عناصر الخطبة
1/توبة آدم عليه السلام 2/ملازمة النبي عليه الصلاة والسلام للاستغفار 3/شدة فرح الله بتوبة عبده 4/من فضائل التوبة وثمراتها.اقتباس
اعلموا أن القيامَ بواجبِ التوبةِ، محبوبٌ إلى الله -تعالى- محبةً عظيمة، ويفرحُ بها -سبحانه- فرحاً عظيماً، ليس لحاجتِه إلى أعمالِنا وتوبتِنا؛ فالله غنيٌ عنا، ولكن لمحبتِه -سبحانه- للكرمِ؛ فإنه يحب أن يعفوَ ويغفرَ أحب إليه من أنْ ينتقمَ ويؤاخذ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين, ولا عدوانَ إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد :فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخير الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أما بعد: حديثنا اليوم حديثٌ يجبُ أن يكون حديثَ كلِ ساعة؛ إنه حديث التوبة, حديثٌ قديمٌ جديدٌ متجدد, قديمٌ لقدمِ الأمرِ به, فقد أمرَ اللهُ به أبانا أدمَ -عليه السلام- لما عصاه, فلما تابَ؛ تَاب اللهُ عليه وهدَاه, قال الله -تعالى- عنه: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى* فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى* ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)[طه:120-122]، لما خلقَ اللهُ أدمَ وخلقَ له من نفسِه زوجاً، أسكنَه الجنةَ، وطردَ إبليسَ من ملائكَتِهِ، فأتى إبليسُ أبانا أدمَ بصورةِ الناصحِ، وتلطف له في الكلام؛ فاغتر به آدمُ وزوجُه، وأكلا من الشجرة؛ فأُسْقِطَ في أيديهما، وسقطتْ كِسوتُهما، واتضحت معصيتُهما، وبدا لكلِ منهما سوأة الآخر، بعد أن كانا مستورين، وجعلا يخصفان على أنفسهما من وَرَقِ أشجارِ الجنة؛ ليستترا بذلك، وأصابهما من الخجل ما الله به عليم.
(وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[طه: 121]؛ فبادرا إلى التوبة والإنابة، و(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف: 23]؛ فاجتباه ربه، واختاره، ويسر له التوبة؛ (فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)[طه: 122], فكان بعد التوبة أحسنُ منه قبلَها، ورجع كيدُ العدوِ عليه، وبطلَ مكرُه؛ فتمت النعمةُ عليه وعلى ذريته، ووجب عليهم القيامَ بها والاعترافَ بها، وأن يكونوا على حذر من هذا العدو المرابط الملازم لهم ليلا ونهارا, (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: 27].
أيها الأحبة: نعم حديث التوبة حديثٌ قديم جديد متجدد؛ فلقد كانَ حديثُ رَسُولِنا -عليه الصلاة والسلام- المتجددِ وديدنُهُ الذي لا ينفك عنه، ومع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فقد كان يَقُولُ عَنْ نَفسِهِ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً"(رواه البخاري عَنْ أَبُي هُرَيْرَةَ -رَضيَ اللهُ عَنهُ-).
وكَانَ الصحَابَةُ يُعَدُّونَ لِرَسُولِ اللَّهِ -عليه الصلاة والسلام- فِي المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَة مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ"(رواه الترمذي وصححه الألباني عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عَنهُما-).
أحبتي: أَولَى العباد بالاجتهاد في العبادة الأنبياء -عليهم السلام-؛ لما حبَاهم اللهُ به من معرفته, فهم دائبون في شُكرِ ربهم, مُعترفُون لَهُ بالتَقصيرِ, لا يُدِلْونَ عليه بالأعمالِ، مُسْتَكِينُونَ خَاشِعُونَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: "أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ" مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -عليه الصلاة والسلام-"(رواه ابن حبان, وقال الألباني: صحيح لغيره).
الله أكبر! هذا لَهَجُهُ -عليه الصلاة والسلام- بالتوبةِ والاستغفارِ, مع أنَّ الله -تعالى- قد قال له: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)[الفتح:1-2], أما كثيرٌ من المؤمنين فيناديهم ربهم بالنداء المحبب إليهم ويقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[التحريم: 8], ومع ذلك لا يستجيب لهذا النداء إلا من رحم ربي، وكثير منا مقصر فيه, نسأل الله -تعالى- أن يتوبَ علينا ويغفرَ لنا.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانيـة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أيها الإخوة: اعلموا أن القيامَ بواجبِ التوبةِ، محبوبٌ إلى الله -تعالى- محبةً عظيمة، ويفرحُ بها -سبحانه- فرحاً عظيماً، ليس لحاجتِه إلى أعمالِنا وتوبتِنا؛ فالله غنيٌ عنا، ولكن لمحبتِه -سبحانه- للكرمِ؛ فإنه يحب أن يعفوَ ويغفرَ أحب إليه من أنْ ينتقمَ ويؤاخذ, في الصحيحِ قَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ أَيْ الرَجُلُ: أرْجِعُ إلَى مَكَانِيِ الَذِي كُنْتُ فيهِ فَأَنَامُ حَتَى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ فَنَامَ نَوْمَةً لِيَمُوُتَ فاسْتَيقَظَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ، عَلَيهَا زَادُهُ وَشَرابُهُ، فاللّهُ أَشَدُّ فَرَحَاً بِتَوبَةِ العَبدِ المؤمنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وزَادِهِ"(رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه-), وفي رواية لمسلم: قَالَ رَسُولُ اللهِ -عليه الصلاة والسلام-: "فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ".
أحبتي: ألا نتأمل هذه الصورةَ العجيبةَ! ثم نسعى إلى محبوبِ ربِنا وسببِ فرحِه, وها هو باب التوبة مفتوح على مدار الساعة لا يغلق لقاصد مهما كان تقصيره فهَلاَّ ولجنا, قَالَ عَنْه النَّبِيُّ -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ, لَا يُغْلَقُ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ"(رواه الترمذي وصححه الألباني)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلَاثًا؛ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ، وَإِنْ كَانَ فَارًّا مِنَ الزَّحْفِ"(رواه الحاكم, وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وصححه الألباني عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
واعلموا إنَّ التوبةَ والندمَ والاستغفارَ مع قصدِ التضرعِ إلى الله والاعترافِ بالتقصيرِ في حقِهِ، والاستكانةِ بين يديه، والاعتذارِ منه بصدقٍ، وتكرارِ ذلك فيه خيرٌ عظيم، قد غفل عنه كثير منا؛ كما قال أصدق القائلين: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)[هود:3]؛ أي: يعطيكم من رزقه، ما تتمتعون به وتنتفعون، ويعطي أهلَ الإحسان والبر من فضله وبره، ما هو جزاءٌ لإحسانِهم، من حصولِ ما يحبون، ودفعِ ما يكرهون.
والتوبةُ سببٌ لكثرةِ الأمطارِ التي تَخْصُبُ بها الأرضُ، ويكثُرُ خيرُها، وفيها زيادةٌ للقوة, قال الله -تعالى-: (وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)[هود:52].
ما أحوجنا للاستغفارِ والتوبةِ في كلِ وقتٍ، وفي هذا الزمان بخاصة؛ حتى يرفع ربُنا عنا هذا البلاءَ والوباءَ, ويُنزلَ النعمَ والبركات.
وصلوا وسلموا -يا خيارُ- على البشير النذير, والسراج المنير، نبينا محمد, صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات