عناصر الخطبة
1/ ولادة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ شبابه صلى الله عليه وسلم 3/ النبي القدوة 4/ علو صفاته وحسن سماته وأخلاقه صلى الله عليه وسلماهداف الخطبة
اقتباس
إنَنَا حينما نستلهمُ الحديثَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإنَنَا لا يمكن أن نُوفِّيهِ بعضَ حقهِ، وإنَّما هي إطلالة سريعة، وإشارةٌ موجزة، إلى شيءٍ من سِماتِهِ التي جعلت أفئدةَ الناسِ تهوي إليه، وشيءٍ من صفاته التي جذبت نفوسَ الخلق إليهِ.. لقد رأى الصحابة رأيَّ العينِ كلَّ فضائلهِ ومزاياه، رأوا طُهرِهِ وعفتهِ، رأوا أمانته واستقامتهِ، رأوا شجاعته وبسالته، رَأوا سُمُوه وحنانه ..
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة في الدارين، وبعث فينا رسولاً منا، يتلو علينا آياته ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تكون لمن اعتصم بها خيرَ عصمة، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أرسله الله للعالمين رحمة، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد: في زمنٍ اختل فيه ميزان الاقتداء، واضطرب فيه منهاج الائتساء .. عن أيّ قدوةٍ سأتحدث؟ وعن أي إنسانٍ سأتكلم؟
إننا اليوم، نتحدث عن تلك الروح الزكية التي مُلئت عظمةً وأمانةً وسمواً .. وعن تلك النفس الأبية التي مُلئت عفةً وكرامةً ونبلاً .
ماذا أقول وألفَ ألفَ قصيدةٍ *** عصماءَ قبلي سطرت أقلامُ
مدحوك ما بلغوا برغم ولائهم *** أسوارَ مجدك فالدنوُّ لمامُ
إنَّهُ محمد بنُ عبد اللهِ صلى الله عليه وسلم، رسولُ اللهِ إلى العالمين، وحجتُه على الخلق أجمعين .
محمد، الذي اختاره الله جل جلاله لحملِ رايتهِ، والتحدثِ باسمهِ، وجعله خاتمَ رسلهِ، وأثنى عليه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .
أيُّها الأحبةُ: إنَنَا حينما نستلهمُ الحديثَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإنَنَا لا يمكن أن نُوفِّيهِ بعضَ حقهِ، وإنَّما هي إطلالة سريعة، وإشارةٌ موجزة، إلى شيءٍ من سِماتِهِ التي جعلت أفئدةَ الناسِ تهوي إليه، وشيءٍ من صفاته التي جذبت نفوسَ الخلق إليهِ .
لقد رأى الصحابة رأيَّ العينِ كلَّ فضائلهِ ومزاياه، رأوا طُهرِهِ وعفتهِ، رأوا أمانته واستقامتهِ، رأوا شجاعته وبسالته، رَأوا سُمُوه وحنانه .
بل رأى كلَّ هذا أهل مكة، الذين عاصروا ولادته وطفولته، بما انطوت عليهِ من رجولةٍ مبكرةٍ .
لقد كانت قريشٌ تتحدثُ عمَّا أنبأتهم بهِ، وأذاعتهُ بينهم مرضعتهُ حليمة، حينَ عادت بهِ إلى أهلهِ .
لقد كانت حليمة تدرك أن هذا الطفلَ غيرُ عادي، وأنَّهُ ينطوي على سرٍّ يعلمهُ الله، وقد تكشفهُ الأيام .
ما إن أخذت حليمةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، حتى دَرَّ ثديها اللبن، فارتوى منهُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم وابنُها الذي كانَ يبكي من الجوعِ لجفافِ ثدي أمِّه، ثم امتلأ ضرعُ راحلتها باللبنِ بعد أن كانَ يابساً، فشبعت هي وزوجها .. ثم أصبحت الراحلة نشيطةً قوية، ولما وصلت ديارها أخصبت الأرض وأربعت، فلا تحل أغنامُ حليمةَ إلا وتجدُ مرعاً خصبا، فتشبعُ أغنامها، حين تجوع أغنام قومها .
وعاش طفولته صلى الله عليه وسلم في بني سعد، وكان ينمُو نمواً سريعاً لا يُشبهُ نمُوَّ الغلمان .
وأما شبابُهُ صلى الله عليه وسلم فيا لطهرِ الشباب .. وعندما حجَّ أكثمُ بن صيفي -حكيمُ العرب- ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهُو في سنِّ الاحتلام، قال لعمِّه أبي طالب: ما تظنُونُ به ؟ قال: نحسنُ بهِ الظن، وإنَّهُ لوفيٌّ سخي .. قال: هل غيرَ هذا ؟ قال: نعم، إنَّهُ لذوُ شدةٍ ولينٍ، ومجلسٍ ركين، وفضلٍ متين .. قال: فهل غيرَ هذا؟ قال: إنَّا لنتيمّنُ بمشهدهِ، ونتعرّفُ البركةَ فيما لَمَسهُ بيده .
