عناصر الخطبة
1/غاية خلق الإنسان عبادة الله تعالى 2/اختلاف أجر العبادة حسب الزمان والمكان 3/خصوصية شهر رمضان 4/أسباب الفرحة بقدوم رمضان وطبيعتها 5/خطورة الذنوب والمعاصي 6/ضرورة اغتنام موسم الخيرات والرحماتاقتباس
إن شهرَ الصيامِ، شهرُ العتقِ من النيران، من دار الذلّ والهوان، فلِلَّهِ -تبارك وتعالى- عتقاءُ من النار، في كل يومٍ وليلةٍ من رمضان، فلنجتهِدْ ما استطعنا، في إعتاق رقابنا، ولنُرِ الكريمَ المنانَ من أنفسنا خيرًا، بالتقرُّب إليه بأنواع الطاعات، من الفرائض والمستحبَّات...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي مَنَّ على عباده بمواسم الخيرات؛ ليغفر لهم الذنوب ويُكفِّر عنهم السيئاتِ، ويُضاعِفَ لهم الأجورَ، ويرفعَ الدرجاتِ، وأشهد ألَّا إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، رب البَرِيَّات، وواسعُ العطايا وجزيلِ الهِبَاتِ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، المبعوث بكريم السجايا، وشريف الصفات، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ، ما دامت الأرض والسماوات، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، مَعاشِرَ المؤمنينَ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله وأطيعوه، ولا تغتروا بدنياكم، فإنكم مفارقوها إلى أخراكم؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلِ عِمْرَانَ: 185].
أُمَّةَ الإسلامِ: إن غاية خلق الإنسان أن يعبد خالقه -جل جلاله-، وعلى مدار العبادة ينبغي أن تقوم حياة العبد كلها؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 162-163]، وقد فطَر -سبحانه- بني آدم على عبادته؛ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)[الْأَعْرَافِ: 172]، فعبادةُ اللهِ -تعالى- أشرفُ المقامات، وأسمى المبتغَيات، نعَت بها الملائكةَ المقرَّبينَ؛ (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 19-20].
وقال عزَّ شأنُه عن أنبيائه ورُسُلِه: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)[ص: 45]، وشرَّف -سبحانه- نبيَّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بوصف العبودية، وهو في أعلى مقامات الأصفياء، وقد أُسري به إلى بيت المقدس، وعُرِجَ به إلى السماء، فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا)[الْإِسْرَاءِ: 1]، فمِنْ أَجْلِ تحقيقِ العبوديةِ، أنزَل اللهُ كُتُبَه، وبعَث أنبياءه ورُسُلَه، مُبشِّرينَ ومُنذِرِينَ؛ ليُخرِجوا الناسَ من ظلماتِ الجهلِ، إلى نورِ هذا الدينِ، فأكمَلُ الخَلقِ وأفضَلُهم، وأقربُهم إلى الله وأحبُّهم، هم أَهدَاهم وأتمُّهم عبوديةً، فربُّنا عزَّ شأنُه، يُحِبّ عبادَه المتقينَ، وهو غنيٌّ عنهم، فلا تنفعُه عبادةُ الطائعينَ، ولا تضرُّه معصيةُ العاصينَ؛ ففي (صحيح مسلم)، يقول الله -عز وجل-، في الحديث القدسي : "يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوْا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.... يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيْهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".
مَعاشِرَ المؤمنينَ: إن العبادة تعظُم، بحسب زمانها ومكانها، وها نحن مُقبِلون على شهر كريم، وموسم للعبادات عظيمٌ؛ إنَّه شهرُ الصلاةِ والصيامِ والقرآنِ، شهرُ الجُودِ والبِرِّ والإحسانِ، وهو نفحةٌ من نفحات الربِّ على عبادِه، يَفِيض فيه من رحمته وعفوه، وجُوده وكرمه، وفيه تُفتَّح أبوابُ الجِنان، وتُغلَّق أبوابُ النيران، وتُصفَّد مردةُ الجانِّ، ويُنادي منادي الله: يا باغيَ الخيرِ أَقبِلْ، ويا باغِيَ الشرِّ أَقصِرْ، فمَنْ صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم مِنْ ذنبِه، ومَنْ قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم مِنْ ذنبِه، ومَنْ قام مع إمامه في صلاة التراويح، حتى يَنصَرِفَ الإمامُ منها، كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ، وللصائم فرحتانِ: فرحةٌ عِندَ فِطرِه، وفرحةٌ عند لقاء ربِّه، ولكلِّ مسلمٍ في رمضان، في كلِّ يومٍ وليلةٍ، دعوةٌ مستجابةٌ، فهنيئًا لمغتَنِم أيامِ رمضانَ وليالِيه.
