اقتباس
الحكمة من الاقتصاد بالموعظة والخطبة، حتى لا يضجر السامعون، وتذهب حلاوته وجلالته من قلوبهم، ولئلا يكرهوا العلم وسماع الخير، فيقعوا في المحذور، ولأن تقصيرها أوعى لسامعه واحفظ له. والخطبة إذا طالت أضاع آخرها أولها كما أن طولها يُدْخل الملل على السامعين، خاصة إذا كان الخطيب ممن لا يحرك القلوب والمشاعر ويبعث الهمم قال النووي: "يستحب تقصير الخطبة حتى لا يملوها، ويكون قصرها معتدلا ولا يبالغ بحيث يمحقها"
اعلم أن خطبة الجمعة عبادة ربانية تعبدنا الله بها، وفق أحكام وآداب تبرز من خلالها شخصية الخطيب العلمية، وتُبقي لخطبة الجمعة معناها الشرعي، وهدفها الحقيقي، وحيث ظهر من تجاوز تلك الأحكام بإطالة الخُطب وتقصير الصلاة. فقد رأيت أن أغوص في جزئيات هذه المسألة ([1]) جامعًا الأدلة النبوية، وأقوال سلف الأمة، بل وبعض سيرهم؛ لمعرفة حكم تقصير الخطبة وتطويل الصلاة؛ ليسترشد قاصد الحق والصواب، وتتضح حقيقة الهدي النبوي في تذكير الناس ووعظهم إذ "خير الكلام ما قلَّ ودل ولم يَطُل فَيُمَل"، وقد قيل (في الإشارة ما يُعني عن كثير من الِعَبارة) فأقول وبالله التوفيق:
تعريف الخطبة:
الخطبة: بضم الخاء مصدر خطبت على المنبر خطبة. وهي اسم للكلام الذي يتكلم به الخطيب. والخطبة تعتمد على جمل قصيرة وألفاظ مألوفة، ومعان قريبة للسامع. فيفهمها الخاصة والعامة والمراد بالخطبة هنا: هي كلام منتخب يتضمن وعظًا وإبلاغًا. وفق أحكام الإسلام ومقاصده؛ لدعوة الناس إلى خيري الدنيا والآخرة ([2]) ففي الحديث: "كان رسول الله يخطب قائمًا ويجلس بين الخطبتين ويقرأ آيات ويُذكر الناس" ([3]).
طول صلاة الرجل وقصر خطبته من علامة فقهه:
ثبتت السنة بالحث على تطويل صلاة الجمعة وتقصير خطبتها، وأنها علامة من علامات فِقْه الخطيب. فعن عمار بن ياسر –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا"([4]).
فمن اتصف بهذه الصفة كانت دليلاً على فقهه. حيث أتى بالمعاني الكثيرة بكلمات موجزة قصيرة مفيدة. قال الشوكاني: "لأن الفقيه هو المُطِّلع على جوامع الألفاظ، فيتمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر عن المعاني الكثيرة".
وعن جابر بن سمرة –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة وإنما هي كلمات يسيرات"([5]).
وعن الحكم بن حزن أنه شهد الجمعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوكئاً على قوس أو قال: على عصا فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات"([6]).
وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويُذَكِّر الناس، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا([7]).
وقصد الخطبة: هو التوسط بين الإفراط والتفريط، ولا يعني هذا المساواة بين الصلاة والخطبة لحديث عمار السابق، فانظر إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- وإلى فعله فقد اتفقا على تقصير الخطبة، وإطالة الصلاة. لأن المقصود من الخطبة وعظ الناس وتذكيرهم بأمر ربهم. وهذا يكون بأخصر العبارات، وأيسر الكلمات. فَخُطَب السلف -رحمهم الله- كانت كلمات معدودات، جامعات للمعاني يحفظها كل سامع. وتؤثر بالأمي والعالم.
الحكمة من الحث على قصر الخطبة:
الحكمة من الاقتصاد بالموعظة والخطبة، حتى لا يضجر السامعون، وتذهب حلاوته وجلالته من قلوبهم، ولئلا يكرهوا العلم وسماع الخير، فيقعوا في المحذور، ولأن تقصيرها أوعى لسامعه واحفظ له. والخطبة إذا طالت أضاع آخرها أولها كما أن طولها يُدْخل الملل على السامعين، خاصة إذا كان الخطيب ممن لا يحرك القلوب والمشاعر ويبعث الهمم ([8]). قال النووي: "يستحب تقصير الخطبة حتى لا يملوها، ويكون قصرها معتدلا ولا يبالغ بحيث يمحقها"([9]).
وقال أبو عبيدة: "وإنما جعل عليه الصلاة والسلام ذلك علامة على فقهه لأن الصلاة هي الأصل والخطبة هي الفرع، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بزيادة" ([10])، وقيل من الحِكم "لأن حال الخطبة توجهه إلى الخَلْق، وحال الصلاة مقصده الخالق فمن فقاهة قلبه إطالة معراج ربه" والله أعلم.