وأمَّا رجُولَتهُ فقد كانت ملءَ كلِّ عينٍ وأذنٍ وقلب .. لقد كانت رجولته مقياساً لقومه ..يقيسون بأخلاقه وتصرفاته كلَّ رُؤاهم عن الحقِّ والخير والجمال، فهَاهُم ذا على وشكِ أن يقتتِلُوا في من يضعُ الحجرَ الأسودِ في مكانه، وأخيراً ألهَمهُم اللهُ تعالى إلى تحكيمِ أوَّلُ من يُقبلُ من بابِ الصفا، وما زالوا كذلك حتى أقبلَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فما أن رَأوهُ حتى قالوا: هذا محمدٌ الأمين، رضينا به حكماً .
كانت حياته صلى الله عليه وسلم نقاءً وصدقاً، وعفافاً وطهراً، لم يُجَرِّبوا عليه كذباً ؟ لم يظلم إنساناً؟ لم يخُن صديقاً ولا عدواًً؟ لم يكشف عورة؟ لم يخفر ذمة؟ لم يقطع رحماً؟ لم يتخل عن مروءة؟ لم يشتم أحداً؟ لم يشرب خمراً؟ لم يستقبل صنماً؟
شخصية فريدة .. جعلت سادةَ قومهِ يُسارِعُون إلى الاستجابة لدعوته، كأبي بكرٍ وطلحةَ والزبير وعُثمانَ وغيرِهم، تاركين وراءهم كلَّ مجدٍ وجاه، مستقبلينَ حياةً تمورُ بالأعباءِ وبالصعابِ .
شخصية فريدة .. جعلت ضعفاءَ قومهِ يلوذُونَ بحماه، ويَهرَعُونَ إلى رايتهِ ودَعوتهِ، وهم يُبصرُونَهُ أعزلَ من المالِ ومن السلاح، يَنزلُ بهِ الأذى، ويُطارِدُهُ الشرُ، دُونَ أن يملكَ لهُ دفعاً .
إنها القدوة، التي جعلت أتباعه يزيدُونَ ولا ينقُصُون، وهُو الذي يهتفُ فيهم صباحَ مساء، لا أملكُ لكم نفعاً ولا ضراً، ولا أدرِي ما يُفعلُ بي ولا بكم .
إنها القدوة، التي تملأ القلوب يقيناً وعزماً .
لو أطلق الكونُ الفسيح ُلسانَه *** لسرتْ إليك بمدحه الأشعارُ
لو قيل : مَنْ خيرُ العبادِ،لرَدَّدتْ *** أصواتُ مَنْ سمعوا : هو المختارُ
لِمَ لا تكون؟ وأنتَ أفضلُ مرسلٍ*** وأعزُّ من رسموا الطريق وساروا
ما أنت إلا الشمسُ يملأ نورُها *** آفاقَنا، مهما أُثيرَ غبارُ
لقد كان الصحابة يرونه بينهم صاحب رسالةٍ سامية، لم يكن ليسعى إلى جاهٍ ولا مالٍ ولا سيادة .
لقد كانوا يرونه أواباً منيباً حتى اللحظةَ الأخيرةِ من حياته .. لا يكادُ النصفُ الأخيرُ من الليلِ يبدأُ، حتى ينتفضَ قائماً، فيتوضأَ ويُناجيَ ربَّهُ فتتورم قدماهُ وهُو يصلي، ويبكي وهو يُصلي .
لقد كانوا يرونه صلى الله عليه وسلم سيداً للمتواضعين، وإماماً للعافين.
لقد دانتِ البلادُ كُلَّها لدعوتهِ، ووقفَ أكثرَ ملوكِ الأرضِ أمامَ رسائِلِهِ التي دَعاهم بها إلى الإسلام، وجِلِينَ ضارعين، فما استطاعت ذرةٌ من زُهوٍ وكبرٍ أن تمرَّ بهِ ولو على بعدِ فراسخ، بل كانَ يمشي صلى الله عليه وسلم مع الأرملةِ والمسكينِ والعبد، حتى يقضي حاجته .
وحينَ رأى بعضُ القَادِمين عليهِ يَهابُونُهُ في اضطرابٍ ووجل، قال لأحدهم: "هَوِّن عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكلُ القَدِيدَ بمكة".
لقد ألقى كل أعداءِ دينهِ السلاح، ومدُّوا إليهِ أعناقهم ليحكمَ فيها بما يرى، ومعه عشرةُ آلافِ سيفٍ تتوهجُ يومَ الفتحِ فوق رُبى مكةَ، فلم يزد على أن قالَ لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".!
بل كان من تواضعه، أنه حرم نفسه رؤيةِ النصرِ الذي أفنى في سبيلهِ حياتَهُ .. فقد سارَ صلى الله عليه وسلم في موكبِ النصر يومَ الفتح، مطأطئاً رأسهُ، حتى تعذرَ على الناسِ رُؤيةُ وجهه الأزهر، مُردداً بينهُ وبينَ نفسهُ ابتهالاتِ الشُّكرِ المبللةِ بالدموع، في حياءٍ وتواضعٍ لربِّهِ العليِّ الكبير، حتى وصلَ الكعبة، وأعمل في الأصنامَ معولَه، وهُو يقولُ: (جاءَ الحقٌّ وزهقَ الباطل إنَّ الباطلَ كان زهُوقا ) .
