اقتباس
وهذا من أعجب العجب؛ فكيف لمن يناط به تصحيح مفاهيم الناس وتمسيكهم بهدي نبيهم -صلى الله عليه وسلم- أن يقع هو نفسه في فخ تلك التيارات الباطلة أو الاعتقادات الفاسدة؟! لكن هذا واقع وحاصل، ولولا ذلك ما ذكرناه.. فلكَم رأينا من خطباء يدعون...
توغلت هذه الأبيات في قلبي حتى أدمته، وكم دمعت منها العين وحزن منها الفؤاد، وأيضًا كم بعثت في المرء من همة وعزيمة وجلد، وكم زرعت في أوساط الدعاة من صحوة ويقظة وإقبال على الدعوة إلى الله، فما أصدقها وأوقعها من أبيات تصوِّر حالنا فتقول:
أتتني في سكون الليل أطياف لماضينا *** وراحت تنثر الأشواق والذكرى أفانينا
أما كنا بجوف الليل رهبانًا مصلينَ *** وفرسانًا إذا ما قد دعا للخير داعينا
فمن للأمة الغرقى إذا كنا الغريقينَ *** ومن للغاية الكبرى إذا ضمرت أمانينا
ومن للحق يجلوه إذا كَلَّت أيادينا
صدق والله؛ "فمن للأمة الغرقى إذا كنا الغريقين"، أبيات لا أعرف قائلها ولا متي قيلت ولا أين قيلت، لكني أوقن أن صاحبها قد حرق قلبَه وحزَّ في نفسه حالُ بعض دعاتنا وخطبائنا اليوم كما حرق ذلك قلبي، وأحمد لقائلها أن قد مسَّ الجرح بكلماتها؛ فإذا كان الدعاة والخطباء هم المصابون المخترَقون من دواخلهم فمن يأخذ بيد العاصين والحيارى والتائهين!
قد بدأنا في الجزء الأول من هذا المقال([1]) رحلتنا مع بعض الخطباء الذين أصيبوا بآفات أقعدتهم وخذَّلتهم وعطَّلتهم عن مهمتهم ودعوتهم وجعلتهم فتنة للناس بدلًا من أن يكونوا سراج هداية لهم! وذكرنا من ذلك ثلاثة إصابات كانت كما يلي:
أولًا: خطباء اخترقتهم ذنوبهم.
ثانيًا: خطباء اخترقهم احتقارُ الذات.
ثالثًا: خطباء اخترقهم اليأس والقنوط.
وموعدنا اليوم -بإذن الله- مع بعض الإصابات الأخرى، وإن لم نذكر اليوم استراتيجية العلاج والدواء لكل إصابة، مكتفين بتضمينها داخل شرح الاختراق أو الإصابة، أو مكتفين بخبرة إخواننا الخطباء بالدواء إذا ما شخصنا لهم الداء، ومن تلك الاختراقات:
رابعًا: خطباء اخترقهم خوفهم من السلاطين، ورجاؤهم نفعهم:
فيطوِّع الخطيبُ الدينَ على هوى السلطان.. وينتقي من الموضوعات ما لا يُغضب السلطان ولو كان ما يتركه ويهجره من أصل الدين وأساسه!.. وإذا اتخذ السلطان موقفًا ما في قضية ما، قام الخطيب فبرَّره وصحَّحه وصوَّبه ولو كان موقفه ذلك مخالفًا للدين مضادًا للشرع، وربما أطلق له الفتاوى التي تؤيده ولو أفتى المحققون من العلماء الربانيين بخلافها!..
إخواني الخطباء: لقد قال الله عن علماء الدنيا: (يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا)[البقرة: 174]... وقال عن علماء الآخرة: (خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)[آل عمران: 199]... فتُرى ما هو ذاك "الثمن القليل" الذي تكرر ذكره في هاتين الآيتين وغيرهما؟
إن الثمن القليل هو: متاع الدنيا الزائل، فلو اجتمعت الدنيا كلها لرجل واحد في مقابل أن يعصي ربه معصية واحدة لكانت "ثمنًا قليلًا"؛ قال الله -تعالى-: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ)[النساء: 77]، وقد سئل الحسن البصري عن ذلك فقال: "الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها"([2])، فما بال من يفعل ذلك من أجل لعاعة تافهة حقيرة من تلك الدنيا القليلة! ومن المفسرين من قال أن ذلك الثمن هو مجرد "الطمع" في المال أو الجاه أو الحظوة لدى الكبراء...
ولو قلتَ أن الدافع إلى تلك "المداهنة" هو خوفك على نفسك أو وظيفتك.. لأجبتك: إن برَّر لك ذلك سكوتك عن الإنكار، فإنه لا يبرر لك أبدًا تأييدك للباطل وانطلاق لسانك بالثناء عليه، إن سوَّغ لك الخوفُ صمتَك فإنه لا يسوِّغ بحال كلامَك، وقد قيل: "إن لم تستطع أن تصدع بالحق، فلا تصفق للباطل".
