عناصر الخطبة
1/تفسير سورة المسداقتباس
(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ): أَيْ خَسِرَتْ يَدَا أَبِي لَهَب، وَخَسِرَ هُوَ أَيْضًا. فَالأَوَّلُ: دَعَاء، والثَّاني: خَبَر. والتَّبَاب: هُوَ الخَسَارُ والهَلَاك والخَيْبَة...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْد: فأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالعَلَن؛ فَالتَّقْوَى هِيَ الزَّادُ وَالعَتَاد، لِيَوْمِ التَّنَادِ والمَعَاد! (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [الْبَقَرَةِ: 197].
عِبَادَ الله: إِنَّهَا الشَّهَادَةُ الخَالِدَة، والفَضِيْحَةُ الدَّائِمَة، لِأُسْرَةٍ بَائِسَة، اجْتَمَعَتْ عَلَى عَدَاوَةِ الدِّين، وَإِيْذَاءِ سَيِّدِ المُرْسَلِيْن؛ إِنَّهَا سُوْرَةُ المَسَد!
وَهَذِهِ السُّورَةُ؛ نَزَلَتْ فِي أَبِي لَهَبٍ، وَاسْمُهُ: عَبْدُ العُزَّى بن عَبْدِ المُطَّلِب. وَكنِّيَ بأَبِيْ لَهَب: لِحُسْنِهِ، وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ! وَهُوَ عَمُّ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَعَ ذَلِكَ: كانَ شَدِيْدَ الأَذِيَّة، لِسَيِّدِ البَشَرِيَّة، فَلَا دِيْنَ وَلَا حَمِيَّة.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّوْرَة: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا جَمَعَ أَقَارِبَهُ لِدَعْوَتِهِمْ؛ قالَ لَهُمْ: "إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"؛ فقَالَ أَبُو لَهَبٍ: "تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟"(رواه البخاري ومسلم)؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ): وَهَذَا دُعَاءٌ وَتَقْرِيعٌ لِأَبِي لَهَبٍ، دَافَعَ اللَّهُ بِهِ عَن نَبِيِّه، بِمِثْلِ اللَّفْظِ الَّذِي شَتَمَ بِهِ أَبُو لَهَبٍ: جَزَاءً وِفَاقًا.
(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ): أَيْ خَسِرَتْ يَدَا أَبِي لَهَب، وَخَسِرَ هُوَ أَيْضًا. فَالأَوَّلُ: دَعَاء، والثَّاني: خَبَر. والتَّبَاب: هُوَ الخَسَارُ والهَلَاك والخَيْبَة!
وَنَصَّ اللهُ عَلَى اليَدَيْنِ بِالخَسَارَة؛ لِأَنَّهُمَا آلَةُ العَمَلِ والحَرَكَة، والأَخْذِ والعَطَاء، قالَ المُفَسِّرُوْن: "(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ): أيْ خَسِرَ وخَاب، وَضَلَّ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ. (وَتَبَّ): أَيْ تَحَقَّقَتْ خَسَارَتُه، وَخَصَّ الْيَدَيْنِ بِالتَّبَابِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِهِمَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ: نَفْسُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج: 10]".
(مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب): أَيْ أَنَّ كُلَّ مَا كَسَبَهُ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، وشَرَفٍ وَجَاهٍ؛ لا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ الإِيْمَانَ بِالله، وَالاِتِّبَاعَ لِرَسُوْلِ الله.
(سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ): أَيْ سَتُحِيْطُ بِهِ النَّارُ مِنْ كُلِّ جَانِب، وَيُشْوَى بِنَارٍ ذَاتِ اشْتِعَالٍ وَتَلَهُّبٍ وَإِحْرَاقٍ شَدِيدٍ.
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): وَامْرَأَةُ أَبِي لَهَب: هِيَ "أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ"، وَهِيَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْش؛ لَكِنْ لُمْ يُغْنِ عَنْهَا شَرَفُهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا شَارَكَتْ زَوْجَهَا في الإِثْمِ والعُدْوَان، وَأَذِيَّةِ خَلِيْلِ الرَّحْمَن! فَقَدْ كَانَتْ تَجِيءُ بِالشَّوْكِ؛ فَتَطْرَحُهُ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
وَمِنْ أَفْعَالِهَا القَبِيْحَة: أَنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيْمَة، فَتُشْعِلُ نَارَ العَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاس، كَمَا تُوْقَدُ النَّارُ بِالحَطَب! وكَانَتْ مُؤْذِيَةً لِرَسُوْلِ اللهِ وأَصْحَابِهِ بِلِسَانِهَا، قالَ بَعْضُ السَّلَف: "إِيَّاكُمْ وَالنَّمِيمَةَ! فَإِنَّهَا نَارٌ مُحْرِقَةٌ! وَإِنَّ النَّمَّامَ لَيَعْمَلُ في ساعَةٍ، مَالا يَعْمَلُ السَّاحِرُ فِي شَهْرٍ! وَهَلْ تُسْفَكُ الدِّمَاءُ، وَتُنْتَهَبُ الْأَمْوَالُ، وَتُهَيَّجُ الْأُمُورُ الْعِظَامُ، إِلَّا مِنْ أَجْلِ النَّمِيمَةِ!".