إخوةَ الإيمانِ: كم من أناس صاموا معنا رمضان الماضي، أكلوا فيه وشربوا، ولبسوا الجديدَ وتنعَّموا، ثم حلَّ بهم الأجَلُ، فداهَمَهُم هادمُ اللذات، وقاطعُ الشهوات، ففارَقُوا الأحبابَ، وتوسَّدُوا الترابَ، ونحن كذلك سائرونَ على الأثر، ولو سَلِمَ من الموت أحدٌ، لَسَلِمَ منه سيدُ البشرِ؛ (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 34]، فنسأل الله -تعالى- أن يُبلِّغَنا رمضانَ، فبلوغُ شهرِ رمضانَ نعمةٌ جليلةٌ، وفضلٌ من الله -تعالى- عظيمٌ، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا جاء رمضان، يُبشِّر أصحابَه، فرحًا بقدومه، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيْهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يُونُسَ: 58].
نفرح برمضان؛ لِمَا فيه من أسباب الفوز بالجِنان، والنجاةِ من النيران، نفرح برمضان؛ لأنه شهرُ مُدارَسةِ القرآنِ، والتعلقِ به علمًا وعملًا، وتلاوةً وتدبُّرًا، فما سعدتِ القلوبُ ولا ابتهجَتْ، ولا اطمأنَّتْ وسَكَنَتْ، بمثلِ ذِكرِ اللهِ وعبادته، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرَّعْدِ: 28].
ونبُّينا -صلى الله عليه وسلم-، كان يُدارِس جبريلَ القرآنَ، في كل ليلة من ليالي رمضان، ففي الصحيحين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ"؛ لذلك كان السلف الكرام، يُكثِرون مِنْ خَتمِ القرآنِ، فإذا جاء رمضانُ، زادوا في الخَتْمات؛ لشرفِ الزمانِ، فشهرُ رمضانَ، شهرُ التلاوةِ والتدبُّرِ، والقراءةِ والتفكُّرِ، بمدارَسة آيِ الفرقانِ، وفَهْم كلام الرحمن، آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ.
السعادة والطمأنينة في تعظيمِ كتابِ اللهِ وتلاوتِه، والرجوعِ إليه واتباعِ هَديِه، والشقاءُ في الإعراض عنه وهجره، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 185-186].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولك من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله ذي الفضل والإنعام، أوجَب الصيامَ، وجعَلَه أحدَ أركان الإسلام، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أفضل من صلى وصام، وأطاع أمر ربه واستقام، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، مَعاشِرَ المؤمنينَ: إنَّ الذنوب والمعاصي تُقسِّي القلبَ، وتَصرِف صاحبَها عن أبواب الخير، فلنُقَدِّم بين يدَيْ رمضانَ، توبةً صادقةً، فبابُ التوبةِ مفتوحٌ، وفضلُ الربِّ -جل جلاله- يغدو ويروح، يَبسُط يدَه بالليل، ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسُط يدَه بالنهار، ليتوب مسيءُ الليل، ومِنْ رحمتِه يُنادي عبادَه فيقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزُّمَرِ: 53]، فإن كانتِ الإساءةُ منَّا كثيرةً، فعفوُ اللهِ أكثرُ، وإن كان الزللُ منا عظيمًا، فمغفرتُه جلَّ جلالُه أعظمُ، وإن كثُرَتْ منا الخطايا، فرحمتُه أوسعُ، وفي سُنَنِ الترمذي: يقول الربُّ -جل جلاله- في الحديث القدسي: "يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً".
وإن من خير ما نستقبل به رمضان، تنقية النفوس من الشحناء، والكراهية والبغضاء، فرمضانُ موسمٌ للصفح والعفو، وربُّنا -تبارك وتعالى- عفوٌّ يُحِبّ العفوَ، ويحبُّ أهلَ العفو، فمَنْ أراد أن يعفو اللهُ عنه، فليعفُ عن خَلقِه، ومَنْ أحبَّ أن يتجاوز اللهُ عنه، فليتجاوَزْ عن عباده، فمَنْ عامَل الخلقَ باليُسر والمسامَحة، عامَلَه الخالقُ بمثل ذلك في الدنيا والآخرة، والعفوُ في حقِّ الأقربينَ آكدُ؛ لِمَا تقتضيه القرابةُ من المخالَطة، وما يتبع ذلك من حصول الإساءة.
