اقتباس
والخلاصة أنه يجوز ختم المصحف في أقل من ثلاثة أيام بشرط ألا يؤثر هذا الختم على الوظائف والأعمال التي يقوم بها المسلم، فله أن يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل بكثرة الختم عنها، فإذا كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك، فليوظف لنفسه قراءة يمكنه المحافظة عليها مع نشاطه وغيره.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا الكريم وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الله تعالى فضل هذه الأمة المرحومة على سائر الأمم من الأولين والآخرين بفضيلتين عظيمتين، إحداهما: أنه أرسل فيها نبياً، هو أفضل الأنبياء على الإطلاق، وخاتم المرسلين، وسيد ولد آدم، وثانيتهما: أنه أنزل إليها كتاباً هو خير الكتب على الإطلاق وأفضلها، وقد تكفل الله تعالى بحفظه من التحريف والعبث، وذلك عن طريق أهل العلم الراسخين، الذين اعتنوا به تلاوة وحفظاً وفهماً وتعليماً، لما في ذلك من الأجر العظيم المترتب على الاشتغال بالقرآن الكريم وعلومه.
لقد ابتليت الأمة المحمدية في هذا العصر بداء الغفلة، والانصراف عن تلاوة القرآن الكريم، والعمل به، فأصابها من الذل ما أصابها، حتى صار المسلمون في آخر القافلة في العصر الحاضر، بسبب غفلتهم عن كتاب ربهم، الذي تكمن فيه أسباب النصر والتمكين، ولهذا أحببت أن أسلط الضوء على مسألة هامة، تتعلق بتلاوة هذا الكتاب العزيز، وأن أوضح مدى عناية السلف الصالح بتلاوة القرآن، والاشتغال به؛ لأنهم علموا أن سر عزتهم وظهورهم على أعدائهم إنما هو بتلاوة القرآن، والاشتغال به، واعتماده منهج حياة.
خطة البحث:
وقد اشتمل هذا البحث على مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة وفهرس للمصادر والمراجع على النحو التالي:
المبحث الأول: فضل تلاوة القرآن وآدابها ومراتبها.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: فضل تلاوة القرآن.
المطلب الثاني: آداب تلاوة القرآن.
المطلب الثالث: مراتب تلاوة القرآن.
المبحث الثاني: تحزيب القرآن.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف التحزيب لغةً واصطلاحاً.
المطلب الثاني: مشروعية تحزيب القرآن.
المبحث الثالث: مدة ختم القرآن.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الآيات والأحاديث الواردة في ختم القرآن.
المطلب الثاني: اختلاف العلماء في تحديد مدة ختم القرآن.
المطلب الثالث: أنواع الختم عند السلف (1).
الخاتمة: وتتضمن أهم النتائج والتوصيات.
****
المبحث الأول: فضل تلاوة القرآن وآدابها ومراتبها.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: فضل تلاوة القرآن.
لقد اختص الله سبحانه وتعالى هذا الكتاب العزيز بفضائل كثيرة، يصعب حصرها، فالقرآن والسنة مليئان بالآيات والأحاديث الدالة على ذلك.
فمن الآيات الدالة على فضل تلاوة القرآن، قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:29، 30]، يخبر تعالى عن عباده المؤمنين، الذين يتلون كتابه، ويؤمنون به، ويعملون بما فيه من إقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً، بأنهم يرجون ثواباً من عند الله لا بد من حصوله(2).
وقوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة:121]، والمراد من قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه، (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ) بمراعاة لفظه عن التحريف، وبالتدبر في معانيه والعمل بما فيه، وقوله: (أُوْلَئِكَ) إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل(3).
وقوله تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا) [الكهف:26].
وقوله تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) [النمل:91، 92].
قال أبو السعود في معنى قوله تعالى: (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ): "أي أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه الرائعة المخزونة في تضاعيفه شيئاً فشيئاً، أو على تلاوته على الناس بطريق تكرير الدعوة، وتثنية الإرشاد، فيكون ذلك تنبيهاً على كفايته في الهداية والإرشاد"(4).
ومن الأحاديث الدالة على فضل تلاوة القرآن الكريم ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَن قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألِف حرف، ولام حرف، وميم حرف""(5).
