اقتباس
ومن الأعمال التي يستحب الحرص عليها في هذه العشر؛ الإلحاح على الله بالدعاء؛ فقد أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-أن: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" (رواه الترمذي)، ويوم عرفة هو أحد أيامها...
الحمد لله الكريم المنان الذي أكرم عباده بالإيمان وتفضل عليهم بمضاعفة الأجور في مواسم الطاعات والإحسان، والصلاة والسلام على إمام المسارعين إلى طاعة الديان -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحابته وتابعيهم بإحسان أما بعد:
إن من فضل الله تعالى على المؤمنين أن خصهم بمواسم يتزودون فيها من الخيرات، ويتنافسون بها على الطاعات، ويتوبون فيها من الزلات، والسعيد فيها من اغتنم هذه المواسم بما أمر به رب البريات وحث على ذلك محمد عليه أزكى السلام وأطيب الصلوات.
ومن هذه المواسم المباركة التي فضلها الله على غيرها من الأزمان، وميزها على سائر الايام عشر ذي الحجة، وهي أيام أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها أفضل أيام الدنيا؛ ولعلنا في هذه السطور نقف معها في ثلاثة محاور:
أولها: فضائل هذه العشر وخصائصها والتي منها:
أن الله تعالى أقسم بها؛ فقال -سبحانه- في كتابه العزيز: (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1-2]، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية الكريمة: "المراد بها عشر ذي الحجة وهو قول ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغيرهم".
ومن فضائلها: أن العمل الصالح فيها أحب إلى الله مما سواها من أيام العام كله؛ فقد روى حبر الأمة عبدالله ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" (رواه البخاري).
ومن فضائلها؛ اجتماع أمهات العبادات فيها؛ وهذه المزية لم يشاركها فيها غيرها؛ يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله- "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".
ومن الفضائل التي اختصت بها هذه العشر دون غيرها، أن المسلمين يؤدون فيها فريضة الحج، والتي من أداها ولم يرفث فيها ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (البخاري ومسلم).
ومن فضائلها: أن ربنا -سبحانه- أرشد عباده بكثرة الذكر فيها؛ ذلك لعظيم فضلها ومضاعفة ثوابها، قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج:28]، وقد جاء عن ابن عباس وغيره من الصحابة أن الأيام المعلومات هي: "أيام العشر".
ومن الفضائل التي اختص الله بها هذه العشر؛ أن فيها يوم عرفة الذي هو أفضل أيام العام بعد يوم النحر، كما أنه عيد من أعياد الإسلام، قال -صلى الله عليه وسلم- "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام" (رواه أبو داود وصححه الألباني).
وكذلك أن في هذا اليوم ركن الحج الأعظم وهو الوقوف بعرفة، ومما يؤكد فضله؛ الترغيب في صيامه والذكر والدعاء فيه؛ حيث ثبت في فضل صيامه أنه يكفر ذنوب سنتين، روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم عرفة؛ فقال: "أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية"؛ كما أن الله يعتق الله هذا اليوم من رقاب عباده ما لا يعتق في غيره؛ فقد روت عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ" (رواه مسلم)، قال الإمام النووي -رحمه الله-: "فهذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة".
كما أن من فضائل عشر ذي الحجة أن فيها يوم النحر، وهو العيد الأكبر، وهو أفضل من عيد الفطر؛ لاختصاصه بكثير من الشعائر والعبادات، وفيه تُراق الدماء تعظيما لله تعالى، ولا تذبح الضحايا والهدايا قبله، قال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2].
المحور الثاني: ما ينبغي على المسلم فعله في هذه العشر المباركة:
إن مما ينبغي على كل عاقل عرف فضائل هذه العشر وخصائصها؛ أن يعطيها حقها من الجد والاجتهاد والمثابرة، والتزود من الأعمال الصالحة عامة والتي أمر الله بها في العشر خاصة، ومما شرعه الله فيها وحث عليه ما يلي:
أداء مناسك الحج والعمرة؛ فهما أفضل ما يقوم به العبد في هذه الأيام الفاضلة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (متفق عليه)، وقال صدقة بن يسار: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "عمرة في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي؛ فحدثت به نافعاً فقال: نعم عمرة فيها هدي، أو صيام، أحب إليه من عمرة ليس فيها هدي ولا صيام".
ومن الأعمال التي يستحب التزود منها في هذه الأيام المباركة؛ الإكثار من النوافل؛ فذلك مما يورث صاحبها محبة الله تعالى؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: "وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه" (رواه البخاري)؛ فينبغي للمسلم أن يكثر من الركعات والسجدات، وأن يتقرب إلى الله بصلاة الضحى والسنن الرواتب وصلاة الوتر، وقيام الليل والتطوع المطلق.
ألا يا باغي الخيرات أقْبِل
إلى ذي الحِجَّة الشهر الحرام
بهِ العشر الأوائل حين هلَّت
أحــبَّ الـلـــه خـــيـــرًا للأنام
بها النفحاتُ من فيضٍ ونورٍ
وعــرفاتٍ فَشَمِّرْ للصيام
ومن الأعمال الفاضلة التي يستحب للمؤمن في هذه العشر؛ صيامها أو صوم بعضها لمن لم يتيسر له صيامها كاملة؛ حيث أن عبودية الصيام من جنس العمل الصالح؛ بل إنها من العبادات التي اختصها الله لنفسه، قال -سبحانه-: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" (متفق عليه).