ثم -يا أخي الخطيب اللبيب- أين التورية وأين التلميح؟! فإن "في التلميح ما يُغني عن التصريح"، إن أحلوا الغناء و"قنَّنوه" ولم تستطع الجهر بالحق، فلا أقل من أن تذكر حديثًا يذمه في معرض كلامك عن أي موضوع آخر... وإن أباحوا التبرج و"شرعنوه"، فلا أقل من أن تتكلم عن حال سلف الأمة من الصحابيات والتابعيات وحشمتهن، أو تتحدث عن حياء المرأة وعفتها، أو عن غيرة الرجل على عرضه... وإن شجعوا على الربا وأسسوا له، فلا أقل من أن تقرأ في خطبتك قول الله -تعالى-: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)[البقرة: 275]، ولو في معرض التكلم عن حل البيع والشراء، أو قوله -تعالى-: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[البقرة: 278-279]، ولو في معرض عدِّ الأصناف التي يحاربها الله...
ويا حسرة قوم يأتون يوم القيامة وهو يصطرخون متحسرين: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)[الأحزاب: 67]، فحاذر أن تكون معهم.
أقول هذا، ولا أنكر أبدًا على الخطيب أن يؤيد ولي الأمر في الحق، بل هو واجبه، وأن يدعو له وينصره ويؤيده ما دام على الهدى... لكن ليعمل بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف"([3])، تمامًا كما يعمل بحديث: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة"([4])... وليتذكر دائمًا شرط الطاعة: "إن أمر عليكم عبد حبشي مُجَدَّع([5]) فاسمعوا له وأطيعوا، ما قادكم بكتاب الله"([6])، نعم؛ "ما قادكم بكتاب الله".
خامسًا: خطباء اخترقهم العمل الوظيفي:
فتراه موظفًا لا داعية، ومسيَرًا لا مسيِرًا، ومقودًا لا قائدًا، تراه يحمل همَّ المرتب ويحاذر أن يفعل ما يؤدي إلى الخصم منه، ولا يبالي أأحسن في حق دعوته أم قصَّر!... ومن مظاهر اتخاذه الدعوة إلى الله وظيفة "روتينية" ومجرد مصدر دخل يتقوت منه، ما يلي:
أولًا: التخلف عن مسجده بلا عذر: فكما استطاع أن يتخلف عن الحضور إلى المسجد تخلف، ولو كان همه دعوته لحرص على الحضور ولو تكبد المشاق، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذهب إلى القوم في ناديهم، ويقابل الناس في مواسم الحج، ويسافر إليهم في بلادهم...
ثانيًا: عدم الاهتمام بتحضير الخطبة: فترى خطبته باهتة لا تلمح فيها حماسًا ولا إتقانًا ولا أمارات إخلاص! فهي مملة رتيبة قليلة النصوص سطحية الاستدلال موضوعها مكرر غير حيوي ولا واقعي...
ثالثًا: التبرم بمن أتاه متعلمًا أو سائلًا: فهو يسرع الخروج من المسجد بعد الصلاة ويكره من يعطِّله عن ذلك، وإن جلس في المسجد فلأمر نفسه؛ لا يريد من يزعجه بل يريد الجلوس في هدوء... ولو أنه كان داعية -لا موظفًا فقط- لسرَّه أن يسوق الله إليه من يعلِّمه شيئًا من دينه ويوجهه إلى ما يرضي ربه لينال أجره...
رابعًا: لا يستجيب لمن يقترح شيئًا للنهوض بالمسجد: ولا يكترث بتحسينه ولا بالترقي به، ولا يهمه سوى الانتهاء "الروتيني" من الشعائر فغلق المسجد فالانصراف إلى شئون نفسه.
خامسًا: عدم الاهتمام بالإصلاح بين المتخاصمين من رواد مسجده، ولا بحضور مناسباتهم الاجتماعية... بل العلاقة بينه وبينهم مبتورة إلا من مصالحه الدنيوية معهم.
سادسًا: خطباء اخترقتهم التيارات الفاسدة:
وهذا من أعجب العجب؛ فكيف لمن يناط به تصحيح مفاهيم الناس وتمسيكهم بهدي نبيهم -صلى الله عليه وسلم- أن يقع هو نفسه في فخ تلك التيارات الباطلة أو الاعتقادات الفاسدة؟!... لكن هذا واقع وحاصل، ولولا ذلك ما ذكرناه.. فلكَم رأينا من خطباء يدعون إلى بدعة مستنكرة ويجهدون أنفسهم في سوق الأدلة على شرعيتها! ومنهم من ينتمي إلى حزب سياسي أو مذهب اجتماعي ضال مضل يدعو إلى الليبرالية أو العلمانية أو ينادي بالبرجوازية أو وحدة الأديان... فكأنه داع على باب جهنم -والعياذ بالله- من هؤلاء الذين أخبر عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سأله حذيفة قائلًا: ..فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"([7]).