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه..."(6).
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض"(7).
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الرب -عز وجل-: من شَغَله القرآن وذِكْري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفَضْل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خَلْقه"(8).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسُد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار، يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل، ورجل آتاه الله مالاً، يُنفقه في حقِّه، فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي لفعلُ كما يفعل"(9).
المطلب الثاني: آداب تلاوة القرآن.
لما كان القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، كان واجباً على من أراد تلاوته أن يتعامل معه معاملة تدل على تعظيمه وتقديره، ومن الآداب التي ينبغي على القارئ مراعاتها ما يأتي:
أولاً: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وطلب الأجر والثواب منه وحده.
قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء) [البينة:5]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..."(10).
ثانياً: استحباب السواك والوضوء عند قراءة القرآن، وطهارة المكان، واستقبال القبلة(11).
ثالثاً: الاستعاذة عند البدء بالقراءة؛ لقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل:98].
رابعاً: التدبر والخشوع أثناء التلاوة، لقوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص:29]، وقوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].
خامساً: مراعاة أحكام التجويد، وتحسين الصوت بالقراءة(12).
سادساً: البكاء أو التباكي عند تلاوته(13).
سابعاً: الدعاء عند المرور بآيات الرحمة أو العذاب(14).
المطلب الثالث: مراتب تلاوة القرآن.
لقد قسم العلماء مراتب تلاوة القرآن إلى أربع مراتب:
أولاً: الحدر: بفتح الحاء وسكون الدال، مصدر من حَدَرَ يَحدُرُ إذا أسرع والحدرُ إدراج القراءة وسرعتها مع مراعاة إقامة الإعراب وتقويم اللفظ وتمكن الحروف(15).
ثانياً: التحقيق: وهو إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد، وتحقيق الهمزة، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار، والتشديدات، وتوفية الغنات، وتفكيك الحروف، وإخراج بعضها من بعض، بالسكت والترسل واليسر والتؤدة، وهو أكثر المراتب اطمئناناً، ويؤخذ به في مقام التعليم(16).
ثالثاً: الترتيل: وهو القراءة بطمأنينة، على مكث وتفهم من غير عجلة، مع إعطاء الحروف حقها ومستحقها، وهذه المرتبة هي أفضل المراتب استناداً إلى قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:4]، ولم يقتصر سبحانه وتعالى على الأمر بالفعل حتى أكّده بالمصدر اهتماماً به وتعظيماً له، ليكون عوناً على تدبر القرآن وتفهمه(17).
رابعاً: التدوير: وهو التوسط بين المقامين من التحقيق والحدر، وهو الذي ورد عن أكثر الأئمة ممن مد المنفصل، ولم يبلغ فيه إلى الإشباع، وهو مذهب سائر القرآن، وهو المختار عند أكثر أهل الأداء(18).
المبحث الثاني: تحزيب القرآن.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف التحزيب لغةً واصطلاحاً.
أولاً: تعريف التحزيب لغةً:
(الحزب) هو تجمُّع الشيء، والحِزب الجماعة من الناس. قال الله تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون:53]، والطائفة من كل شيء حِزب، والحِزب: الوِرْد وَزْناً ومَعنى، والوِرْد: النوبة في ورود الماء(19).
ثانياً: تعريف التحزيب اصطلاحاً: الحزب: ما يعتاده المرء من صلاة وقراءة ودعاء(20).
قال الزمخشري: "قرأ حِزبَه من القرآن، وكم حِزبُك، وهو الطائفة التي وَظَفها على نفسه يقرؤها، وحَزَّب القرآن جعله أحزاباً"(21).
المطلب الثاني: مشروعية تحزيب القرآن.
لقد جاءت العديد من النصوص الشرعية الثابتة التي تدل على مشروعية تحزيب القرآن، ومنها ما يأتي:
أولاً: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نام عن حِزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل"(22).
ثانياً: عن ابن الهاد(23) قال: "سألني نافع بن جبير بن مطعم فقال لي: في كل تقرأ القرآن؟ فقلت: ما أحزبه، قال لي نافع: لا تقل ما أُحَزبه؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قرأت جزءاً من القرآن"(24).
