عناصر الخطبة
1/ خطورة انتشار داءِ انحراف المفاهيم 2/ من مظاهره 3/ آثاره 4/ مسؤولية العلماء في تصحيح المفاهيم 5/ تجلية القرآن الكريم للمفاهيم 6/ اعتناء النبي الكريم بتصحيح المفاهيم 7/ قصص تأريخية تبين اختلاط المفاهيماهداف الخطبة
اقتباس
لا أريد أن أتحدث عن تفاصيل، وإنما أريد -أيها الأحباب- أن أتحدث عن سمة من سمات هذه المرحلة التي نعيشها اليوم، هذه السمة -أيها الأحباب- سمة التيه، والاضطراب الفكري، والتخبط، والخلط بين المفاهيم؛ شيء عجيب، وأمر غريب، تعيشه الأمة اليوم، اختلطت فيه المفاهيم والتصورات؛ حتى أصبح الحليم اليوم حيران، لا يدري إلى أين يتجه، ولا يدري بماذا يأخذ.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق القول كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: أيها المسلمون عباد الله، على مر تاريخ الأمة الممتد لأكثر من ألف وأربعمائة عام مرت بالأمة أحداث كثيرة وتغيرات عظيمة تنوعت ما بين قوة وغلبة، وما بين ذل وانحطاط، تارة تكون في عزة ومنعة وتارة تكون في ضعف وهوان، تارة يكون هناك تقدم وانتصارات، وتارة تكون هناك هزائم وانكسارات، وهذه هي سنة الله -تبارك وتعالى- في خلقه، فليس هناك شيء يدوم على حاله، (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140].
وإن المتأمل في واقع المسلمين اليوم يجد أن الأمة الإسلامية تمر بمنحنى صعب، وبمنعطف خطير جدا، وتعيش مرحلة حساسة جدا في تاريخ الأمة القديم والحديث، قد لا يستشعر البعض خطورة هذه المرحلة، ولكن يكفي أن تفتح صحيفة أو قناة وأن تتابع فيها أخبار المآسي والقتل والدمار الذي لم تسلم منه بقعة من بقاع الديار الإسلامية.
يكفي أن تتابع تصريحات الأعداء وهم يتكلمون عن الأمة ويتحدثون عن قضاياها، بل ويقررون ويحددون مصيرها! بل ويفصحون عما يريدون فعله بهذه الأمة الإسلامية! يكفي -أيها الأخ الحبيب- لأجل أن تدرك خطورة هذه المرحلة أن تنظر في أحوال المسلمين الدينية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والثقافية والاجتماعية، يكفي أن تنظر إلى هذه الأحوال لأجل أن تدرك خطورة هذه المرحلة التي تعيشها الأمة اليوم.
لا أريد أن أتحدث عن تفاصيل، وإنما أريد -أيها الأحباب- أن أتحدث عن سمة من سمات هذه المرحلة التي نعيشها اليوم، هذه السمة -أيها الأحباب- سمة التيه، والاضطراب الفكري، والتخبط، والخلط بين المفاهيم؛ شيء عجيب، وأمر غريب، تعيشه الأمة اليوم، اختلطت فيه المفاهيم والتصورات؛ حتى أصبح الحليم اليوم حيران، لا يدري إلى أين يتجه، ولا يدري بماذا يأخذ.
وإن هذا -أيها الأحباب- من أخطر الأمور التي يمكن أن تصيب الأمة، فإن الأعمال والأفعال والنهضة والتقدم لا يمكن أن تبنى أبداً إلا على مفاهيم صحيحة، وعلى تصورات واضحة، فإذا اختلت المفاهيم واضطربت الأفكار نتج عن ذلك فساد الأعمال والأفعال والأقوال.
