عن الحياء والحِشمة، والوقارِ، والعِفَّة، والغَيرة، والمروءة.
ويكثُرُ في ذلك بعضُ الكِتابات، والمقالات المُنحرِفة، والروايات الساقِطة، وسِيَر المُنحرِفين والشَّاذِّين، وما يُسمُّونَه بمُغامراتهم العاطفيَّة، ومُراهقاتِهم الشَّانِئة.
لا بُدَّ من الرِّقابة الصارِمة على هذا الإعلام المُنحرِف، وعدم التهاوُن في بثِّ ما يُروَّج له أو يُهوِّن من وقعِه من القصص الخَليعة، أو التمثيليَّات السَّاقِطة، والروايات الإباحيَّة، والشُّذوذ الممقوت، نسأل الله الحماية والعافِية.
ومن أسباب الانحِراف: التهتُّك، والتبرُّج، والسُّفُور، وما يدعُو إليه من إطلاق البصر، والنظرُ بريدُ الفواحِش، وهو سهمٌ من سهام إبليس.
والحِشمةُ والسِّترُ لا يبعَثُها إلا دينٌ أو خُلُق، والسِّترُ والاحتِشام مُنسجِمٌ مع الغَيرة، والعُرِيُّ والتهتُّكُ مُنسجِمٌ مع الشهوة؛ فالغيرةُ تبعَثُ على الحِجاب، والشهوةُ تبعَثُ على السُّفور؛ بل لقد ضحَّوا بالغيرة من أجل المُتعَة، أخرَجوهنَّ كاسِياتٍ عارِياتٍ في مُقابِل أن تنازَلُوا عن غيرتهم على أزواجِهم وبناتهم وأخواتِهم.
ومن أسباب الانحِراف: سُوءُ استخدام أدوات التواصُل من الهواتِف، والشبكات، والمواقِع، وما يجُرُّه ذلك من سُوء القول والعمل، مما يُوقِع في سُوء العواقِبِ وسُوء الفِعال.
وبعدُ:
عباد الله: فإن من ضعُفَت غيرتُه على دينِه ضعُفَت غيرتُه على عِرضِه لا محالَة، وقد قالوا -وبِئسَ ما قالوا-: إن الحِجابَ والحِشمة والمُحافَظة هي التي تدعُو إلى الكَبتِ والحِرمان! وقد كشفُوا كلَّ شيءٍ، وأباحُوا كلَّ شيءٍ، وما زادَهم ذلك إلا سَعارًا وجنونًا في الجريِ وراء الشَّهوات، وإشباع الغرائِز في الحرام، فأحلُّوا ما حرَّم الله، وحرَّموا ما أحلَّ الله، حتى كادُوا أن يقولوا لأهل العِفَّة والحِشمة والكرامة: (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف: 82].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) [العنكبوت: 28- 30].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد بكمال الذَّات والصِّفات، أحاطَ علمُه بجميع الكائِنات، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه على ما أولاه من النِّعَم والخيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُبلِغ بفضلِه ومنِّه عاليَ الدرجات، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه ذو الفضلِ والشَّرف والمكرُمات، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الطيبين الطاهِرين الكرام السادات، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما دامَت الأرضُ والسماوات، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: انتِشارُ الفواحِش من أكبر أسباب زوالِ النِّعَم وحُلول النِّقَم؛ فإنها تُوجِبُ سخَطَ الله ومكرَه وإعراضَه عن الواقِع فيها، فأيُّ خيرٍ يُرجَى وأيُّ شرٍّ يُؤمَن من عبدٍ حلَّت عليه لعنةُ الله وسخَطُه؟! وكيف تكونُ حياةُ من مقتَه ربُّه وأعرضَ عنه ولم ينظُر إليه؟!
عباد الله: أما أسباب الوقاية والسلامة من هذه الفواحِش المُنكَرة؛ فأولُها: الإخلاصُ لله، واللُّجوء إليه، والعِياذُ بجنابِه -عزَّ شأنُه-، وقد قال الله في نبيِّه يوسف -عليه السلام-: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].
يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن العبدَ إذا ذاقَ طعمَ الإخلاصِ لم يكُن عندَه شيءٌ قطُّ أحلَى من ذلك، ولا ألذَّ ولا أمتعَ ولا أطيبَ".
فالله يصرِفُ عن عبدِه ما يسوؤُه من المَيل إلى هذه الفواحِش وأصحابِها والتعلُّقِ بها بإخلاصِه لربِّه.
ومن ذلك: غضُّ البصر؛ فغضُّ البصر يُورِثُ الراحةَ والطُّمأنينة، يقول -عزَّ شأنُه-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) [النور: 30].
فجعلَ غضَّ البصر وحِفظَ الفَرْج أقوى تزكيَةٍ للنفوس، وزكاءُ النفوسِ يتضمَّنُ زوالَ جميع الشُّرور من الفواحِش والظُّلم والشِّرك والكذِب وغيرِها، يقول بعضُ السَّلَف: "ما غضَّ أحدٌ بصرَه عما حرَّم الله إلا أوجدَ الله له نورًا في قلبِه يجِدُ حلاوةَ ذلك".
