اقتباس
تعاني المجتمعات الإسلامية اليوم من التخبط والتذبذب في اختيار منهج يَصلُحُ للحياة، بعدما تركت منهجها، فتراها تارةً تسلك المنهج الاشتراكيَّ، وتارة الرأسماليَّ، وهكذا كلما رأت مجتمعًا متفوقًا يبني حضارة، انبهروا به وأخَذوا منه.
مما حدا بواضعي المناهج الإصلاحية والتربوية في العالم الإسلامي إلى التطبيق الحرفي للنظريات والأفكار والأيديولوجيات الأجنبية، غيرَ مكترثين بظروف المجتمعات، وخصوصياتها وخلفياتها الثقافية والدينية، وأن ما يصلُح لمجتمعٍ ما، رُبَّما لا يصلح للآخر، لا سيما مجتمعِنا الإسلاميِّ.
وفي ظل انبهارهم بالغرب نَسُوا، أو تناسَوْا مناهجهم الإسلامية النابعة من كتاب الله وسُنَّة نبيِّه التي راعت جميع جوانب الإنسان بجنسَيْه على المستوى الفردي والجماعي، لا تهتم بجانب على آخر، فقامت عليها الحضارة بشقَّيْهَا المادي والمعنوي، وقادت البشرية ألفًا ومائتَي عام، لم يُظلم في ظلِّها أحدٌ، فشهد لها الغرب والشرق.
لذلك سنحاول من خلال هذه الكلمات إِلقاءَ الضوء على خصائصِ وسماتِ التربيةِ في القرآن الكريم كلام الله المعجِز، وكتاب التربية الأول والأخير للبشرية، لا سيَّما المسلمين، الذي ينبغي أن تُستقى منه مناهجها وأساليب حياتها.
1- الرَّبَّانية:
أولى خصائص التربية القرآنية ومصدرها؛ فالإنسان من صنعِه، فليس هناك مَنْ هو أعلم من الله بمفاتيح فطرة الإنسان ودوائه وعلاجه؛ لأن كل صانع أدرى بصنعته، قال تعالى: ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) [الإسراء: 82]، كما قال تعالى أيضًا: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) [الإسراء: 9].
ويراد بالربانية أمران:
1- ربانية المصدر.
2- ربانية الغاية.
وإذا كانت ربانية المنهج تعني أنه منهج سماوي وضَعَه خالقُ الإنسان، إذًا هو منهج لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، منهج نزَلَ به جبريلُ على الأمين، وهذا المنهج الرباني لا يعني تعطيلاً لجهود البشر عن الاجتهاد والتفكير في هذا الكون والمعرفة بأسراره، بل العكس؛ فالقرآن يأمر ويحض على التدبر والتفكير والتعقل، فهو يضع أمام البشرية حقائقَ وأُصولَ وصُورَ العباداتِ، وأنماط المعاملات والصفات التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان، أما ما يتعلق بالعلم وتطبيقاته، ووسائل النهوض بالمجتمع، وطرق المعيشة، فهي متروكة للبشر ما دامت لا تخرج عن المبادئ والأصول التي وضعها القرآن.
لذلك؛ فالمنهج القرآني لا يقف حَجَرَ عَثْرَةٍ في سبيل تقدم البشرية وازدهارها، كما هو حال الديانات الأخرى، بل يَحُثُّ على الاجتهاد، ويضع له معايير، ويلوم ويذم عدم إعمال العقل والتفكير في الكون الفسيح؛ لذلك فلن تجد البشريةُ الرشد ولا الهدى ولا الراحة ولا السعادة إلا حين تَرُدُّ الفطرة البشرية إلى الربانية.
وإذا نظرنا في تاريخ البشرية، لوجدنا أن المنهج القرآني قد تسلَّم قيادةَ البشرية بعد ما فسدت الأرض وظهر الفساد، قال تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [الروم: 41]، وانظر إلى المجتمع الجاهلي الذي كانت تشيع فيه مكارهُ الأخلاق، والفُرقة، وروح العصبية، والنزعة القبَليَّة التي كانت تؤدي إلى القتال، وما كانوا عليه من التخلف العقلي الذي أدى بهم إلى السجود لحجر لا يضر ولا ينفع، فحينما تسلَّم المنهج القرآني القيادة، تحوَّلوا في مدة زمنية قليلة جدًّا من مجتمع جاهلي إلى مجتمع يكاد يتصف بالمثالية، أدى به الحال أن يقود البشرية ما يقرب من ألفِ عام في ظل هذا المنهج الرباني.