إذا سألت المسلمين اليوم عن الإسلام: ما هو الإسلام؟ تجد أن المسلمين يختلفون اختلافا كبيرا! هذا يقول: الإسلام إنما هو العبادة، والآخر يقول: الإسلام إنما هو العلم، والثالث يقول: الإسلام إنما هو الجهاد، والرابع يقول: الإسلام إنما هو الأخلاق، والخامس يقول: الإسلام إنما هو كذا وكذا... وكل واحد يفسر الإسلام من منظوره الشخصي وبحسب ما يراه هو ويتصوره هو، حتى صرنا نسمع عن أنواع من الإسلام! صرنا نسمع عن إسلامي سياسي وإسلام جهادي وإسلام صوفي وإسلام شيعي وإسلام عصري وإسلام عقلي، بل صرنا نسمع عن إسلام ليبرالي وإسلام علماني! وربما يأتي اليوم الذي نسمع فيه عن إسلام يهودي أو إسلام نصراني؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
هذا من الاضطراب الشديد الذي تعيشه الأمة اليوم، الإسلام هو الإسلام، دين الله -سبحانه وتعالى- الشامل لجميع مناحي الحياة الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون قانون الأمة ودستورها، ليكون حاكمها وميسر أمورها.
الإسلام الذي قال الله -تبارك وتعالى- عنه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء)، يتوجهون إلى الله ويعرضون عن كل ما سواه، (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5].
الإسلام الذي قال الله -تبارك وتعالى- عنه: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65].
الإسلام الذي أمر الله -عز وجل- عباده أن يدخلوا فيه كله، لا يتركوا منه شاذة ولا فاذة، لا يتركوا منه شيئا، بل يعملوا به كله، قال الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) [البقرة:208].
ولكن -أيها الأحباب- بسبب اختلاط المفاهيم ضاع مفهوم الإسلام الصحيح، وضاعت حقيقة الإسلام، وصار الإسلام اليوم يضرب باسم الإسلام، صار الإسلام يحارب باسم الإسلام، صار الناس ينسلخون عن الإسلام باسم الإسلام، وهذا أحدث فتنة كبيرة سببت حالة شك وارتياب لدى كثير من المسلمين حين وجدوا هذا الاضطراب الشديد.
ومن هنا صارت المسؤولية عظيمة وكبيرة على العلماء أن يبينوا للأمة الإسلام الصحيح الذي ارتضاه الله -تبارك وتعالى- لها، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة:3]، ما هو الإسلام الذي رضيه الله -تعالى- دينا لهذه الأمة؟ بيان هذا وتوضيحه مسؤولية عظيمة تناط بأعناق العلماء، يبينون للناس ويرجعون الناس إلى المعين الصافي والمنبع العذب الزلال الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، إرجاع الأمة إلى ما كان عليه محمد وأصحابه من النهج الصافي المستقيم ومن الدين الواضح القويم، بعيدا عن المذهبيات، بعيدا عن الحزبيات، بعيدا عن الفئوية، بعيدا عن الولاءات الضيقة المحدودة؛ فإن اليوم ليس وقت هذه التحزبات والتكتلات، إن اليوم هو وقت عودة الأمة كلها جميعا بأفرادها وجماعاتها ودولها وأممها عودتها كلها إلى نهج محمد -صلى الله عليه وسلم-، إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية التي تجمع الأمة ولا تفرقها، وتوحدها ولا تشق صفها.
هذا هو ميدان المعركة الكبرى التي نزلت فيه اليوم القوى العالمية كلها بقضها وقضيضها، وبكل إمكانياتها، سخرت أموالها وسخرت إعلامها وسخرت جيوشها واستخباراتها، سخرت هذا كله من أجل إبقاء صورة الإسلام مشوهة في نفوس أبنائه قبل أن تكون مشوهة في نفوس أعدائه؛ فإنهم يدركون حق الإدراك أن الأمة متى ما فهمت الإسلام فهما صحيحا فلن يقوم لهم أحد، ولن تقف أمامها أي قوة على هذه الأرض. قال أحدهم: "أعطوني أربعين شابا يفهمون الإسلام فهما صحيحا ويطبقونه تطبيقا صحيحا ويدعون إليه دعوة صحيحة أفتح لكم بهم العالم كله". أدركوا هذه الحقيقة! ولهذا بذلوا كل جهودهم لأجل إبقاء الإسلام مشوها في نفوس أبنائه، اختلطت المفاهيم عند المسلمين، صار العدو صديقا والصديق عدوا، صار القريب بعيدا والبعيد قريبا، صار الحبيب بغيضا والبغيض حبيبا، اختلت هذه الموازين اختلالا كبيرا، مع أنها مبينة في كتاب الله بيانا واضحا شافيا كافيا.