إخوةَ الإيمانِ: إن شهرَ الصيامِ، شهرُ العتقِ من النيران، من دار الذلّ والهوان، فلِلَّهِ -تبارك وتعالى- عتقاءُ من النار، في كل يومٍ وليلةٍ من رمضان، فلنجتهِدْ ما استطعنا، في إعتاق رقابنا، ولنُرِ الكريمَ المنانَ من أنفسنا خيرًا، بالتقرُّب إليه بأنواع الطاعات، من الفرائض والمستحبَّات، فالمحروم مَنْ حُرِمَ المغفرةَ في رمضان، ففي (سنن الترمذي): قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ" أي: التَصَق أنفُه بالتراب، كنايةً عن الخسارة والهوان، وأمَّا ثواب الصائمين، فذاكَ أمرٌ مَردُّه إلى الله، وقد وعَد -سبحانه-، أن يُوفَّى الصابرون أجرَهم يومَ القيامة بغير حساب؛ فالصيام من أعظم أنواع الصبر، ولا يعلم إلا الله، مقدار ثوابه ومضاعَفة حسناته، ففي الصحيحين: قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِيْ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".
إنَّ شهرَ رمضانَ -يا عبادَ اللهِ- شهرٌ لتزكيةِ النفوسِ وتربيتِها، وهو ميدانٌ للاجتهاد في الطاعات، وتحصيلِ المحاسِنِ والخيراتِ، والبُعدِ عن المعاصي ومساوئِ العاداتِ، فلا يصحُّ أن يُتَّخَذ الصيامُ ذريعةً للتقصير في العمل، أو أن يكون ذريعةً للتراخي والكسل، وحريٌّ بالمؤمن أن يَستحضِر ثوابَ النية الصالحة، واحتساب الأجرِ على الله، وكلٌّ في مَيدانِه؛ فالطلاب والطالبات، والمعلمون والمعلمات، في تحصيل العِلْم ونشره، ومنسوبو القطاع الصحيّ، في حِفْظ البدن ووقايته، ورجالُ أمننا في المحافَظة على الأمن، والمرابِطون في دفاعهم عن الوطن، وكلُّ مَنْ كُلِّفَ بواجبٍ، فعليه أداؤُه بصدقٍ ونزاهةٍ، وإخلاصٍ وأمانةٍ؛ وذلك يدخُل في معنى التقوى، التي هي غايةُ الصيامِ وحكمتُه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183].
وحريٌّ بالآباء والأمهات، والمربِّينَ والمربِّياتِ، أن يغرسوا المفاهيمَ السليمةَ الصحيحةَ، في نفوس أبنائنا وبناتنا، لنُخرِج جيلًا صالحًا، مُحِبًّا للخير وأهله، نافعًا لوطنه وأُمَّتِه.
اللهم بلغنا برحمتك شهر رمضان، اللهم أَهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، اللهم سلِّمْه لنا، وسلِّمْنا له، وتسلَّمْه منا متقبَّلًا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمينَ، اللهم أَصْلِحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم إنَّا نسألُكَ بفضلِكَ ومِنَّتِكَ، وجودِكَ وكرمِكَ، أن تحفَظَنا مِنْ كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن، اللهم إنَّا نعوذ بكَ من جَهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وسوء القضاء، اللهم إنَّا نسألك من الخير كلِّه، عاجِلِه وآجِلِه، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، اللهم إنَّا نسألكَ الجنةَ وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، اللهم أحسِنْ عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأَجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وكن للمستضعفين منا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وفق خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، واجزه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، اللهم وفقه وولي عهده الأمين، لما فيه خير للإسلام والمسلمين، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ شباب المسلمين من الفرق الضالة، والمناهج المنحرفة، اللهم جنبهم التفرق والحزبية، وارزقهم الاعتدال والوسطية، اللهم حبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين، اللهم انفع بهم أوطانهم وأمتهم، برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.
اللهم مَنْ أرادَنا وبلادَنا وأمنَنا وشبابَنا بسوء، فأَشْغِلْهُ بنفسه، واجعَلْ كيدَه في نحره، بقوتك وعزتك يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، عاجلًا غير آجل، برحمتك يا أرحم الراحمين، لا إله إلا أنتَ سبحانك، إنا كنا من الظالمين.
ربنا تقبَّل توبتَنا، واغسِلْ حوبتَنا، وأَجِبْ دعوتَنا، وثبِّت حُجَّتَنا، واهدِ قلوبَنا، وسدِّد ألسنتَنا، واسلُلْ سخيمةَ قلوبِنا؛ (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
التعليقات