فلقد سقطتْ أمام هذا المنهج الفريد كلُّ المناهج التي وضعها الإنسان لتربية الإنسان على مر العصور، وتهافتت البشرية على هذا المنهج الرباني القويم، فدخل الناس في دين الله أفواجًا؛ ليتخلَّوْا عن الظلم، والقهر، والفساد، الذي ألَمَّ بهم من المناهج الوضعية، وعندما تخلى المسلم عن منهجه الرباني، وتطلَّع إلى المناهج الوضعية، تخلَّف وتأخر عن ركب الحضارة، وأُطْلِقَ على دُوَلِهِ دُوَلَ العالم الثالث، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: ((يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به، لن تضلوا؛ كتابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهل بيتي))[1].
2- الشمول:
تشمل التربية القرآنية الفردَ في حياته الدنيوية، وكذلك حياته الأخروية، وحياته الخاصة والعامة، كما تشمل المجتمع في علاقة أفراده بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالمجتمعات الأخرى، وكذلك علاقة المجتمعات ببعضها البعض، كما تشمل الإنسان بكيانه الجسد والروح، قال تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [المائدة: 3].
يتجلى من خلال التربية القرآنية التي شملت الإنسان في كل تصرفاته وحركاته وسكناته، فكل ما يتعلق بالفرد قد وضعت له التربية القرآنية ما يصلحه، وما فيه سعادته في دنياه وآخرته، قال تعالى: ( أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ) [القيامة: 36]، بل تعاملت معه في حدود إمكاناته وقدراته التي خلقه الله بها ولم تكلفه فوق ما يطيق.
قال تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) [الأنعام: 38]؛ أي: لم يترك الله سبحانه في الكتاب شيئًا لم يُبَيِّنْه، وإنما اشتمل القرآن على كل شيء، وكل ما من شأنه صلاح البشرية وهدايتهم، اعتمد في ذلك على الدليل والبرهان المستمدَّينِ من العقل.
3- التكامل:
يُقصد بالتكامل أن التربية القرآنية ذات منهج متكامل في كل مناحي الحياة، أخلاقية أو اقتصادية، أو سياسية، أو دينية، إلى غير ذلك، يتحقق من خلال هذا التكامل التوازن والتوافق بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه، وبين المجتمعات بعضها مع بعض، قال تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [المائدة: 3].
كما أن التكامل يعني أن اتجاهات التربية القرآنية في مجالات العقيدة، والعبادة، والسلوك الفردي والاجتماعي ترتد كلها في وحدة محكمة، وفي صور شاملة للحياة كلها؛ أي: وَحْدَة المصدر، وهو الله، وكذلك إلى وحدة الموضوع، وهو الإنسان، وأيضًا وَحدة الغاية، وهي العبودية لله الواحد الأحد، قال تعالى: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) [النساء: 82]، يستنكر القرآن في هذه الآية عدم تدبر المنكرين له في تشريعاته، وأحكامه، وتوجيهاته، وأوامره، ونواهيه، ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا فَضْلاً عن الاختلاف القليل، ولكن لأنه من عند الله وحده تنزَّهَ عن كل ذلك، بل لو فعلوا لوجدوه متكاملاً متناسقًا متناغمًا يُكمل ويؤكد ويُوضح بعضه بعضًا.
4- الوسطية:
وهذه الوسطية لا تعني وسطًا حسابيًّا أو معياريًّا، إنما هي اعتدال وقِسْط، قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) [البقرة: 143]، فكلمة "وسطًا" تعني الأفضل، وهو التوسط بين الأطراف، لا تفريط، ولا مغالاة، وهذه المعاني توفرت في هذه الأمة الرائدة؛ لتكون شهيدة على الناس أمام الله.
