اقتباس
ضرورة التنويع في الخطب فلا تأخذ الخطب نمطاً واحداً، بل يكون للخطيب القدرة على التنويع في افتتاح الخطبة وموضوعاتها واختتامها، لئلا يمل المصلون، ولأن في التنويع تشويقاً وحفزاً على الاستماع والإنصات.
يعد اختيار موضوع الخطبة من أهم ركائز الخطبة ولابد أن يدرك الخطيب أهمية الاختيار وصعوبته في نفس الوقت، وقبل الحديث عن ضوابط الاختيار لا بد أن نشير إلى ضرورة تحديد الهدف ووضوحه في ذهن الخطيب ولذلك أثره الكبير في عملية الاختيار فلكل خطبة هدف عام وهدف خاص.
أما الهدف العام فيوضحه قول الإمام ابن القيم -رحمه الله- حيث يقول: يقصد بها - أي خطبة الجمعة - الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنابه، ونهيهم هما يقربهم من سخطه وناره، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع إليها.
وكلما ابتعدت خطبة الجمعة عن هذا الهدف العام صارت صورة لا روح فيها ويقل أثرها أو ينعدم على المصلين.
إن صعوبة الاختيار لموضوع خطبة الجمعة يرجع في كثير من الأحيان إلى عدم وضوح الهدف العام من الخطبة، وربما كانت الأهداف الخاصة الصغيرة تطغى على الهدف العام وتقلل منه فيقل أثرها تبعاً لذلك، وأشير فيما يلي إلى بعض الضوابط لاختيار خطبة الجمعة:
1- معرفة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: " كان خطبه صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وذكر الجنة والنار وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق وهي النوح على الحياة والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً بالله ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون وتقسم أموالهم ويبلى التراب أجسامهم فيا ليت شعري أي إيمان حصل بهذا؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟"
وقال أيضاً: "ومن تأمل خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب -جل جلاله-، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله تعالى، وذكر آلائه التي تحببه إلى خلقه وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم".
2- مراعاة نوع المصلين واهتمامهم واحتياجاتهم، فتختلف احتياجات المجتمع الزراعي عن المجتمع الصناعي، وتختلف الاحتياجات تبعاً للمستوى التعليمي والتركيب العمري ولابد للخطيب من مراعاة ذلك وأن يكون الحكم للغالب.
3- مراعاة الزمن الذي تلقي فيه الخطبة والعادات والأعراف ويتعلق بذلك مراعاة المناسبات كرمضان والأعياد والحج والإجازات، والظواهر الاجتماعية أو السلوكية الطارئة، والحوادث العارضة الجفاف والزلازل والأمراض وغيرها.
4- ضرورة التنويع في الخطب فلا تأخذ الخطب نمطاً واحداً، بل يكون للخطيب القدرة على التنويع في افتتاح الخطبة وموضوعاتها واختتامها، لئلا يمل المصلون، ولأن في التنويع تشويقاً وحفزاً على الاستماع والإنصات.
5- ضرورة التسلسل والارتباط في الخطبة، حيث إن موضوع الخطبة قد يأخذ عدة عناصر فلا بد من مراعاة تسلسلها وارتباطها ببعض لئلا يتشتت ذهن السامع.
6- ضرورة التكامل بين الخطيب وغيره من خطباء الحي الواحد أو المدينة الواحدة، ولابد من التكامل أيضاً عند الخطيب في خطبه حيث تلبي احتياجات الفرد والمجتمع خلال فترة زمنية معينة، فلا يغلب جانب السلوك مثلاً ويهمل جانب العقيدة أو يتوسع في الأحكام حتى لا يبقى مجال لغيرها، فالتكامل يعني أن يتولى الخطيب عرض المعلومات المناسبة في الجانب العقدي والتشريعي والاجتماعي والسلوكي والأخلاقي.
وأخيراً فإن مما يعين الخطيب على حسن اختيار الخطبة توافر الصفات الأساسية من الفقه في الدين والعمل به، والثقة بالنفس والاستشارة لأهل العلم والخبرة. ولا يعني اختيار الموضوع ألا يتجاوز الخطيب موضوع الخطبة إلى غيره، ولا سيما عند وجود ما يستدعي ذلك من الحوادث العارضة.
أما توثيق خطبة الجمعة فحقه أن يفرد بالحديث ولكن أوجز ما يتعلق به في أمرين:
الأول: يختلف الخطباء في مسألة التوثيق فبعضهم يتساهل حتى يورد الأخبار الضعيفة والموضوعة ويكتفي بمجرد النقل دون تمحيص أو تحقيق وتكمن خطورة هذا الأمر أن كثيراً من الناس يعدون الصواب ما قيل في المحراب، وعلى النقيض من هذا الصنف هناك من يسهب في التخريج والتوثيق وربما قال: رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي في المجمع وفيه بقية بن الوليد وهو مدلس وبقية رجاله ثقات... في كلام يطول ويشتت أذهان المصلين وقدر من ذلك أحياناً مطلوب إذا اقتضته الحاجة والمصلحة لتصحح مفهوم سائد أو إزالة شبهة أما أن يكون المنبر ميداناً للتوثيق العلمي فهذا لا يسوغ لأن المستفيدين من الخطبة من عامة الناس.
الثاني: بعض الخطباء يعتمد في خطبة الجمعة على الكتب المؤلفة في هذا الشأن فينقلها بنصها دون زيادة أو تعديل أو يقوم بتصويرها، وقد يقتضي ذلك أن يتشبع بما لم يعط ويظن عامة المصلين أنها من إعداده وهي ليست كذلك والسؤال هنا هل يعد هذا خطيباً أم قارئاً للخطب؟
إن من تكرم من العلماء بتأليف كتب تحوي مجموعة من الخطب إنما فعلوا ذلك لنشر الخير بين الناس ولإعانة الخطباء على إعداد الخطبة ولذلك فإن هذه الكتب المؤلفة لبنة في طريق إعداد الخطيب وليس كل من امتلك عدداً من الكتب يكون خطيباً.. ولا شك أنه ينبغي التفريق بين طالب العلم وغيره ممن لا يستطيع إعداد الخطبة ولا يوجد من يقوم بها غيره.
مجلة الدعوة -1765/81
بقلم الدكتور / عبد الله بن إبراهيم اللحيدان،
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض.
التعليقات