وَهَذِهِ الأَفْعَالُ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ امْرَأَةِ أَبِي لَهَب؛ تَجْمَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنَ الأَوْزَارِ الثَّقِيْلَة، بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَجْمَعُ حَطَبًا؛ فَهِيَ "حَمَّالَةُ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ!"؛ كما قَالَ تَعَالَى: (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)[الأنعام: 31].
وَالجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَل: فَإِنَّ امْرَأَةَ أَبِي لَهَب، لِمَّا كانَتْ عَوْنًا لِزَوْجِهَا عَلَى الشرِّ في الدُّنْيا؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ عَوْنًا عَلَيْهِ فِي عَذَابِهِ فِي جَهَنَّمَ، فتَحْمِلُ الْحَطَبَ، وتُلْقِيْهِ عَلَى زَوْجِهَا؛ لِيَزْدَادَ عَذابًا وَحَسْرَة، قال ابْنُ عَاشُوْر: "وَذَلِكَ خِزْيٌ لَهَا وَلِزَوْجِهَا؛ إِذْ جَعَلَ شِدَّةَ عَذَابِهِ: عَلَى يَدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ! وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِعَذَابِ أَعَزِّ النَّاسِ عَلَيْهَا! جَزَاءً مُمَاثِلًا لِعَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا".
(في جِيْدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أَيْ في عُنُقِهَا حَبْلٌ مِنْ لِيْفٍ: وهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي كَانَتْ تَرْبِطُ بِهِ الشَّوْكَ والحَطَب. وفي الآية إِشَارَةٌ إِلَى خِذْلانِ تِلْكَ المَرْأَة! فَهِيَ مَرْبُوطَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ، بِمَا سَبَقَ لَهَا مِنَ الشَّقَاءِ: كَالْمَرْبُوطِ بِالحَبْلِ فِي عُنُقِه.
وَقَدْ تَوَعَّدَهَا اللهُ في الآخِرَةِ: بِحَبْلٍ مِنْ نَارٍ، قال ابْنُ عَبَّاس: "سِلْسِلَةٌ مِنْ حَدِيْد في جَهَنَّم: ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا، تَدْخُلُ فِي فِيهَا، وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهَا، وَيَكُونُ سَائِرُهَا فِي عُنُقِهَا!".
وَهَذِهِ الْحَالَةُ الْفَظِيعَةُ: الَّتِي عُوِّضَتْ فِيْهَا امْرَأَةُ أَبِي لَهَب، بِحَبْلٍ مِنَ النَّارِ فِي عُنُقِهَا، عَنِ الْعِقْدِ الَّذِي كَانَتْ تَتَحَلِّي بِهِ فِي الدُّنْيَا! فقد كَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ والسّيَادَة، وَلَكِنْ مَنْ فَقَدَ الله؛ أَفْلَسَ مِنْ كُلِّ شَيء!
وَفِي سُوْرَةِ المَسَد: آيَةٌ بَاهِرَةٌ، ومُعْجِزَةٌ قَاهِرَة؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ هَذِهِ السُّوْرَة، وَأَبُوْ لَهَبٍ وَامْرَأَتُه؛ مَازَالا على قَيْدِ الحَيَاة، وأَخْبَرَ أَنَّهُمَا سَيُعَذَّبَانِ في النَّارِ وَلا بُدّ، وَمِنْ لازِمِ ذَلِك: أَنَّهُمَا لَنْ يُسْلِمَا؛ فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَة! فَكَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى الأَدِلَّةِ البَاهِرَةِ على النُّبُوَّةِ الظَّاهِرَة (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْأَنْعَامِ: 115].
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
عِبَادَ الله: مِنْ فَوَائِدِ سُوْرَةِ المَسَد: أَنَّ المالَ والجَمَال، والحَسَبَ والنَّسَب؛ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ في الآخِرَة، إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالحًا!
لَعَمْرُكَ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا بِدِينِهِ *** فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبِ
لَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ *** وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبِ!
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا.
عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].
فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].
التعليقات