اقتباس
فانظر -رحمك الله- يا صاحب المنبر كيف أنت عند جمع كلمات الخطبة وعند إلقائها وعند الانتهاء منها. فإن المدار على هذه المضغة صلاحًا وفسادًا. فالقبول مقرونًا بصدق النية وإخلاص العمل رزقني الله وإياك الإخلاص في القول والعمل، ومجانبة كل نقص وزلل..
أهدي هذه الأحكام وشيئًا من الآداب إلى صاحب المنبر؛ ليستذكر ما قد يسهو عنه، ويؤكد ما ظهر له؛ لأنه إمام يُقتدى به ويحتذى، وخطؤه يُدوِّي ويعظم، قيل لعبد الملك بن مروان عجل بك الشيب قال: "وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة" ([1]).
قاله مع بلاغته وفصاحته وإقدامه وقد قال: الأصمعي: "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية".
وقبل أن تبدأ مطالعتك لهذا المقال؛ أود تذكير شخصك الكريم بهذه الوصية، راجياً من الله أن ينفعنا وإياك بها:
أخي الخطيب المبارك:
لما كانت الخطبة عبادة لله -سبحانه وتعالى- يقصد منها التقرب إليه بتذكير الناس ووعظهم ونصحهم، فقد جاء الوعيد الشديد لمن قصد غير وجه الله بها – نسأل الله السلامة – فعن بشير بن عقربة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قام بخطبة لا يلتمس بها إلا رياء وسمعة وقفه الله -عز وجل- موقف رياء وسمعة"([2]).
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قام مقام رياء راءى الله به، ومن قام مقام سمعة سمَّع الله به"([3]).
وجاء في السير أن عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- ربما قطع خطبته ونزل فلما قيل له في ذلك قال: أعجبتني نفسي فنزلت.
وقد سأل عمر بن ذر أباه مالك إذا تكلمت أبكيت الناس، فإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟ قال: "ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة"([4]). وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "إنه تكلم مرة فتاب في المجلس على يده نحو مائتي رجل" ([5]).
فانظر -رحمك الله- يا صاحب المنبر كيف أنت عند جمع كلمات الخطبة وعند إلقائها وعند الانتهاء منها. فإن المدار على هذه المضغة صلاحًا وفسادًا. فالقبول مقرونًا بصدق النية وإخلاص العمل رزقني الله وإياك الإخلاص في القول والعمل، ومجانبة كل نقص وزلل.
ما جاء فيمن أطال الخطبة وقصر الصلاة:
إن من يتأمل خُطب الجمعة في حاضرنا، يرى كثيرًا من الخطباء قد نحى منحًا يخالف السنة، إما لقلة العلم والفقه بأحكام الخطبة، أو اجتهد اجتهادًا خالف به النصوص الصحيحة الصريحة بإطالة الصلاة وقصر الخطبة. مما صير الخطبة أضعاف وقت الصلاة. مع الإمكان أن يأتي بها بأوجز عبارة، وأجمع معنى. ومثل هذا ورد ذمه بصحيح الأخبار، إذ هو علامة من علامات تقارب الزمان.
فعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: "إنكم في زمان الصلاة فيه طويلة، والخطبة فيه قصيرة، وعلماؤه كثير، وخطباؤه قليل، وسيأتي على الناس زمان الصلاة فيه قصيرة، والخطبة فيه طويلة، خطباؤه كثير، وعلماؤه قليل.."([6]).
ورواه الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان: إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي. يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون الخطبة. يُبدُّون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، يحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده. كثير من يسأل، قليل من يعطين، يطيلون فيه الخطبة، ويقصْرُونُ الصلاة يُبدُّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم) ([7]).
قال الشيخ حمود التويجري -رحمه الله-: "وهذا الحديث له حكم المرفوع؛ لأنه إخبار عن أمر غيبي ومثله لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف".
قوله: تضيع حروفه معناه: أنهم لا يتكلفون في قراءة القرآن كما يتكلف كثير من المتأخرين، ولا يتقعرون في أداء حروفه كما يتقعر كثير من المتأخرين. ومعنى يبدون: أي يُقَدِّمون. وقال -رحمه الله-: "وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا فَقَلَّ فيه الفقهاء، وكثر فيه القراء الذين يحفظون حروف القرآن، ويتقعرون في أدائها، ويضيعون حدود القرآن، ولا يبالون بمخالفة أوامره وارتكاب نواهيه، يطيلون الخُطب، ويقصرون الصلاة، ويقدمون أهواءهم قبل أعمالهم، وقد رأينا من هذا الضرب كثيرًا، فالله المستعان) ([8]).
سلام الخطيب على المصلين:
يسن للخطيب أن يُسلم مرتين إحداهما إذا دخل المسجد سلم على من يمر به لعموم أدلة الأمر بالسلام.
والثانية: إذا صعد المنبر.
وهذا السلام عام لجميع المصلين تأسيًا به –صلى الله عليه وسلم-. ولفعل الصحابة -رضوان الله عليهم- من بعده ورد السلام في هذه الحال فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين([9]).
