اقتباس
المتأمِّل لما يجرى على الساحة الثقافية من نقاش وحوار يرى عجبًا، فهناك حالة من الصراخ والضجيج، يصاحبها نزعة قوية إلى الاستبداد بالرأى وفرضه على الآخرين، وعدم الاعتداد بآرائهم، وتلاشت سعة الصدر وحسن الظن ورحابة الأفق من المناقشة، بل لقد وصل الأمر إلى حدَّ أن البعض يعُدُّ اختلاف الآخرين معه فى الرأى نوعًا من العدوان عليه أو التجريح لشخصه.
ومردُّ هذه النزعة التسلطية إلى أمور:
• أولها: عدم الالتقاء والاجتماع على ثوابت راسخة، فلقد أصبحنا فى مهب رياح عاتية تكاد تأتى على كل شئٍ: رياح من الشرق والغرب، وسماوات مفتوحة، وغزو فكرى وثقافى رهيب تُعزِّزه روح الانهزام والانكسار، وكأنَّنا شجر بلا جذور، وأمَّة بلا تاريخ ! وبدون الالتقاء على ثوابت راسخة سنزداد تشتتًا.
• وثانيها: افتقاد الوعى بضرورة التعددية وأهمية الاختلاف فى الرأى لإثراء الفكر وتعميقه؛ فإن كل زاوية من النظر تُمَثِّل إضافة، وإن الأفكار لا تنضج ولا تستقر إلَّا بالنظر إليها من جميع الوجوه، فكل رأى يمثل إضاءة لنقطة مظلمة، وبتكامل الآراء (المختلفة) تتبلور الفكرة وتأخذ نصيبها من النضج والقوَّة والاستقرار.
وعدم الوعى بهذه البديهية جهلٌ بطبيعة الفكر ذاته فحركة الفكر فى علاقة جدلية مع الواقع الاجتماعى المتجدَّد فى كل لحظة.
• وثالثها: أن قلوبنا غافلة عن ابتغاء الحق؛ لهذا لم تَلْتَقِ حتى على الأمور البديهية.
إن الحرص على الحقيقة هو الباب المُوَصَّل إليها، فالحكمة ضالَّةُ المؤمن أنَّى وجدها فهو أحقُّ بها .. والله –عزوجل- هو الحقُّ، ولا سبيل إلى الحقِّ إذا أعجب كل مِنَّا برأيه ضاربًا عرض الحائط بآراء غيره، واتَّبَعَ كل منا هواه.
ولقد شهدت هذه الأمة لحظات مجيدة من التفوق الحضارىِّ والرقى الإنسانى حينما سمحت للعقول أن تنطلق بحرية فى سماوات الفكر والتأمل، وكان أعظم رجال هذه الأمة يستمعون إلى الآخرين ويأخذون بآرائهم، فهذا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يقول: أصابت امرأة وأخطأ عمر، ولا يخجل من التصريح بهذا علانية .. وكان الإمام الشافعى – رحمه الله – يستمع إلى آراء الآخرين ويأخذ بها إن وافقت الحق، حتى وإن كانت هذه الآراء مناقضة لرأيه وفى ذلك يقول الإمام الشافعى: ما حاورت أحدًا إلا رغبت أن يظهر الحقُّ على لسانه.
فليس المهم الانتصار للرأى، بل الوصول إلى الحق، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبَع.
وكثيرًا ما تحوَّل عظماء الفقهاء والمفكرين عن آراء كانت لهم لأنهم التمسوا عند غيرهم حُججًا وبراهين أقوى من تلك التى أسَّسوا عليها آراءهم ومذاهبهم، هكذا كان العلماء الأجلاء من السلف الصالح، لقد غرس القرآن الكريم فى نفوسهم رحابة الأفق، وعلَّمهم سعة الصدر والاستماع للآخرين وإنصافهم، وحسبنا فى هذا المقام أن نذكر قول الله –عزوجل- فى خطاب المشركين: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سبأ:24].
إن كل البراهين تقطع بأن المؤمنين على هدى، وأن المشركين فى ضلال مبين. لكنه المنطق العلمى فى المناقشة والإقتاع، وعدم التعالى، إن التواضع سمة من سمات العلماء والمفكرين، فالعالَم وأحداثه أكبر من أن يدركه عقل فرد؛ ومن هنا كانت ضرورة التواضع وعدم التعصب أو التعالى، فللآخرين عقولٌ وآراء، والاستبداد بالرأى حرمانٌ وخذلان وقصور.
إن إعجاب كل ذى رأى برأيه بابٌ إلى الهاوية، هاوية الضحالة والسطحية والضعف والانهزام أمام الرياح العاتية التى تريد أن تقتلعنا من جذورنا .. ولن تهدأ هذه العواصف قبل أن تلتقى قلوبنا، وتتفتح عقولنا، وندرك أن الاختلاف فى الرأى ليس عدوانًا علينا، بل هو إضاءة وتعميق لآرائنا وأفكارنا.
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيما أخرجه أبو داود عن أبى أمية الشعباني قال: "سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَّ إذ اهتديتم " قال: أما و الله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ائتمروا بالمعروف، و تناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا و هوى متبعاً و دنيا مؤثرةً و إعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله قال: يا رسول الله، أجر خمسين رجلاً منهم ؟ قال: أجر خمسين منكم".
وما يعقلها إلا العالمون ....وما يذكر إلا أولوا الألباب....فاعتبروا يا أولى الأبصار.!!
التعليقات