وسواء كانت هذه التيارات تدعي اللصوق بالدين أو كانت وافدة مستغربة فلا يحق ولا يحل ولا يليق ولا يجوز لمن يعتلي المنبر أن ينتمي لشيء منها أو حتى أن يتأثر بدعوة من دعواتها! فإني أعيذ كل خطيب يرفع الناس إليه رءوسهم يتعلمون منه وأربأ به أن يتلطخ بشيء من ذلك -عياذًا بالله-، ولو كان غافلًا أو جاهلًا؛ لأنه يناط به أن ينقذ الغافلين ويُعلِّم الجاهلين، ولأنه يُقتدى به ويستند إلى رأيه، فليس مسئولًا عن نفسه فقط، بل إن شرد شردت بشروده قرية أو حي كامل؛ ذلك الذي يقع فيه مسجده!
ويصونه أن يقع في شيء من ذلك أن يتزود من العلم ولا يكتفي بما يقرأ عند تحضير خطبته فقط، وأن يتخذ شيخًا من العلماء الربانيين يوجهه ويرشده، وألا يرفع نفسه فوق قدرها أو يظن نفسه معصومًا من الزلل بل: "كل بني آدم خطاء"([8])، "والمعصوم من عصم الله"([9])، وأن يتقرب إلى الله -تعالى- بالنوافل والتطوعات بعد الفرائض فيقذف الله في قلبه نور البصيرة ويكون -عز وجل-: "سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"([10])...
سابعًا: خطباء اخترقهم الترف وفتنة المال:
فالخطيب اليوم له مكانة اجتماعية مرموقة، والكل يرفع رأسه إليه، وفي بعض البلدان يتقاضى أموالًا طائلة على عمله في الخطابة، وله في قلوب الناس المنزلة والمكانة، وقد تأتيه أموال الزكوات والصدقات والكفارات ليوزعها في مصارفها، وقد يجمع الأموال لتحسين المسجد أو توسعته أو ترميمه أو الإنفاق عليه...
فتنهال عليه الأموال من كل صوب؛ أموال تخصه وأخرى لا تخصه، و"المال فتنة"، يقول سفيان الثوري: "العالم طبيب هذه الأمة، والمال الداء، فإذا كان الطبيب يجر الداء إلى نفسه كيف يعالج غيره؟!"([11]).
لا أقول ولا أدعي ولا أظن ولا أتخيل أن يمد خطيب يده إلى حرام، كلا أبدًا، وإنما قد رأيت بعيني ترف بعض الدعاة والخطباء، وتكاسلهم عن بعض الواجبات، وتوسعهم في دنياهم... وهذا لا يليق بمن يدعو الناس إلى الزهد في الدنيا ويحذرهم من الترف([12]).
***
إخواني الخطباء: أكرر الآن وأعيد ما أكدته في الجزء الأول من هذا المقال: إنني أوجه كل كلمة مما قلتُ إلى نفسي قبل أن أوجهها إلى أحد، وأصبها على رأسي قبل أن أهديها إلى غيري، وأسيء الظن بنفسي وأُحسنه بإخواني... وعذرًا إن تجنيت أو قسوت أو جاوزت قدري، فما أريد إلا الإصلاح ما استطعت...
والله من وراء القصد عليم، وهو نعم المولى ونعم النصير.
ثم الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
([1]) راجع -تفضلًا- مقال: "خطباء مخترقون (1/2)"، على هذا الموقع، وهذا رابطه:
([2]) تفسير ابن كثير (1/243)، ط: دار طيبة.
([3]) رواه البخاري (4340)، ومسلم (1840).
([4]) رواه البخاري (7142).
([5]) مجدع: مقطَّع الأطراف من أصولها.
([6]) رواه مسلم (1838)، وابن ماجه (2861)، واللفظ له.
([7]) رواه البخاري (7084)، ومسلم (1847).
([8]) رواه ابن ماجه (4251)، والترمذي (2499)، وحسنه الألباني (مشكاة المصابيح: 2341).
([9]) رواه البخاري (6611).
([10]) رواه البخاري (6502).
([11]) الآداب الشرعية، لابن مفلح المقدسي (2/44)، الناشر: عالم الكتب.
([12]) لم أتوسع في هذا العنصر لأنني قد ذكرت ما فيه الغنى والكفاية في مقال: "أيها الخطيب: سأشكوك إلى الله" بجزئيه تحت عنوان: "أهنت منبرك وعلمك لما طلبت الدنيا"، وهاك رابطه:
التعليقات