عناصر الخطبة
1/قصة الرجل الذي أمر أولاده بإحراقه بعد وفاته 2/ثمرة الخوف من الله وفضله 3/التحذير من الأمن من مكر الله 4/وجوب تعظيم الله -تعالى-

اقتباس

رجل يعمل بالمعاصي طوال حياته, ومات شاكا في قدرة الله, فإذا الله يأتي على ذنوب عمره كلها فيمحوها ولا يبالي, فيا ترى ما الذي جعله يبلغ ما بلغ؟! ما هو العمل الذي بسببه أتى الله على سيئاته فأفناها, وما ترك منها شيئا فكانت هباء منثورا...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

أما بعد: اليوم نعيش في هذه الخطبة مع قصص أحد السالفين, قصة حكاها لنا رسولنا ومعلمنا الأول محمد الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

هذه القصة لرجل كانت نهايته جميلة, وعاقبته حسنة, ويكفي أن أحسن الخلق ذكره وشهد له بالجنة والمغفرة, وقص علينا قصته لعلنا أن نعتبر بها, فتعالوا بنا ننظر في حياة هذا الرجل, ونرى كيف قضى حياته؟ وما الأعمال التي عملها؛ حتى استحق هذه النهاية الجميلة وهذه العاقبة الحسنة؟!.

 

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان رجلٌ ممن كان قبلكم رَغَسه -أي: أعطاه- الله مالاً وولدًا، أسْرَف على نفسه، يُسيء الظنَّ بعمله، لَم يَعمَل من الخَير شَيئًا قَطُّ"؛ هذا هو عمله, أنعم الله عليه بالمال والأولاد, لكنه لم يشكر هذه النعم, وأسرف على نفسه بالمعاصي, ولم يعمل من الخير شيئا قط؛ إلا أنه كان موحدا, وكان يقر على إسرافه فـ"كان يسيء الظن بعمله", كما في الحديث, وانتبه لهذه الكلمة!.

 

نكمل القصة يقول -صلى الله عليه وسلم-: "وإنه لَبِث حتى ذهَب منه عُمر، وبَقِي عُمر، فعَلِم أنه لَم يَبْتَئِر -أي: يدخِّر- عند الله خيرًا، فلمَّا حضرتْه الوفاة، دعا بَنِيه, فقال: أيُّ أَبٍ كنتُ لكم؟, قَالوا: خَيرَ أَبٍ، فقال: فهل أنتم مُطيعي؟, قَالوا: نعم، قال: فإني لا أَدَعُ عند أحدٍ منكم مالاً هو مني إلاَّ أخذتُه منه، أو لتَفْعَلُنَّ ما آمركم".

 

يا ترى ما هو هذا الأمر المهم الذي سيوصي به أبناؤه؟! يا ترى هل سيوصي بالتصدق بشيء من ماله؛ لعله أن يكون كفارة؟! هل سيطلب من أولاده أن يجروا له أوقافا؛ لعله تدر له من الحسنات ما يغلب سيئاته؟! تعالوا فلنرَ!.

 

قال -صلى الله عليه وسلم-: "فأخَذ منهم ميثاقًا وَرَبِّي، قال: فإني لَم أعمل خيرًا قطُّ، فإذا أنا مِتُّ فخُذوني، فأحْرِقوني بالنار، حتى إذا كنتُ فحما فدقُّوني -وفي روايات أخرى: اطحنوني, اسحقوني, اهرسوني بالمِهرَاس-، ثم اذْرُوني؛ نصفي في البحر، ونصفي في البر، في يوم ريحٍ عاصفٍ؛ لعَلي أضلُّ اللهَ, فوالله لئن قدَر الله عليّ, ليُعَذبني عذابًا لا يُعذِّبه أحدًا من خَلْقه".

 

يا الله! يا له من أمر مضحك! وشر البلية ما يضحك!, الله الذي خلقك من لا شيء, أليس بقادر على أن يجمع رمادك فتقوم أمامه؟!.

 

هذا الرجل نصب حياته كلها في الشرور, ثم ختمها بالتشكيك في قدرة الله, ومحاولة الفرار منه -سبحانه-, هذا هو الظاهر لنا, والله عليم بذات الصدور.

 

ختم الوصية ثم جاءه الموت, وانتهت حياة ذلك الرجل خالية من الخيرات, ولعل مصيبة أولاده كانت عظيمة, فهم لم يجدوا له حسنة يسترحمون الله بها؛ إلا ما كان من توحيده فقط, قال -صلى الله عليه وسلم-: "ففعَل أهله ذلك".

 

مات فأحرقوه ثم طحنوه وهرسوه بالمهراس, ثم انتظروا يوما عاصفا, وجاء هذا اليوم فألقوا جزءاً من رماده في البحر, وجزءاً منه في البر, ولعل الوصية استغرقت أياما حتى تنفذ على الوجه المطلوب.

 

يكمل -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "فأمر الله البر والبحر فجمعاه وقال الله: كنْ؛ فكان كأسرع من طَرْفة العين، فإذا هو في قَبضَة الله رجلٌ قائم", ذلك ما كنت منه تفر, هذا الله الذي أردت أن تهرب منه, جمعك في أسرع من طرفة العين!.

 

فيا ترى كيف سيكون حسابه؟ وما هو عقابه؟! يكمل -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "قال الله -عز وجل-: أي عبدي! ما حَمَلك على ما صنعتَ، قال: خشيتك يا ربِّ -وفي رواية: ما فعلتُ إلاَّ من مَخافتك-, فما تلافاه أن رَحِمه الله؛ فغَفَر له".