ثالثاً: عن أوس بن حذيفة الثقفي، وفيه:... فلما كانت ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلنا: يا رسول الله: لقد أبطأت عنا الليلة، قال: إنه طرأ عليّ جزئي من القرآن، فكرهت أن أجيء حتى أتمه، قال أوس: فسألتُ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف تُحَزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المُفصَّل وحده(25).
وحديث أوسٍ يدل على أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كانوا يحزبون القرآن سوراً تامة، ولا يحزبون السورة الواحدة، وأنهم كانوا يحزبونه سبعة أحزاب، ويختمونه في سبعة أيام. ففي اليوم الأول ثلاث سور، من الفاتحة حتى النساء، وفي اليوم الثاني خمس سور، من المائدة حتى التوبة، وفي اليوم الثالث سبع سور، من يونس حتى النحل، وفي اليوم الرابع تسع سور، من الإسراء حتى الفرقان، وفي اليوم الخامس إحدى عشرة سورة، من الشعراء حتى الصافات، وفي اليوم السادس ثلاث عشرة سورة، من (ص) حتى الحجرات، وفي اليوم السابع، من (ق) حتى سورة الناس.
قال ابن تيمية: المسنون قراءة القرآن في سبعٍ، ولهذا جعلوه سبعة أحزاب، ولم يجعلوه ثلاثة ولا خمسة، وهذا معلوم بالتواتر، أما التجزئة بالحروف فإنها محدثة من عهد الحجاج بالعراق، ومن العراق فشا ذلك(26).
كما قال ابن تيمية: وهذا الذي كان عليه الصحابة- أي التحزيب بالسور، وجعل القرآن سبعة أحزاب- هو الأحسن؛ لوجوه:
أحدها: أن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن دائماً الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده، حتى يتضمن الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه، ويتضمن الوقف على بعض القصة دون بعض.
الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت عادته الغالبة وعادة أصحابه أن يقرأ في الصلاة السورة كاملة.
الثالث: أن التجزئة المحدثة لا سبيل فيها إلى التسوية بين حروف الأجزاء؛ وذلك لأن الحروف في النطق تخالف الحروف في الخط في الزيادة والنقصان(27).
المبحث الثالث: مدة ختم القرآن
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الآيات والأحاديث الواردة في ختم القرآن.
أولاً: الآيات القرآنية:
(1) قال تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء:106].
(2) قال تعالى: (رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:4].
والآيتان تدلان على التأني والتمهل في تلاوة القرآن دون تحديد المدة التي ينبغي أن يختم القرآن خلالها، إذ لا يوجد في القرآن نص صريح على ذلك.
يقول القرطبي: " على مكث أي على ترسل في التلاوة وترتيل، قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج؛ فيعطي القارئ القراءة حقها من ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤدٍّ إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان"(28).
ويقول الفخر الرازي: " السنة أن يقرأ القرآن على الترتيل، لقوله تعالى: (رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 4]، والترتيل هو أن يذكر الحروف والكلمات مبينة ظاهرة، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه، فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ، وأفهم غيره تلك المعاني، وإذا قرأها بالسرعة لم يفهم ولم يفهم، فكان الترتيل أولى"(29).
ثانياً: الأحاديث النبوية:
لقد وردت نصوص عديدة في السنة تبين المدة التي ينبغي أن يختم القرآن خلالها ومنها ما يأتي:
(1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: جمَعْتُ القرآن فقرأتُ به في كل ليلة، فبلغ ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أخشى أن يطول عليك زمان وأن تملَّ، اقرأه في كل شهر قلتُ: يا رسول الله دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي، قال: اقرأه في كل عشرين قلتُ: يا رسول الله دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي، قال: اقرأه في كل عشر قلتُ: يا رسول الله دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي، قال: اقرأه في كل سبع قلت: يا رسول الله دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي فأبى(30).
(2) عن عبد الله بن عمروٍ -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، في كَم أختم القرآنَ؟ قال: اختِمْه في كل شهر، قلتُ: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اختمه في خمسٍ وعشرين، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اختمه في خمس عشرة، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اختمه في عشرٍ، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اختمه في خمسٍ، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فما رخَّص لي(31).