تطويل الخطبة للحاجة:
ومع هذا فقد يعرض للخطيب أحيانًا ما يوجب إطالة الخطبة. كأن يتناول معالجة قضية عصرية، أو دفع شبهة مضللة، أو نحو ذلك من مهمات المجتمع الإسلامي. غير أن هذا لا يتنافى مع الأمر بقصر الخطبة؛ لأنه أمر عارض لا دائم لما روى مسلم "أنه عليه الصلاة والسلام صلى الفجر وصعد المنبر، فخطب إلى الظهر، فنزل وصلى وصعد وخطب إلى العصر، ثم نزل وصلى ثم صعد وخطب إلى المغرب فأخبر بما كان وما هو كائن".
قال ابن القيم -رحمه الله- في هديه -صلى الله عليه وسلم- بالخُطَب: "وكان يقصر خطبته أحيانًا ويطيلها أحيانًا بحسب حاجة الناس"([11]).
وقال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "وأحيانًا تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحيانًا لاقتضاء الحال فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهًا"([12]).
أما ما يصنعه بعض الخطاب فيمضي الوقت الطويل في إلقاء الخطبة ويوجز في الصلاة فهو خلاف سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ودليل على عدم التدبر بالحكم النبوية والمقاصد الشرعية.
فالخُطب الفذة لا تقاس بكثرة الكلام، وطول الإلقاء. وإنما هي كلمات موزونة بمعان مؤثرة. تخرج من قلب شفيق، فتلقى آذانًا صاغية، وقلوبًا واعية، فتقع موقعًا مؤثرًا.
مقدار صلاة الجمعة:
علمت فيما سبق أمر الشارع بتطويل صلاة الجمعة لكن هذه الإطالة لابد أن تتناسب مع قصر الخطبة. ويتضح هذا جليًا من خلال مقدار السور المشروعة قراءتها في هذه الصلاة كسورتي الأعلى والغاشية أو الجمعة والغاشية أو الجمعة وسورة المنافقين.
ولا يتنافى أمره -صلى الله عليه وسلم- بإطالة صلاة الجمعة مع أمره بتخفيف الصلوات والنهي عن المشقة على المأمومين؛ لأن هذه إطالة لا تخرج عن الصفة المشروعة ويؤيد هذا رواية: "وكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا". قال النووي: في معنى الحديث: "أي بين الطول الظاهر والتخفيف الماحق".
فلله در ذلكم الخطيب الموفق جعل سنة نبيه نصب عينيه فاحتذى واقتدى معتبرًا بسنن من مضى، فلا تململ من السامعين، ولا مشقة على المأمومين ([13]).
هديه –صلى الله عليه وسلم- في خطبة الجمعة:
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن تأمل خطب النبي –صلى الله عليه وسلم-، وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدي والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله، وذِكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم. ثم طال العهد، وخفى نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر، رسومًا تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به فجعلوا الرسوم والأوضاع سننًا لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصَّعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر، وعلم البديع، فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها" ([14]).
وقال الشيخ صالح الفوزان: "وقول هذا ما قاله الإمام ابن القيم في طابع الخطب في عصره، وقد زاد الأمر على ما وصف حتى صار الغالب على الخطب اليوم أن تكون حشوًا من الكلام قليل الفائدة، فبعض الخطباء أو كثير منهم يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرس يرتجل فيه ما حضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة، ويطيل الخطبة إطالة مملة، حتى إن بعضهم يهمل شروط الخطبة أو بعضها ولا يتقيد بمواصفاتها الشرعية. فهبطوا بالخطب إلى هذا المستوى الذي لم تعد معه مؤدية للغرض المطلوب من التأثير والتأثر والإفادة. فيا أيها الخطباء: عودوا بالخطبة إلى العهد النبوي (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]. ركزوا مواضيعها على نصوص من القرآن والسنة تتناسب مع المقام وضمنوها الوصية بتقوى الله والموعظة الحسنة. عالجوا بها أمراض مجتمعاتكم بأسلوب واضح مختصر، أكثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب، ونور البصائر. إذ ليس المقصود وجود خطبتين فقط بل المقصود أثرها في المجتمع"([15]).
خطب السابقين الأولين:
سلفنا الصالح مَعِيْن لا ينضب عرفوا الحق فاتبعوه، وعضوا عليه بالنواجذ، عرفوا الحق للحق، غير غالين ولا جافين، إمامهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- به يقتدون وبه يهتدون. لذا سطر التاريخ هديهم وسمتهم.
نقتبس جانبًا من أقوالهم وأفعالهم في صلاة الجمعة وقصر خطبتها تذكيرًا للغافل، وشحذًا لذهن كل فاهم:
1-خطب عثمان –رضي الله عنه- وأوجز فقيل له: لو كنت تنفست فقال: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة"([16]). معنى قوله: لو كنت تنفست: أي مددت الخطبة وطولتها.
2-وعن أبي راشد قال خطبنا عمار فتجوز الخطبة فقال رجل: قد قلت قولاً شفاء لو أنك أطلت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن نطيل الخطبة([17]).
3-قال: عمر –رضي الله عنه-: "طولوا الصلاة وقصروا الخطبة"([18]).