 

وذنوبه؟! وسيئاته؟! وجرائمه؟! وتفريطه في جنب الله؟! "فما تلافاه أن رحمه الله؛ فغفر له", لا إله إلا الله!, ألا ما أعظم رحمة الله!, ألا ما أوسع مغفرة الله!.

 

رجل يعمل بالمعاصي طوال حياته, ومات شاكا في قدرة الله, فإذا الله يأتي على ذنوب عمره كلها فيمحوها ولا يبالي, فيا ترى ما الذي جعله يبلغ ما بلغ؟! ما هو العمل الذي بسببه أتى الله على سيئاته فأفناها, وما ترك منها شيئا فكانت هباء منثورا!؛ إنه الخوف من الله, إنها خشيته -سبحانه-, إنه تعظيم الله الذي قام في قلبه وختم حياته به, هذا الذي بلغ به ما بلغ!.

 

صحيح أنه عاش مسرفا على نفسه, لكنه ختم حياته وقلبه قد امتلأ خشية وخوفا من الله ومن عذابه, ففكر في حيلة ينجو بها, فوصل بجهله إلى تلك الحيلة, فعذره الله على جهله وتداركه برحمته؛ لما رأى التعظيم قائماً حاضراً في قلبه.

 

هذا هو الدرس الأعظم الذي نستفيده في هذه القصة, أنه متى ما كان تعظيم الله حاضرا في قلبك؛ فأنت على خير -بإذن الله-, ومتى ما كانت الاستهانة بالله موجودة في قلبك؛ فأنت على خطر عظيم إن لم تتداركك رحمة الله.

 

قد يعمل رجلان معصية واحدة, وقدرهما عند الله كما بين السماء والأرض؛ الأول يعملها وقلبه وجل, يعمله وهو خائف من عقوبة الله, وإذا انتهى منها أهمه شأنها وخشي أن تكون هذه المعصية هي سبب عذابه, ويستحضر سوءها وشؤمها؛ كما ورد في قصة هذا الرجل "كان يسيء الظن بعمله", والآخر يعملها وقلبه غافل, الله ليس في حساباته, نسيه تماما وغفل عنه, يعمل المعصية وليس في باله أن هذه معصية لله أصلا, وإذا ذكر بالله أخذته العزة بالإثم, وقد ينكر على من ينكر عليه وينسبه للتشدد والتزمت, وقد يفعل المعصية ويستدل على فعلها بأن الدين يسر وأن هذا هو الإسلام الوسطي والإسلام المعتدل, أو أن الله غفور رحيم, وينسى أنه –أيضا- ذو عقاب أليم؛ فيختفي الخوف من عقاب الله تماما من قلبه, فبين الأول والثاني كما بين السماء والأرض!.

 

يقول عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا", هذا هو الفرق الجوهري, كلاهما يقع في الذنوب المؤمن والفاجر, لكن المؤمن يخاف والفاجر يأمن, وشتان شتان بينهما, وقد وعدنا الله وأقسم على ذلك في الحديث القدسي: "قال اللهُ -تعالى-: وعزَّتي وجلَالي، لا أجمعُ لعبدي أمنينِ ولا خوفينِ, إنْ هُوَ أَمِنَنِي في الدنيا؛ أخفتُهُ يومَ أجمعُ عبادي, وإنْ هو خافني في الدنيا؛ أمَّنْتُهُ يومَ أجمعُ عبادي".

 

الذي يفعل الذنب خائفا من الله, فإنه غالبا سيأتي عليه يوم يتوب من هذا الذنب؛ لأن الخوف من عقوبة الذنب حاضر في قلبه, فإذا هبت ريح الإيمان في قلبه بادر إلى التوبة والإقلاع من الذنب, وإن لم يتب منه, فلعله بخوفه هذا يغفر الله له؛ كما غفر لصاحب قصتنا.

 

فيا أخي المسلم: إن ابتلاك الله بذنب, فالسلامة كل السلامة أن تقلع عنه وتتوب منه وتقطع دابر الشيطان, فإن ضعفت نفسك وعجزت فالحذر الحذر أن تفعله مستهينا بالله, غافلا عن عقابه, فبدل أن تبوء بذنبك الذي فعلته وتكتفي, تبوء بذنب آخر هو أكبر وأعظم؛ بل هو كبيرة من كبائر الذنوب, وهو الأمن من مكر الله؛ (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف: 99].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

عباد الله: اسمعوا واعوا الله عظيم؛ (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)[الزمر: 67], وكتابه عظيم؛ (لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)[الحجر: 87], ورسوله عظيم؛ (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4], ودينه وشعائره عظيمة؛ (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32], وأجره عظيم؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)[المائدة: 9], وفضله عظيم؛ (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[البقرة: 105], وعقابه عظيم؛ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 105].

 

فمن قام تعظيم الله في قلبه؛ فيرجى له الخير العظيم والعاقبة الحسنة, ومن نسي الله واختفى الخوف من قلبه؛ أنساه نفسه فكان سبيله إلى الخسران؛ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 19].

 

فاملؤوا بتعظيم الله العظيم قلوبكم, وعلموه أهليكم, وأرضعوه أولادكم, واستحضروه في أقوالكم وأعمالكم؛ "ومن خاف أدلج, ومن أدلج بلغ المنزل, ألا إن سلعة الله غالية, ألا إن سلعة الله الجنة", كلام نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.

 

اللهم ارزقنا تعظيمك وخشيتك, اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك, ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك, ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا, اللهم املأ قلوبنا برجاء رحمتك والخوف من عقابك.

 

المرفقات
0jF1pfuMGCXargBSQxVBeFHLwoC5nAZds9279ZEF.pdf
dm1cQHx0N4GG0qCXSVqQQQhL8qDaA2N1jCNkfyFe.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life