(3) عن عبد الله بن عمروٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث"(32).
(4) عن عبد الله بن عمروٍ -رضي الله عنه-، أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: في كل يُقرأ القرآن؟ قال: في أربعين، ثم قال: في شهر، ثم قال: في عشرين، ثم قال: في خمس عشرة، ثم قال: في عشرٍ، ثم لم ينزل يعني من سبع(33).
فقد صرحت هذه الأحاديث على تحديد مدة الختم خلال أربعن يوماً، أو ثلاثين يوماً، أو خمسة وعشرين يوماً، أو عشرين يوماً، أو خمسة عشر يوماً، أو عشرة أيام، أو سبعة أيام، أو خمسة أيام، أو ثلاثة أيام.
المطلب الثاني: اختلاف العلماء في تحديد مدة ختم القرآن.
لقد اتفق أهل العلم على جواز ختم القرآن في ثلاثة أيام فما فوقها، ولكنهم اختلفوا في حكم الختم في أقل من ثلاث على قولين:
القول الأول: يكره ختم القرآن في أقل من ثلاث، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص(34)، وابن مسعود (35)، وزيد بن ثابت (36) -رضي الله عنهم-.
واستدلوا على ذلك بما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح أنه قال: "لا يفقه مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث"(37).
القول الثاني: يجوز ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام، وهو قول عثمان بن عفان (38)، وعبد الله ابن الزبير (39)، وتميم بن أوس الداري (40) -رضي الله عنهم-.
واستدلوا على ذلك بعموم الآيات والأحاديث التي تبين فضل التلاوة وترغب في الإكثار منها؛ كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ) [فاطر:29]، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "مَن قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألِف حرف ولام حرف وميم حرف"(41).
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة(42) طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها..."(43)، واستدلوا أيضاً بحديث أبي هريرة مرفوعاً: "خُفِّف على داود -عليه السلام- القرآن(44) فكان يأمر بدوابه فتُسْرَج(45) فيقرأ القرآن قبل أن تُسرج دوابُّه ولا يأكل إلا مِن عمل يده"(46).
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن الله -تعالى يبارك- في أوقات الصالحين فيقومون بأعمال جليلة في أوقات يسيرة، من باب الكرامة لهم.
الترجيح:
الذي يظهر للباحث رجحان جواز ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام للأسباب الآتية:
أولاً: عموم الأدلة الشرعية في بيان فضل الإكثار من تلاوة القرآن الكريم؛ كحديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها..."(47)، وحديث: "من قام بعشر أيام لم يُكتب من الغافلين، ومَن قام بمائة آية كُتب من القانتين، ومَن قام بألف آية كُتب من المقنطرين"(48) فالحديثان يدلان على القاعدة القائلة: زيادة الثواب مرتبطة بزيادة القراءة.
ثانياً: إن جميع الأحاديث الواردة في النهي عن ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام جاءت من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص فقط، وسبب ذلك أن عبد الله كان على جانب عظيم من العبادة والزهد، مما أدى به إلى التقصير في حق أهل بيته، حتى شكته زوجته إلى أبيه عمرو بن العاص، ثم شكاه أبوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(49).
عن عبد الله بن عمروٍ -رضي الله عنهما- قال: "أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنَّتَه فيسألها عن بعلها، فتقول: نِعْمَ الرجل من رجلٍ، لم يطأ لنا فراشاً، ولم يُفتِّش لنا كنَفاً منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: القني به فلقيتُه بعد فقال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم قال: وكيف تختم؟ قال كل ليلة، قال: صمْ في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام في الجمعة، قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: أفطر يومين وصم يوماً، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: صم أفضل الصوم صوم داود صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرّة، فليتني قبِلت رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذاك أني كبِرتُ وضعُفتُ..."(50)، وهذا يدل على أن حديث النهي واقعة عين لا عموم لها.
فإن قال قائل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب(51)، فيجاب عن ذلك بجوابين: أحدهما: أن هذا الحديث محتفٌّ بقرائن تؤكد أنه واقعة عين، كاختصاص صحابي واحد برواية الحديث دون غيره، وتخصيصه بالعتاب واللوم لتفريطه بحق أهله، والقصة الواردة في سبب ورود الحديث خير شاهد على ذلك.