4-وعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: "أطيلوا هذه الصلاة وأقصروا هذه الخطبة يعني صلاة الجمعة"([19]).
5-وقال أيضًا: "طول الصلاة وقصر الخطبة من فقه الرجل" ([20]).
6-وعن عمرو بن شرحبيل قال: "من فقه الرجل قصر الخطبة وطول الصلاة" ([21]).
ومن أقوال الفقهاء والمحدثين:
قال النووي: "يستحب تقصير الخطبة حتى لا يملوها"، وقال الكاساني: "ويكون قدر الخطبة قدر سورة من طوال المفصل" المراد بالمفَصَّل قصار السور من سورة (ق) إلى سورة (الناس).
وقال الشوكاني: "إقصار الخطبة أولى من إطالتها"، وقال في المرقاة: "لأن الصلاة مقصودة بالذات، والخطبة توطئة لها فتصرف العناية إلى الأهم"، وفي الفتح الرباني قال "لا خلاف بين العلماء في استحبابه – أي تقصير الخطبة – إنما الخلاف في أقل ما يجزئ" بل قال ابن حزم: "ولا تجوز إطالة الخطبة"([22]).
وقال ابن القيم في معرض ذِكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة: "وكان يقصِّر الخطبة، ويطيل الصلاة، ويكثر الذِّكر، ويقصد الكلمات الجوامع". وبوب البيهقي في سننه بابًا في كتاب الجمعة فقال: "باب ما يستحب من القصد في الكلام وترك التطويل". وعند مسلم "باب تخفيف الصلاة والخطبة"([23]).
إذًا قصر الخطبة لا نزاع فيه بين أهل العلم إن لم يكن إجماعًا ([24]). بل من الفقهاء من ذكر أن تكون الخطبة الثانية أقصر من الخطبة الأولى، كالإقامة مع الأذان، والقراءة في الركعة الثانية أقصر من الأولى ([25]).
هذا قليل من كثير به يعرف اللبيب، الامتثال الصادق، والفهم الثاقب، والانقياد الأمثل من أولئك الأفذاذ. فتأمل هذه الأقوال والأفعال بعين التبصر والاعتبار، إذ هي مبنية على الدليل والتعليل. فأوصيك في السير في ظلها فإن الخير كل الخير بالأخذ بهديه -صلى الله عليه وسلم- والتزام طريقته؛ لأنه أشفق الأمة بالأمة، فلا إفراط ولا تفريط قال ابن عائشة: "ما أمر الله –تعالى- عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، فإما إلى غُلُوٍّ، وإما إلى تقصير فبأيهما ظَفَر قَنع"([26]).
وأخيرًا أقول:
قد تبين لك الحق، المنبثق من مشكاة النبوة، مقرونًا بصحيح الأدلة، وأقوال الأئمة، تحفة الحكم والعلل، والتي برز من خلالها مقاصد الشارع الحكيم من التقصير وعدم التطويل.
فالزم رعاك الله هذا الحق البين، وتقيد بالسنة المطهرة. تظفر بخيري الدنيا والآخرة. فكم نحن بحاجة إلى الخطيب العالم المتبصر، والفقيه المتأمل. لأن نفعه متعدي، وأثره نافذ باق، يخاطب الجموع، فيعكس حقيقة سماحة التشريع الرباني، وشفقته. فكن خير داع في خير أمة. ومجانبًا لكل ما قد يُصدع جدار الأمة.
فالله أسأل أن يهدينا إلى الصواب ويجنبنا الخطأ والزلل، إنه أهل الهداية والتوفيق.
---
([1]) راجع جواهر الأدب 1/333.
([2]) لسان العرب، القاموس المحيط، معجم مصطلحات الفقهاء (كلمة خطب).
([3]) رواه مسلم.
([4]) رواه مسلم.
([5]) رواه أبو داود ورجال إسناده ثقات.
([6]) رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة قال: في الفتح سنده جيد.
([7]) رواه مسلم.
([8]) انظر الأذكار للنووي ص267.
([9]) انظر الشرح الممتع لابن عثيمين والمجموع للنووي 4/448.
([10]) انظر مرقاة المفاتيح 3/499.
([11]) انظر زاد المعاد (1/191).
([12]) انظر الشرح الممتع (5/78).
([13]) انظر سبل السلام (2/101) وشرح النووي على صحيح مسلم (6/153) ونيل الأوطار (3/270).
([14]) انظر زاد المعاد (1/424).
([15]) انظر مقدمة الخطب المنبرية.
([16]) رواه مسلم.
([17]) رواه أحمد بسند جيد ورواه ابن أبي شيبة والبيهقي.
([18]) انظر بدائع الصنائع.
([19]) رواه البيهقي.
([20]) المرجع السابق (1/391).
([21]) انتظر التمهيد لابن عبد البر (4/258).
([22]) انظر المحلى (5/60).
([23]) مسلم (2/59).
([24]) انظر الإنصاف (2/397).
([25]) انظر حاشية ابن قاسم (2/457) وكشاف القناع (2/6).
([26]) انظر كتاب العزلة.
التعليقات