وإذا كان الإنسان يتكون من جسد وروح، ولكل منهما حاجاته ومتطلباته، فإن منهج التربية القرآنية قد راعى ذلك بشكل متوازن، بحيث لا يطغى الاهتمام بجانب على حساب الآخر، ولكنها أَوْلَتْ كلاًّ من الجسد والروح من العناية والاهتمام ما يصلحهما معًا، فلا هي اهتمت بالجسد على حساب الروح كما فعل اليهود، ولا بالروح على الجسد كما فعل النصارى؛ لذلك تعتبر التربية القرآنية حسنةً بين سيئتين، وفضيلةً بين رذيلتين، وهي بذلك تقف موقفًا وسطًا بين تَطَرُّف الماديين وتشدُّد الرهبانيين، قال تعالى: ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ في الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) [القصص: 77]، وقال تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) [الأعراف: 31].
لقد نهت التربية القرآنية عن التشدُّد والرهبانية، وذلك يبدو جليًّا من خلال قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((هلك المتنَطِّعُون - وكررها ثلاثًا))، كما نهت أيضًا عن البخل؛ لأنه يفرِّط في حق النفس والآخرين، والنهي عن التبذير؛ لأنه إفراطٌ في الإنفاق، قال تعالى: ( وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) [الإسراء: 29]، وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) [الفرقان: 67].
5- الواقعية:
تنطلق التربية القرآنية من منهج واقعي في النظر إلى الطبيعة الإنسانية من خلال كون البشر مختلفين فيما بينهم، متنوعين في صفاتهم، متعددين في فصائلهم، قال تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ) [الروم: 22]، فهذا المنهج التربوي الواقعي يتعامل مع الفرد على أساس احتمال الخطأ والإصابة بعيدًا عن المثالية والكمال، فالكمال لا يكون إلا لله عز وجل، فهي ليست تتعامل مع مثاليات لا وجود لها في عالَم الواقع، فهي تبغي الوصول بالفرد المؤمن إلى ذلك الفرد الذي يأتمر بما أمره به ربُّه، وينتهي عما نهاه عنه، قال تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [البقرة: 286].
يقول محمد قطب:
إن الإسلام يأخذ الكائن البشري بواقعه الذي هو عليه، يعرف حدوده وطاقاته، ومطالبه وضروراته، ويقرر هذه وتلك، ويعرف ضَعفَه إزاء المُغْريات، وضعفه إزاء التكاليف، ويعرف كل هذا؛ فيساير فطرته في واقعها، ولا يفرض عليه من التكاليف ما ينوء به كاهله، ويعجز عن أدائه، ويجعل الملزمة في حدود الطاقة الممكنة، ولكن مع ذلك لا يتركه لفطرته الضعيفة دون تقويم.
6- الوضوح:
يتسم منهج التربية القرآنية بالوضوح، لا يشوبه نقص، ولا يعتريه شك، ولا يدخله الغموض والإبهام، فأوامره ونواهيه وتوجيهاته ومواعظه، واضحةٌ جليَّة، قال تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [المائدة: 15، 16]، به يُبَصَّرُ العبد إلى الصلاح والفلاح، قال تعالى: ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [الأعراف: 203].
7- اليسر والسهولة:
تتسم التربية القرآنية بسهولة مبادئها وتعاليمها، وعدم الإرهاق والمشقة في الالتزام بها؛ فهي تسير في حدود الطاقة البشرية، قال تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [البقرة: 286]، وقال تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) [النساء: 28].
8- الإيجابية العملية (الفعالية):
من سمات التربية القرآنية، فهي لا تطلب من الفرد أن يتعلم العلم - سواء الدنيوي أو الديني - فقط، ولكنها تطلب منه العمل بالعلم وعدم كتمانه، بل تُحَرِّم عليه كتمانَهُ، قال تعالى: ( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) [البقرة: 140].