ثانيهما: أن بعض روايات الحديث جاءت لتبين أن هذا الحكم جاء في سياق الرخصة لهذا الصحابي العابد، ومنها: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "... إني أخشى أن يطول عليك الزمان وأن تمل..."(52)، وقوله: "... إنك لا تدري لعلك يطول بك عُمْرٌ..." قال: فصرتُ إلى الذي قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما كبرتُ، وددتُ أني كنتُ قبلتُ رخصة نبي الله -صلى الله عليه وسلم-(53).
ثالثاً: يمكن حمل النهي الوارد على من كان حاله مثل حال عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- من جهة التقصير في حق أهله جمعاً بين الأدلة، ودرءاً للتعارض الحاصل بينها.
رابعاً: إن علة النهي الوارد في الحديث لا علاقة له بالتلاوة؛ بل يتعلق بعدم تدبر معاني الآيات وعدم فهمها فهماً صحيحاً بسبب الإسراع في القراءة.
خامساً: إن الآثار الواردة عن السلف الصالح في قراءة القرآن وختمه أكثر من ختمة في أقل من ثلاث محمول على أن ذلك من باب إكرام الله سبحانه وتعالى لهم من حيث حصول البركة في أوقاتهم وأعمالهم، فقد يعملون أعمالاً كثيرةً في زمن يسير(54) فقد صلى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- صلاة الصبح فقرأ البقرة من أولها إلى آخرها(55)، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقرأ في الفجر بالنحل ويوسف وهود ويونس وسورة الإسراء(56).
قال الحافظ ابن حجر: " وفي الحديث أن البركة قد تقع في الزمن اليسير حتى يقع فيه العمل الكثير"(57).
وقال الحافظ بدر الدين العيني: " وفيه أن الله تعالى يطوي الزمان لمن شاء من عباده كما يطوي المكان"(58).
والخلاصة أنه يجوز ختم المصحف في أقل من ثلاثة أيام بشرط ألا يؤثر هذا الختم على الوظائف والأعمال التي يقوم بها المسلم، فله أن يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل بكثرة الختم عنها، فإذا كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك، فليوظف لنفسه قراءة يمكنه المحافظة عليها مع نشاطه وغيره.
قال الإمام النووي: " وقد كانت للسلف عادات مختلفة فيما يقرؤون كل يوم بحسب أحوالهم وأفهامهم ووظائفهم؛ فكان بعضهم يختم القرآن في كل شهر، وبعضهم في عشرين يوماً، وبعضهم في عشرة أيام، وبعضهم أو أكثرهم في سبعة، وكثير منهم في ثلاثة، وكثير في كل يوم وليلة، وبعضهم في كل ليلة، وبعضهم في اليوم والليلة ثلاث ختمات، وبعضهم ثمان ختمات، وهو أكثر ما بلغنا، والمختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه، ولا يعتاد إلا ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل بإكثار القرآن عنها فإن كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك، فليوظف لنفسه قراءة يمكنه المحافظة عليها مع نشاطه وغيره، من غير إخلال بشيء من كمال تلك الوظيفة، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف والله أعلم"(59).
أما ما ورد عن السلف من ختم القرآن مرة أو أكثر في يومٍ أو في ليلة فربما كان ذلك في أيام مخصوصة، كأيام شهر رمضان المبارك، إذ يتعذر ختم القرآن في اليوم أو الليلة مرة أو أكثر على الدوام مع القيام بالوظائف والأعمال العامة أو الخاصة، والله أعلم.
المطلب الثالث: أنواع الختم عند السلف.
إن الناظر في أحوال أهل العلم في ختم القرآن يجد أن الختم على ثلاثة أنواع كما يأتي:
النوع الأول: الختم التعبدي:
إن كثيراً من العلماء كانوا على عناية فائقة واهتمام بالغ بقراءة القرآن، والإكثار من تلاوته على وجه التعبد المحض، وعملاً بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأن حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألِف حرف ولام حرف وميم حرف"(60)، وهذا النوع يمكن تسميته بما يعرف: (بالختم التعبدي المحض).