ومما يدل على أفضلية الصوم فيها أن نبينا -صلوات ربي وسلامه عليه- كان يصومها؛ فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر وخميسين" (أخرجه النسائي وأبو داود وصححه الألباني).
ومن الأعمال كذلك: الإنفاق في وجوه الخير والصدقة على الفقراء والمساكين والإحسان إلى الآخرين؛ فقد حث الله عباده عليها حيث قال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 274]، وقال -صلى الله عليه وسلم- "ما نقصت صدقة من مال" (رواه مسلم).
ومما ينبغي على المسلم فعله في هذه العشر؛ اغتنام يوم عرفة خاصة؛ إذ أنه أحد أيام الأشهر الحرم وأيام الحج، وهو يوم إكمال النعمة، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]؛ وقد أجمع أئمة التفسير على أنها نزلت في هذا اليوم المبارك والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفة؛ بل أخبر النبي الكريم في فضل صيام هذا اليوم.
ومن الأعمال التي يستحب الحرص عليها في هذه العشر؛ الإلحاح على الله بالدعاء؛ فقد أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-أن: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" (رواه الترمذي)، ويوم عرفة هو أحد أيامها.
وقد علق ابن عبد البر على هذا الحديث؛ فقال -رحمه الله-: "وفيه مِن الفقه، أنّ دعاء يوم عرفة أفضل مِن غيره، و في ذلك دليلٌ على فضل يوم عرفة على غيره؛ كما أن الحديث دليل على أنّ دعاء يوم عرفة مُجاب كلّه في الأغلب".
كما أن من الأعمال التي يسن الإكثار منها في هذه الأيام؛ قراءة القرآن الكريم؛ فلا يخفى ما لهذه العبادة من الفضل العظيم والثواب الجسيم؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29-30].
ومن الأعمال -أيضا-: الإكثار من ذكر الله تعالى القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) [الأحزاب: 41]؛ فقد حث الله على ذكره كثيرا وفي هذه العشر خصوصا.
وهذا ما كان عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وما فهمه الصحابة الكرام والسلف الأعلام ومن سار على نهجهم واستقام؛ فقد كانوا يذكرون الله تعالى في هذه العشر أكثر من ذكرهم له في غيرها من الأيام، وكانوا لا ينفكون عن ذكر الله في بيوتهم وأسواقهم؛ كما روي عن ابن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهما- "أنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيّام العشر يكبران ويكبر النّاس بتكبيرهما".
ومن الأعمال التي حث الشرع الحنيف على فعلها في هذه العشر؛ الأضاحي وسوق الهدي، ومما ورد في فضل ذلك ما روته عائشة بنت الصديق -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من اهراق الدم، إنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا" (رواه الترمذي).
المحور الثالث: حال السلف مع عشر ذي الحجة
وقد خصصنا هذا المحور عن حال سلف الأمة في عشر ذي الحجة؛ لأنهم نجوم هذه الأمة وسراجها الذين بلغوا المنزلة وحازوا المكارم ونالوا قصب السبق؛ فقد كانوا يعظمونها ويحرصون على استغلالها؛ فعن أبي عثمان النهدي -رحمهما الله- قال: كان السلف يعظمون ثلاث عشرات؛ "العشر الأول من المحرم، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأخيرة من رمضان.
فقد كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عامة يتنافسون على صيامها والاعتكاف فيها والمسارعة في جميع أعمال البر والإحسان.
فهذا أبو هريرة وابن عمر -رضي الله عنهما- كانا "يخرجان أيام العشر إلى السوق فيكبران؛ فيكبر الناس معهما، لا يأتيان السوق إلا لذلك".
وهذا عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- كان "يصلي الظهر ثم يضع المنبر فيجلس عليه في العشر كلها، فيما بين العصر والظهر يعلم الناس الحج" -فرضي الله عنهم وأرضاهم-.
وكان الحافظ ابن عساكر -رحمه الله- يعتكف في عشر ذي الحجة.
فعلى أهل الإسلام أن يتأملوا في حال السلف؛ فإن ذلك مما يشحذ عزائمهم ويستحث هممهم، للمسارعة إلى الخيرات، ومجاهدة النفس على فعل الصالحات واجتناب الموبقات؛ حتى تزكو نفوسهم، وتلين قلوبهم، وتنجلي عنها سحب الغفلة والقسوة، وحتى تكون هذه الطاعات أنساً لأرواحهم، وغذاء لقلوبهم، وسبباً في سعادتهم في الدارين، ولله در القائل:
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته *** أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها***فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
فيا سعادة من بادر في هذه العشر بالطاعات، وهجر المعاصي والسيئات، وتزود فيها لما يسعد بعد الممات، ويورث السلامة والنجاة.
اللهم وفقنا فيها للبر والإحسان والتوبة من الذنوب والأدران، وارزقنا الإقبال وتفضل علينا بالقبول.
التعليقات