لقد كان صلى الله عليه وسلم قائداً فذاً، وعابداً منيباً، وأباً عطوفاً، وزوجاً ودوداً لطيفاً، وصديقاً حميماً، وقريباً كريماً، وجاراً تشغله هموم جيرانه، وحاكماً تملأ نفسَه مشاعرُ محكوميه، ومع هذا كله فهو قائم على أعظم دعوة في التاريخ .
صلى الله عليك يا رسول الله، صلاةً دائمةً ما تعاقب الليل والنهار .. ونسألُ الله جلَّ جلالهُ أن يجعلنا من أنصارِ دينهِ، وحُماةِ عقيدتهِ وحُرَّاسِ ملته .. إنه على كل شيء قدير .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ معزِّ من أطاعهُ واتقاه، ومذلِّ من عصاهُ واتبع هواه، أحمُدُهُ سُبحانهُ وأشكره، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهَ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ- صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ- تسليماً كثيراً، أمَّا بعد .
عباد الله: لقد رأى الصحابة الصفاتِ العظيمة، والأخلاقَ الكريمة، متمثلة في شخصه صلى الله عليه وسلم قبل نصه، وفي سيرته قبل كلمته .. لم يقرؤوا هذه الصفات والأخلاق في كتاب جامد، بل رأوها في بشر متحرك، فتحركت لها مشاعرهم، وقبلتها نفوسهم، فكان صلى الله عليه وسلم أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل .
بالله عليكم، هل رأت الدنيا قائداً أعظم وأرحم من محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل رأت الدنيا زوجاً ألطف من محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل رأت الدنيا صديقاً أوفى من محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل رأت الدنيا حاكماً أعدل من محمد صلى الله عليه وسلم؟ .
كيف وقد رآه الناس في الأيام الأخيرة من حياته، وهو يصعدُ المنبرَ ويقول: "من كنتُ جلدتُ لهُ ظهراً فهذا ظهري فليستقدْ منه، ومن كنتُ أخذتُ لهُ مالاً فهذا مالي فليأخذ منهُ" .
يقول هذا، وهو الذي مات صلى الله عليه وسلم حتى حطمه الناس .. يقول هذا وهو الذي يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .. يقول هذا وهو الزاهد في الدنيا، الذي مات صلى الله عليه وسلم ودرعهُ مرهونة عند يهودي.
وحتى آخر رمق من حياته، كان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، رحيماً بأصحاباً، حريصاً على أمته .. فقد كان صلى الله عليه وسلم يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويعالج شدة آلم الموت وسكرته، ومع هذا لم ينس أمته، لم ينس أن يوصيَها بما ينْجيها من عقوبة الله، فيقول: "الصلاة الصلاة وماملكت أيمانكم" .
عباد الله: إنَّ في سيرةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بكلِّ ما فيها من مواقفَ ووقائع، محلاً للتَّأملِ والتدبر، تأملاً يُحرِكُ القلوبَ، ويستثيرُ الهمم، ويقودُ إلى العملِ، وتدبراً يزيدُ في الإيمانِ، ويزكِّي القلوبَ، ويقُوِّمُ المسيرة .
إنه القدوة صلى الله عليه وسلم، فقل لي -أيها الأخ الشاب- .. وقل لي -أيها الابن الناشئ- .. من هو قدوتك في الحياة؟ .
هل قدوتُك ومثلُك، ومحلُ إعجابِك وتأسيك، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم أن قدوتَك هو الفنان الفلاني، أو المطرب أوالممثل الفلاني، أو اللاعب الكافر الفلاني؟
كيف يليق بالمسلم أن يجعل قدوته من يُسَمُونَ نجوماً وهم إلى الثرى أقرب .. ثم لا يقتدي ولا يتأسّى بأعظم إنسان، بل هو نجم النجوم صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة الحسنة والمنبع العذب، الذي تُستقى منهُ معالي الأمور .
كيف يسوغُ للعاقل أن يرى هذه القدوة الحسنة، والشخصية الفذة في شخص محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لا يحذُو حذوه، ويسيرُ خلفه، ويقتدي بهديه؟ ويكونُ من حملةِ رسالتهِ، وحُماةِ دينهِ؟ .. وصدق الله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) .
اللهم إنا نشهد بأننا نحبك ونحب نبيك صلى الله عليه وسلم، فاللهم ارزقنا اتباعه، والتأسي به، والاقتداء بهديه .. الله لا تحرمنا شفاعته يوم العرض عليك، اللهم اجعلنا من زُمرته، واجعلنا من أنصار دينه، الداعين إلى سنته، المتسكين بشرعه .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...
التعليقات