قال السيوطي:" وقد كان للسلف في قدر القراءة عادات، فأكثر ما ورد في كثرة القراءة: من كان يختم في اليوم والليلة ثماني ختمات: أربعاً في الليل، وأربعا في النهار، ويليه: من كان يختم في اليوم والليلة أربع ختمات، ويليه ثلاثاً، ويليه ختمتين، ويليه ختمة...... ويلي ذلك من كان يختم في ليلتين، ويليه من كان يختم في كل ثلاث، وهو حسن..... ويليه من ختم في أربع، ثم في خمس، ثم في ست، ثم في سبع، وهذا أوسط الأمور وأحسنها، وهو فعل الأكثرين من الصحابة وغيرهم"(61).
وقال ابن الجزري: "اختُلِف هل الأفضل الترتيل وقلة القراءة أو السرعة مع كثرتها؟ وأحسن بعض أئمتنا، فقال: إن ثواب قراءة الترتيل أجل قدراً، وثواب الكثرة أكثر عدداً لأن بكل حرف عشر حسنات"(62).
وقال النووي في الأذكار:" المختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف، فليقتصر على قَد?رٍ يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، وكذلك من كان مشغولاً بنشر العلم، أو فصل الحكومات، أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مُرصَدٌ له، ولا فوات كماله، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه، من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة"(63).
وقد واظب علي الختم التعبدي كثير من العلماء قديماً وحديثاً كما يأتي بيانه:
أولاً: الختم اليومي: لقد ورد عن بعض العلماء أنه كان يختم القرآن في اليوم الواحد مرة واحدة أو أكثر، فقد ورد ذلك عن عثمان(64) وتميم الداري(65) وعبد الله بن الزبير(66) وغيرهم -رضي الله عنهم-، ومن أمثلة ذلك:
(1) كان سليم بن عِتر(67) يختم القرآن في الليلة الواحدة ثلاث مرات(68).
(2) كان ابن الكاتب(69) يختم بالنهار أربع ختمات وبالليل أربع ختمات(70).
(3) قال الإمام العيني: لقد رأيتُ رجلاً حافظاً قرأ ثلاث ختمام في الوتر في كل ركعة ختمة في ليلة القدر(71).
(4) كان الشيخ عبد الرحمن الملحاني اليماني(72) سريع القراءة، فقد قرأ في الشتاء في يوم واحد ثلاث ختمام وثلث ختمة(73).
(5) كان الإمام محمد بن أحمد الغُراقي القاهري الشافعي(74) كثير التلاوة بحيث كان في مجاورته للحرم المكي يتلو كل يوم وليلة ست ختمات(75).
(6) وكان لأبي العباس بن عطاء(76) في كل يوم ختمة، وفي شهر رمضان كل يوم وليلة ثلاث ختمات(77).
(7) كان أبو الحسن علي بن عبد الله البُنَتي القصَّار المقرئ(78) يقرأ في يوم واحد أربع ختمات إلى ثُمناً مع إفهام التلاوة(79).
(8) كان كُرْز بن وَبْرة الحارثي(80) يختم القرآن في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وكانت قراءته تلك بمحضر جَمْع من القراء(81).
(9) وقد قرأ الإمام محمد بن أحمد التركستاني، الشهير بالقرمي(82) حتى بلغ في اليوم: ست ختمات(83).
(10) كان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة(84).
(11) وكان سعيد بن المسيب يختم القرآن في ليلتين(85)، وكان ثابت البُنَاني(86) يقرأ القرآن في يوم(87) وكان عطاء بن السائب يختم القرآن في كل ليلتين(88).
(12) عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: "جمَعْتُ القرآن فقرأْتُ به في كل ليلة،..."(89)، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص قد عدل عن الختم اليومي إلى الختم في كل ثلاثة أيام بعد توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- له بذلك.
(13) عن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن كله في ركعة في البيت(90)، وكان منصور بن زاذان(91) خفيف القراءة، وكان يقرأ القرآن كله في صلاة الضحى(92) وفي هذا المقام يقول الإمام النووي: "وأما الذين يختمون في ركعة فلا يحصون لكثرتهم"(93).