أتدرون من هو العدو؟ هو الذي قال -تعالى- فيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) [الممتحنة:1]، إنهم الذين كفروا بما عندنا من الحق من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
أتدرون من العدو؟ هم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة:51].
أتدرون من العدو؟ هم الذين قال -جل وعلا- فيهم: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون:4]، قال -عز وجل- هذا في شأن المنافقين.
هذا بيان واضح شاف كاف، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة .
ومن هو الصديق؟ هو الذي قال -عز وجل- فيه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة:55].
هم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)، يتولى بعضهم بعضا، وينصر بعضهم بعضا، ويحب بعضهم بعضا.
أدلة واضحة ونصوص صريحة ولكنها -للأسف الشديد- غير واضحة عند كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، فصارت قوة المسلمين فيما بينهم والأعداء سالمون منهم، فإذا أعيتهم الحيل وانقطعت بهم السبل واشتد بأسهم بينهم لجؤوا إلى عدوهم ليحكم بينهم!
ومن يكن الغراب له دليلا *** يمر به على جيف الكلاب
ما السبب في هذا؟ انحراف المفاهيم، أليس هذا هو الذي قال عنه محمد -صلى الله عليه وسلم-: "قبل الساعة سنوات خداعة، يُصدَّقُ فيها الكاذبُ ويكذب فيها الصادق، يُخوَّنُ فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن".
أليست هذه هي الأيام التي نعيشها وهذه الحال التي نحن فيها -أيها الأحباب-؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله من زمن صار المسلم يستعين فيه بالكافر على أخيه! ولا حول ولا قوة إلا بالله من زمن صار المسلم يقتل المسلم والكافر في مأمن وفي منأى عنه!.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
وبعد: أيها الأحباب الكرام، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرص أشد الحرص على أن يوضح المفاهيم للناس ويبينها لهم بينا شافيا كافيا، وكان يعتني أشد العناية بإزالة الإشكالات والأخطاء التي تقع في التصورات عند الناس؛ لأنه كان -صلى الله عليه وسلم- يدرك إدراكا يقينيا أن الخطأ في الفهم ينتج خطأ في الفعل، وأن التصورات إذا انحرفت أدت إلى انحراف في الواقع، فكان -صلى الله عليه وسلم- لا يترك مفهوما خاطئا ينشأ عند الناس إلا ويبادر بعلاجه؛ لأن هذا المفهوم إذا استقر في النفوس ورسخ فيها يصعب بعد ذلك تصحيحه.
بين النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا من المفاهيم، بين مفهوم المسلم ومفهوم المؤمن والمهاجر والمجاهد، بين معنى المفلس ومعنى الكبر، وغير ذلك من الأمور، قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وقال: "المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم"، وقال: "المهاجر من هجر ما نهى الله -عز وجل- عنه"، وهكذا أمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- تدل على حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- واعتنائه الشديد بتصحيح المفاهيم.
وقبل ذلك كتاب الله -عز وجل- مملوء ببيان المفاهيم الصحيحة وتصحيح المفاهيم الخاطئة، والواجب على المسلم أن يعتني بهذا الجانب وأن يستمد مفاهيمه وتصوراته من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فهم سلف الأمة وعلمائها وأئمتها المعتبرين، لا ينفرد الإنسان بعقله ورأيه ولا يستقل بفهمه وإدراكه ويظن أنه على خير، فإن مثل هذا قد يوقعه في أمور عظيمة وفي طوام كبيرة لا ينحصر ضررها على شخصه ونفسه بل يتعدى ضررها إلى بقية المسلمين.