إقبال الخطيب بوجهه على المصلين حال خطبته:
يسن في حق الخطيب أن يقصد تلقاء وجهه حال خطبته. فلا يتجه يمينًا ولا شمالاً لأنه فعله؛ ولأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضًا عن الآخر. بل حكى النووي -رحمه الله-: اتفاق العلماء على كراهية هذا الالتفات؛ لأن خطبة الجمعة أمر تعبدي مُتَلقى عن الشارع فلا يزاد فيه ولا ينقص ([10]).
تحريك اليدين أثناء الخطبة:
يشرع للخطيب -ما لم يخطب من صحيفة- أن يمسك يده اليسرى بيده اليمنى أو يرسلهما عند جنبيه ولا يحركهما والحكمة من ذلك الخشوع وعدم العبث. غير أن له الإشارة بإصبعه السبابة إذا دعا، فعن عُمارة بن رويبة –رضي الله عنه- رأى بشر بن مروان رفع يديه في الخطبة فقال –رضي الله عنه-: "قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المُسبحة"([11]).
وقال الشافعية والمالكية ببدعية رفع اليدين حال الخطبة وأيضًا عند أبي البركات، أما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فذهب إلى كراهية ذلك ويستثنى من هذا الاستسقاء حال خطبة الجمعة فإنه يشرع للجميع رفع اليدين، بل يبالغ الإمام بالرفع حتى يبدوا بياض إبطيه. لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى إبِطَيْه([12]).
وبهذا يتضح مجانبة كثير من الخطباء سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عندما يحركون أيديهم حال خُطبهم.
فالخير كل الخير بالأخذ بالسنة المطهرة فما اندثرت سنة إلا حل مكانها بدعة.
التقعر في الخطابة:
اختيار جميل الألفاظ، وجوامع الكلم، وبديع المعاني، في صياغة المواعظ والخطب - له أثر واضح لما يضيفه على الخطبة من رونق مؤثر، فيزيد السامع شوقًا إليها، وتدبرًا لمعانيها؛ لأن المقصود من الخطابة تحريك القلوب، وتشويقها، وقبضها، وبسطها. في الحديث "إن من البيان لسحرا". ومع هذا فإنه ينبغي للخطيب أن يقصد اللفظ الذي يفهمه السامعون فهما جليًا خاليًا من كل غموض. فممن اشتهر في هذا الفن ابن الجوزي الحافظ والمفسر والواعظ المسدد فقيل فيه: (وله في الوعظ العبارات الرائقة، والإشارات الفائقة، والمعاني الدقيقة، والاستعارة الرشيقة. وكان من أحسن الناس كلامًا، وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا) ([13]) فكم رَقَّق من القلوب، وأسال من الدموع بأسلوبه المؤثر فاهتدى لذلك الكثير، وتاب على يديه الجمع الغفير.
أما الإفراط في هذا الفن، والمبالغة في تتبع غرائب الألفاظ. فإنه يكره لأنه تصنع مذموم، وتكلف ممقوت، وتقعر ممجوج، ولأنه إضاعة لمعنى الخطبة في سبيل البراعة في الأسلوب، فعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا([14]).
والمراد بالتنطع المبالغة في الأمور تعمقًا واستقصاءً.
قال الإمام الغزالي ([15]): "والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به، وتلاحق بكائهم وزعقاتهم، وإقبالهم عليه، لذة لا توازيها لذة، فإذا غلب ذلك على قلبه، مال طبعه إلى كلام مزخرف يروج عند العوام وإن كان باطلاً، ويَفِر عن كل كلام يستثقله العوام؛ وإن كان حقًا. ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام، ويعظم منزلته في قلوبهم، فلا يسمع حديثًا أو حكمة إلا ويكون فرحه به من حيث أنه يصلح لأن يَذْكُره على رأس المنبر".
فتدبر هذه المعاني، واقصد الحق من غير تكلف أو تنطع. فإن الزيادة في زخرفة القول تورث لدى السامع الاستثقال، وانصراف البال. والله المستعان. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---
([1]) سير أعلام النبلاء (4/248).
([2]) رواه الطبراني وأحمد وقال الهيثمي رجاله موثقون.
([3]) رواه الطبراني وقال الهيثمي إسناده جيد.
([4]) العقد الفريد (3/195).
([5]) طبقات الحنابلة (3/410).
([6]) رواه الطبراني ورواه البخاري في الأدب المفرد قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح والحديث حسنه الألباني.
([7]) رواه الحاكم في مستدركه من حديث هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود t مختصرًا، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
([8]) اتحاف الجماعة (2/104).
([9]) انظر الإنصاف (2/396) والمجموع (4/447) وشرح الزركشي (2/167) ونصب الراية (2/205).
([10]) انظر المبدع (2/163) والشرح الممتع (5/85) والمجموع (4/447).
([11]) رواه مسلم. المسبحة: هي الإصبع التي تلي الإبهام لأنه يُسَبَّح بها ويقال لها السبابة.
([12]) قال ابن حجر: (يحمل حديث أنس على أن رفعهما في دعاء الاستسقاء صفة زائدة على رفعهما في غيره). انظر كشاف القناع (2/36) ونيل الأوطار (2/271) وشرح الزركشي (2/182) وفتح الباري (2/412).
([13]) طبقات الحنابلة (3/411).
([14]) رواه مسلم.
([15]) الإحياء (10/162).
التعليقات