ثانياً: الختم خلال ثلاثة أيام: لقد كان كثير من الصالحين يواظب على ختمة واحدة في ثلاثة أيام، فيقرأ في كل يوم وليلة ثلث القرآن، ومنهم: عبد الله بن عمرو بن العاص(94) وابن تيمية(95)، وروي أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- كان يجزئ القرآن أثلاثاً(96).
ثالثاً: الختم الأسبوعي: لقد حرص أكثر أهل العلم من السلف والخلف على ختم القرآن أسبوعياً، قال أوس بن حذيفة: سألتُ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف تُحزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاثة عشرة، وحزب المفصَّل وحدَه(97).
رابعاً: الختم خلال عشرة أيام: لقد كان جماعات من العلماء يواظبون على ختم القرآن خلال عشرة أيام(98).
النوع الثاني: الختم التدبري:
هناك من أهل العلم من استحب أن يقرأ القرآن قراءة متأنية مترسلة حتى يكون ذلك أدعى لحضور القلب، وإعمال الفكر، وتدبر معاني الآيات التي يقرؤها، بغض النظر عن المدة التي يتم فيها الختم، فقد تطول وقد تقصر، ومن هؤلاء العلماء: زيد بن ثابت(99) وابن عباس(100)، وأبو العباس بن عطاء(101) وغيرهم، ومن شواهد ذلك ما يأتي:
(1) قال زيد بن ثابت: (لأن أقرأه في عشرين، أو نصف شهر، أحب إلي لكي أتدبره وأقف عليه)(102).
(2) وقال حمزة لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: لأن أقرأ سورة البقرة في ليلة أتدبرها، وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله حدراً كما تقول، وإن كنت لا بد فاعلاً؛ فاقرأ ما تسمعه أذنك، ويفهمه قلبك(103).
(3) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (104) قال: دخلَتْ عليَّ امرأٌة، وأنا أقرأُ سورة هود، فقالت لي: يا عبد الرحمن هكذا تقرأ سورة هود، والله إني فيها منذ ستة أشهر، وما فرغت من قراءتها(105).
(4) ومكث أبو العباس بن عطاء في ختمة واحدة، يستنبط مودع القرآن بضع عشرة سنة ليستروح إلى معاني مودعها، ومات قبل أن يختمها(106).
قال الغزالي:" إن كان العابدُ نافذَ الفكر في معاني القرآن، فقد يكتفي في الشهر بمرة لحاجته إلى كثرة الترديد والتأمل"(107).
النوع الثالث: الختم التعليمي:
كان أهل العلم في وقت الطلب يقرؤون القرآن على مشايخهم الذين يعلمونهم وجوه القراءة، وطرق الأداء الصحيحة، مما يجعلهم يقرءون القرآن على علمائهم مرات عديدة حتى يصل التلميذ منهم إلى درجة الإتقان في تلاوة القرآن، ومن شواهد هذا النوع من الختم ما يأتي:
(1) قال أبو محمد الخزاعي المكي(108): قرأتُ على ابن فليح(109) سبعاً وعشرين ختمة، وقرأت على البزي ثلاثين ختمة(110).
(2) عرض أبو العالية الرياحي(111) القرآن على أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وأخبر أنه قرأ القرآن على عمر بن الخطاب ثلاث مرات وقيل أربع مرات(112).
(3) قرأ مجاهد بن جبر على عبد الله بن عباس بضعاً وعشرين ختمة، ويقال ثلاثين عرضة، ومن جملتها ثلاث سأله عن كل آية فيم كانت(113).
(4) قال النقاش(114): قيل لقالون كم قرأ َ ت على نافع؟ قال: ما لا أحصيه كثرةً(115).
(5) قال يوسف بن عمر بن يسار (116): كنت نازلاً مع ورش في الدار فقرأت عليه عشرين ختمة من حدر وتحقيق(117).
(6) أخذ محمد بن غالب المقرئ (118) القراءة عرضاً عن شجاع(119) عن أبي عمرو البصري قرأ عليه عشر ختمات ثلاثاً بالإدغام، وسبعاً بالإظهار(120).
(7) قرأ محمد بن هارون المعروف بالتمار(121)، على رويس(122) أربعاً وعشرين ختمة، وثلاثا وعشرين ختمة أخرى متقطعات(123).