حين انحرفت المفاهيم ووجد فيها الخلط حصل التناقض في حياة المسلمين، وجد من المسلمين من يشرب الخمر ثم يأتي ويسأل ويقول: شربت الخمر ولم أقل بسم الله فما الحكم! جاء رجل إلى ابن الجوزي -رحمه الله- وقال: يا إمام، زنيت والمرأة الآن حبلى من الزنا، فقال لولا احترزت فلم تجعل المصيبة مصيبتين! مصيبة زنا ومصيبة حمل، هلا كنت احترزت فكانت مصيبة فقط وعزلت؟ فقال هذا الرجل: يا إمام، بلغني أن العزل مكروه، فقال: سبحان الله! بلغك أن العزل مكروه ولم يبلغك أن الزنا حرام؟! هذا من الخلط في المفاهيم.
يأتي رجل إلى الإمام، يأتي إليه أحد الجلادين الذين كانوا يعذبونه ظلما وعدوانا فيسأله يقول: يا إمام، إذا جلدتك تطاير الدم على ثوبي، فما حكم الصلاة في هذا الثوب الذي فيه دم من دمك؟ سبحان الله! يسأل عن الصلاة ولا يسأل عن الظلم الذي يفعله ويرتكبه.
ابن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- يأتيه رجل من أهل العراق فيقول: يا أبا عبد الرحمن، ما حكم قتل البعوضة؟ فقال ابن عمر: "يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغائر وأجرأكم على الكبائر! تقتلون الحسين بن علي ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتسألون عن دم البعوض؟!"، هل هذا هو الفهم الصحيح للدين؟ هل هذا هو التصور الصحيح للإسلام؟ خلط عجيب، واضطراب غريب.
واسمعوا -أيها الأحباب- إلى هذه القصة العجيبة الغريبة التي تدل على مدى تأثير اختلاط المفاهيم وكيف يكون أثرها في الواقع: يروي الإمام ابن الأثير المؤرخ -رحمه الله- أن جماعة من الخوارج في عهد التابعين لقوا عبد الله بن خباب بن الأرت -رحمه الله- فقالوا له: من أنت؟ قال عبد الله بن خباب صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكلكم تعرفون من هو خباب بن الأرت، صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحد السابقين الأولين؛ فسألوه عدة أسئلة، وكان مما سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهم خيرا، قالوا: فما تقول في عثمان في أول خلافته وآخرها؟ قال إنه محق في أول خلافته وآخرها، فما تقول في علي قبل التحكيم وبعد التحكيم؟ فقال -رحمه الله- إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك رجل تتبع الأهواء، وتقلد الرجال في أسمائهم لا في أفعالهم، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها لأحد، فأخذوه وكتفوه وأضجعوه تحت نخلة، فسقطت رطبة من هذه النخلة فأخذها أحدهم ليأكلها فصاح به الآخر، قال: اتق الله! كيف تأخذها بغير حلها وثمنها؟ فتركها! الآن سيقتلون مسلما بغير حق ويتحرزون من التمرة!.
ثم مر خنزير لرجل من أهل الذمة، ليهودي أو نصراني، فقام إليه أحدهم فضربه بالسيف وقتله فصاحوا به: هذا فساد في الأرض،كيف تقتل هذا الخنزير لرجل من أهل الذمة؟ فذهب إلى صاحبه وأرضاه، أعطاه من المال حتى رضي، فلما رأى عبد الله منهم هذه التصرفات أمل خيرا، أناس يتورعون في التمرة ويتورعون في خنزير لذمي، فقال -رحمه الله-: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم بأس، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ولقد أمنتموني، أنتم قلتم لي لا روع عليك، أعطيتموني الأمان وأرى منكم هذا الورع، فأخذوه وذبحوه، ثم قتلوا امرأته وبقروا بطنها وكانت حاملا!.
انظروا -أيها الأحباب- حين تختلط المفاهيم وحين تختل الموازين؛ هكذا تكون النتائج.
فنسأل الله-سبحانه وتعالى- أن يرزقنا بصيرة في دينه، وأن يفقهنا في كتابه وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يعلمنا دينه، وأن يفقهنا فيه.
التعليقات