لذلك؛ فهذا المنهج يَحُثُّ على العلم، والعمل، والتعليم، فلا بد من الإتيان بالثلاثة معًا مجتمعين، فكل من يتربى على المنهج القرآني فلا بد أن يكون إيجابيًّا فعالاً مع نفسه، ومع مجتمعه، يعمل بما تعلم حتى يكون مؤمنًا، قال تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [النحل: 97]، وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) [الصف: 2، 3]، وتدبر مدى التحذير من الانزواء على النفس، قال تعالى: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) [هود: 28]، قال: ( مُصْلِحُونَ )ولم يقل: "صالحون"؛ أي: إن الصلاح الشخصي لا يمنع عنهم شيئًا، وعلى ذلك فالتربية القرآنية تتطلب من الفرد أن يكون صالحًا مُصلِحًا، وراشدًا مرشِدًا.
9- التدرج في التربية:
يقرر القرآن الكريم أن التربية ليست عمليةَ تَحَوُّل مفاجئ في السلوك؛ وإنما هي عملية تحتاج إلى تدرج في التوجيه شيئًا فشيئًا؛ حتى تؤتِيَ هذه العملية ثمارها المرجوَّة.
وهذا التدرج قد اختاره اللهتعالى لنفسه في إنشاء هذا الكون، فإن الله - سبحانه وتعالى - مع قدرته وحوله لم يخلق الكون دفعة واحدة، ولا حتى الإنسان الضعيف، وإنما هي سنته في التدرج، مع أنه سبحانه قادرٌ على أن يقول للشيء: كن، فيكونُ، ولكنها حكمته سبحانه في خلقه، قال تعالى: ( مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [مريم: 35].
لذلك؛ فإنَّ مِنْ طَبْعِ الإنسان أنه لا يتغير فجأة، إنما يحتاج إلى تقديم، وتقريب، وتجريب، وحَثٍّ على التغير؛ حتى يغَيِّرَ من سلوكه، قال الشاعر:
وَمُكَلِّفُ الأشياءِ ضدَّ طِبَاعِهَا *** متطلِّبٌ في الماءِ جَذْوَةَ نارِ
وقد راعت التربية القرآنية التدرج، والمتأمِّل في القرآن الكريم يرى أن أول ما نزل من القرآن كان في العهد المكي؛ حيثُ لم تثبت أركان الدعوة بعدُ؛ لذلك إذا نزل الأمر بالعبادات وتحريم المنكرات إذًا لارْتاب المؤمنون، ولازْدَاد الكافرون كُفرًا وصدًّا عن سبيل الله، ولكن هذا المجتمع يحتاج إلى إقناع ودعوة إلى هذا الدين الجديد؛ لذلك كان أول ما نزل من القرآن تبشيرًا وتحذيرًا وتنبيهًا إلى عاقبة السابقين من الأمم الذين كفروا برسلهم، ثم بعد هذه المرحلة، ومع بداية العهد المدني نزلت الأوامر بالعبادات، وتحريم المنكَرَات، مع مراعاة التدرج.
ومن مظاهر هذا التدرج تحريم الخمر، كان الناس قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- يشربون الخمر ويحبونها، وظَلَّ هذا الأمر مستمرًّا حتى بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم- وبعد تثبيت أركان الدولة الإسلامية، كان لا بد من تحريم الخمر التي كان لها مفاسد ينوء بالمقام ذكرها، ولكن لو نزل الأمر مباشرًا بالتحريم دون تدرُّج مع هؤلاء الناس الذين ألِفُوها وعَدُّوها جزءًا من حياتهم، لحدث ما لا تُحمد عقباه، ولكنَّ الله تعالى هو خالقهم، وأعلم بما يصلح لهم، فبيَّن سبحانه أن الخمر فيها منافع، ولكنَّ إثمها أكبر من نفعها، قال تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) [البقرة: 219]، فكانت هذه الآية تحذيرًا لهم وتنبيهًا على خطرها، ثم نزل بعد ذلك التحريمُ في أثناء الصلاة تدرُّجًا معهم، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) [النساء: 43]، وكان هذا أمرًا بتحريمها نهائيًّا، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) [المائدة: 90، 91].
---------
[1] أخرجه الترمذي (2/308)، وأخرجه الطبراني (2680)، وأخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/355).
التعليقات