(8) قرأ أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد(124) على عبد الرحمن بن عبدوس(125) عشرين ختمة(126).
(9) ختم حمدان بن عون الخولاني المصري(127) على أحمد بن هلال(128) ثلاثمائة ختمة(129).
(10) عرض الحسن بن داود(130) على القاسم بن أحمد(131) أربعين ختمة(132).
(11) قرأ أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي(133) السبع على عبد الحق بن علي(134) في نحو من عشرين ختمة إفراداً وجمعاً(135).
(12) قال الوزَّان(136) قرأتُ بقراءة حمزة عشر ختمات، رضيها عَليّ، يعني خلاد(137).
(13) قرأ ورش على نافع أربع ختمات، وكان يقول: (كانوا يهبون لي أسباعهم حتى كنت أقرأ عليه كل يوم سُبعاً، وختمتُ في سبعة أيام، فلم أزل كذلك)(138).
(14) لقد قرأ أبو الحسن الحصري القيرواني(139) القراءات السبع على شيخه أبي بكر القصري(140) تسعين ختمة كلما ختم ختمةً قرأ غيرها حتى أكمل ذلك في مدة عشر سنين(141)
الخاتمــة:
وبعد هذه الجولة في المسائل العلمية الواردة في هذا البحث أود أن أسجل بعض النتائج والتوصيات الهامة.
أولاً: نتائج البحث:
(1) إن مقدار الثواب الحاصل من تلاوة كلام الله تعالى يختلف كثيراً عن تلاوة غيره من الكلام، كقراءة الأحاديث القدسية أو النبوية أو القراءة في كتب أهل العلم.
(2) إن تلاوة كلام الله تعالى لها آداب ينبغي على المسلم الالتزام بها عند القراءة.
(3) إن تلاوة القرآن لها مراتب متعددة تناسب أحوال المسلم المختلفة.
(4) إن العمل على طريقة تحزيب القرآن كان معروفاً في زمان النبوة وبعده.
(5) إن المدة التي يختم فيها القرآن تختلف من شخص إلى آخر، والمختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل بإكثار القرآن عنها، فإن كانت له وظيفة عامة أو تعليم ونحو ذلك، فليوظف لنفسه قراءة يمكنه المحافظة عليها مع نشاطه وغيره.
(6) إن ختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام أمر مشروع ولا حرج فيه، ولا يجوز الإنكار على من فعل ذلك.
(7) إن ختم القرآن يتنوع بتنوع مقاصد العلماء، فمنهم من يقرأ بنية التلاوة، ومنهم من يقرأ بقصد التدبر، ومنهم من يقرأ بهدف التعلم.
(8) إن السلف الصالح كانوا على جانب عظيم من العناية بالقرآن الكريم: تلاوةً، وتدبراً، وتعلماً.
(9) إن بعض السلف قد اتخذ لنفسه منهجية محددة في ختم القرآن، فتراه تارة يقرأ القرآن بهدف ختمه على سبيل التلاوة، وتراه تارة أخرى يقرأه بهدف التدبر في معانيه وأسراره.
ثانياً: توصيات البحث:
(1) توعية المسلمين حول أهمية القرآن وفضل تلاوته.
(2) إقامة الدورات العلمية الخاصة بتلاوة القرآن وتجويده.
(3) تعليم الناس مراتب التلاوة المختلفة نظرياً وعملياً، فإن أكثر الناس لا يستطيع أن يميز بينها في الجانب النظري أو الجانب التطبيقي.
(4) زرع روح المنافسة، وبث روح العزيمة، وشحذ الهمم في الاقتداء بما كان عليه العلماء السابقون من صرف الأوقات في ختم القرآن في زمن قصير، وعدم تضييع الساعات الطوال فيما لا فائدة منه غالباً.
_____________
(1) ونعني بكلمة السلف في هذا البحث: أهل العلم والإيمان من القرون الثلاثة المفضلة، ومَن جاء بَعْدَهم من أهل الصلاح والتقوى.
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/482.
(3) انظر: تفسير أبي السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 1/190.
(4) تفسير أبي السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 5/109.
(5) أخرجه الترمذي، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ما له من الأجر 5/175، ح/2910، وقال هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.
(6) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، 1/553، ح/804
التعليقات