وغضُّ البصر يُورِثُ ثلاثَ خِصال: حلاوةَ الإيمان ولذَّتَه، ونورَ القلب وفِراسَتَه، وقُوَّةَ القلب وثباتَه وشجاعتَه.
وسُئِل الجُنَيد -رحمه الله-: بِمَ يُستعانُ على غضِّ البصر؟! قال: "بعلمِك أن نظرَ الله إليك أسبقُ إلى ما تنظُرُه".
من الأسباب المانِعة الحافِظة -بإذن الله وعونِه-: البُعدُ عن مواطِن الفواحِش، وبيئاتِها، وأماكن الرِّيَب، فإذا ابتعَدَ البدنُ ابتعَدَ القلبُ.
ومن ذلك: الاشتِغالُ بما ينفع، فإذا كان الفراغُ يُوقِعُ في المصائِب؛ فإن الاشتِغالَ بما ينفع يحفَظُ العُمر، ويُثمِرُ البرَّ والخير، وما ينفعُ لا يقعُ تحت حصرٍ؛ من خدمة الأهل، وطلب المعاش، والصناعات، والتِّجارات، والصُّحبة الطيِّبة.
ومن ذلك: الاجتِهادُ في أنواع الطاعات والعبادات، وقد قال -عزَّ شأنُه-: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]، وقال في الزكاة: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103]، ولاسيَّما الاشتِغالُ بالذِّكر والدعاء والاستِغفار وحُسن العبادة.
ومن الوصايا: الحِرصُ التامُّ على تماسُك الأُسرة، وبذل المزيد من الرِّعاية والعِنَاية، في الأبناء والبنات، وحُسن تربيتهم ووقايتهم من البيئات الموبوءَة.
عباد الله: لقد جدَّ أهلُ الفُحش والبَذاء ليُغيِّروا هذه الأسماء القذِرة والفحشاء الشَّنيعة، ليُضفُوا عليها أسماء، ويُروِّجُوا قبولَها ليخِفَّ وقعُها، ويهونَ إنكارُها.
فعلى علماء الأمَّة ورِجال الفِكر والرَّأي أن يقولوا كلمتَهم في رفعِ هِمَّة الأمة. إن أمَّتنا بأمَسِّ الحاجة إلى الأقلام الجادَّة، والمقالات الصادِقة، والأفكار المُخلِصَة، وإلى الهِمَم العالِية، والعزائِم القوية، والقول المُستنير، والله المُستعان وعليه التُّكلان.
أيها الأحبَّة: وإن من التحدُّث بنِعَم الله، ومما يسُرُّ أهلَ هذه البلاد -بلاد الحرمين الشريفين، المملكة العربية السعودية- ويسُرُّ قاصِديهما من الحُجَّاج والعُمَّار والزوَّار وعُمومَ أهل الإسلام: ما تنعَمُ به هذه البلاد -ولله الحمد- من أمنٍ وأمانٍ وإيمانٍ.
هذه الدولة المُبارَكة القائِمةُ على شرعِ الله، المُعتصِمةُ بحبلِه المتين، الحريصةُ على حفظِ هذا الكِيان الكَبير في رفع رايَة الشَّرع، ووحدة الوطَن، ولُحمة المُجتمع. كيف وقد وهبَها الله وليَّ أمرٍ أدامَ الله عِزَّه وحفِظَه، وهبَه حكمةً وبُعد نظرٍ وحُسن نظرٍ وتدبيرٍ وتخطيطٍ حاضِرًا ومُستقبلاً، خدمةً لدينِ الله، وقيامًا على مصالِح الأمة بلادًا وعبادًا.
لقد حرِصَ -أيَّده الله- على كل ما يُعزِّزُ استِقرارَ الدولة، واستِمرار مسيرتها مسيرةً مُتَّزِنة بإجراءات شرعيَّة ونظاميَّة ودُستوريَّة، مُنطلِقةً مما قامَت عليه هذه البلاد وتأسَّسَت من الاعتِماد على شرع الله، ثم مصلحة الوطن، ووحدة الأمة، في أسلوبٍ سلِسٍ، وروحٍ مُؤتلِفة.
يُجسِّدُ ذلك شعبٌ وفِيٌّ، وأُسرةٌ مالِكةٌ كريمةٌ، وهيئةُ بيعةٍ دُستوريَّة، مما يزيدُ مؤسَّسة الحُكم رُسوخًا وقوَّةً وفاعليَّة وتفاعليَّة، ويُرسِّخ البلاد وحدةً وأساسًا.
وعلى ضوء هذه المقاصِد والغايات والآليات جاء الاختيارُ الكريمُ لوليِّ وليِّ العهد، أعانَه الله وسدَّده، وكتبَ الخيرَ على يدَيه لما فيه صلاحُ العباد والبلاد، فهو أهلٌ لهذه الثِّقَة والمسؤوليَّة.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، واحمَدوا الله واشكرُوه على ما أنعمَ وتكرَّم وأولَى، واحفَظوا ما أنتم فيه من ولايةٍ راشِدة، وبلادٍ مُطمئنَّة.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في مُحكم تنزيلِه، فقال -وهو الصادقُ في قِيله- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
التعليقات